السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا فتاة أبلغ من العمر 24 سنة، نشيطة ومتفوقة دراسيًا أشغل وقتي بالقراءة والأنشطة، ولكن منذ ما يقرب من الشهر بدأت أفكار غريبة تراودني لم تكن تخطر ببالي من قبل.
فبمجرد أن أضع رأسي على الوسادة تبدأ التساؤلات بالزواج وبناء الأسرة، أحاول الهروب من هذه الأفكار بالعمل الشاق حتى لا يتسنى لي التفكير والحلم والتحليق في عالم الخيال؛ لكن دون جدوى، حتى لو كنت منهكة تراودني الأفكار، بل هي الآن تمتد لتشغلني عن الدراسة، وأكثر ما أحلم به وأتخيله هو كيف سأعاشر زوجي؟
والكثير من الأحلام والتساؤلات، فما الحل؟؟
جزاكم الله خيرًا
11/9/2024
رد المستشار
أختي العزيزة: أرى أنني ينبغي أن أشكرك مرتين:
الأولى: لأنك تفتحين بسؤالك موضوعًا هامًا ورئيسيًا، ربما تسكت عنه الفتيات ويفضلن "المعاناة الصامتة"، وأنت تطرحين مشكلتك بحكمة وبراءة.. جزاك الله خيراً.
والثانية: لأنك أشرت في ثنايا كلامك إلى نقطة تتعلق بشكل ومضمون الرسالة التي حاولت توصيلها إلى السائلين والسائلات قبلك حول "التعامل مع الغريزة والشهوة الجنسية" في مرحلة ما قبل الزواج.
فأنت تقولين "أشغل وقتي بالقراءة والأنشطة"، وفي موضع آخر "أحاول الهروب من هذه الأفكار بالعمل الشاق"، فقلت لعلي وضعت الرسالة الخطأ في إجاباتي السابقة!!
وأياً كان الوضع.. دعينا نستعرض معالم هذه المسألة بمنهاج أدق:
1- الغريزة الجنسية هي طاقة وضعها الله -سبحانه- في النفس لتدفع الإنسان إلى طلب النكاح الذي جعله الله سبيلاً عظيمًا لحصول المتعة واللذة المادية والروحية، ومن حكمته سبحانه أنه نظم لنا كيف نقضي هذه الشهوة، ونحصل على هذه المتعة بالشكل الذي يؤدي إلى استمرار النوع الإنساني، وعمارة الكون في إطار نظام اجتماعي غاية في التركيب والإحكام، ألا وهو "نظام الأسرة".
2- في مرحلة المراهقة والشباب تحدث تغيرات بيولوجية ونفسية يكون من آثارها أن يحتل موضوع الجنس وممارسته أولوية متقدمة في التفكير البشري؛ لأن الله –سبحانه- جعل الإنسان قادرًا على ذلك بداية من البلوغ، وحتى سن متقدمة تتفاوت من إنسان إلى آخر.
3- ولذلك فإن اهتمام المراهق والشاب "ذكرًا أو أنثى" بهذا الأمر وتفكيره فيه هو أمر فطري طبيعي، ليس انحرافًا، ولا عيبًا، ولا "أفكارًا غريبة" تستدعي المقاومة أو العلاج، بل نتساءل عن الشاب الذي أو الفتاة التي لا تفكر في هذه الأمور: هل هو أو هي يعيشان المرحلة السنية الصحيحة لهما أو أن هناك خلل؟!
4- كيف يمكن التعبير عن هذا الاهتمام الفطري الطبيعي؟ كيف يمكن التجاوب معه واستثماره؟ كيف يمكن تلبية ندائه وإشباعه؟ أتصور أن هذه هي أسئلتنا الصحيحة؛ وليس هدفنا أن نلغي هذا الاهتمام أو نصادر عليه، أو نستنكره، أو نستقذره فكل المحاولات التي لإنجاز هذا أو ذاك هي محاولات فاشلة وغير إنسانية ومخالفة لروح الإسلام وتشريعاته.
5- تبرز في التعامل مع هذه الغريزة وهذا الميل من الشاب نحو الفتيات، ومن الفتاة نحو الرجال أساليب شتى؛ منها التجاهل أو محاولة التجاهل كما تفعلين، ومنها التجاوب بالدخول في علاقة شرعية أو غير شرعية، ومنها الاستمناء، ومنها الدخول في علاقات على الإنترنت –وهي وسيلة جديدة-، ومنها عدم اتخاذ موقف محدد، والبقاء في دائرة الحركة "حسب اتجاه الريح".
6- نحاول في صفحتنا هذه أن نتعامل مع كل أسلوب من هذه الأساليب لنفهمه فهمًا صحيحًا، ونناقش رأي الإسلام -كما نتصوره- فيه، وآثار كل أسلوب من الناحية النفسية والاجتماعية، بل والجسدية إذا لزم الأمر، وينبغي أن تكون هذه المناقشات واضحة لتكون مثمرة، وأن تتفاعلوا معها لتكون فاعلة ودالة ونافعة، وقد طلبت من قبل أن تكتبوا إلينا لتصفوا تجاربكم الواقعية العملية في هذه المسائل، وأنا هنا أكرر وأذكر وأطرح سؤالاً محددًا هذه المرة: كيف يتعامل كل منكم مع غريزته وشهوته الجنسية؟!
7- دون الدخول في تفاصيل –ليس مكانها الإجابة على سؤالك-.. أقول: إن ما تفكرين فيه طبيعي في مثل سنك وظروفك، ولا يمثل علامة مرضية بحال من الأحوال، وإن التجاوب الطبيعي معه هو الزواج الذي هو الوسيلة التي شرعها الله –سبحانه- ورسوله الكريم لنا؛ لتلبية نداء الغريزة، وحاجة الحب والأنس بشريك في رحلة الحياة. وواضح أنك تفهمين هذا حين تقولين: "وأكثر ما أحلم به وأتخيله هو كيف سأعاشر زوجي".
8- تبرز المشكلة حين تكون الفتاة ويكون الشاب في سن الزواج، والغريزة على أشدها، والمغريات والمثيرات ضاغطة، ولكن الزواج غير متاح!! لسبب أو لآخر، وهنا نتفكر، ونتساءل عن الحل؛ ليس لإلغاء الشهوة أو المصادرة عليها، ولكن للتجاوب معها والتعبير عنها حتى يجيء الفرَج من عند الله بالزواج.
9- هناك جانب من المشكلة يبدو اجتماعيًا عامًا، وملامحه واضحة، وآثاره على ما نحن بصدده كبيرة، فهناك عادات وتقاليد، وأعراف وأفهام، وأوضاع وملابسات كثيرة جعلت الفجوة بين ما يريده الله ويتسق مع الفطرة يبدو بعيدًا عن واقع ممارساتنا وأعرافنا، هناك مسافة ليست بالقليلة بين الحرام والحلال الشرعي والخطأ والصواب الاجتماعي من ناحية أخرى، وينتج عن هذا كوارث أعفيك من التذكير بها.
10- إذا جئنا للجانب الفردي الذاتي أعتقد أن عليك، وعلى الآخرين والأخريات ما يلي:
أ- عدم "الهروب من هذه الأفكار"، أو محاولة مصادرتها، أو استقذارها، وفي الوقت نفسه،عدم الوقوع في أسر التمحور حولها، وكأنها كل الحياة وكل التفكير .
ب- استثمار هذه الطاقة والتعبير عنها بالاهتمام بالمظهر بين الأقران، والاهتمام بالجسد كموضوع للرياضة والصحة، وكذا الاهتمام بالجنس بدراسته بشكل علمي من المصادر المعتبرة، وبالتالي تكوين ثقافة جنسية صحيحة وصحية.
جـ- محاولة الابتعاد عن المثيرات، وهذا التوجيه يحتاج إلى بعض التفصيل؛ حيث لا أعني بالابتعاد عن المثيرات أن يغلق الإنسان عينيه وأذنيه ومشاعره، ولكن أن "يعقلن" ما يرى وما يسمع، ويجعل رد فعله على كل المؤثرات المهيجة -إن صادفته- رد فعل معقلن هادئ يغّلب التفكير في علم الجنس على الاندفاع الشعوري ناحية الشوق إلى ممارسته. وما أقوله ممكن مع التدريب الذاتي المستمر، كما أوصينا ونوصي بعدم الذهاب إلى المهيجات وأسبابها بأرجلنا، مع الصوم التطوعي والذِّكر المستمر.
د- إذا حدث التهيج فعلاً بخيال نابع من داخل النفس، أو بصورة أو بكلمة أو حكاية صادفتنا، لا بد أن نتعامل معه كأي انفعال أو توتر (التعامل مع الانفعال).
هـ- توجيهاتنا في موضوع "الاستمناء" واضحة، ومبثوثة في إجاباتنا التي تناولته، وأعتقد أنه يبقى ""آخر الدواء" مع المحاذير الكثيرة التي تكتنفه، وسبق أن حذرنا منها.. إنه يشبه ما قاله أبو نواس في الخمر: (ودواني بالتي كانت هي الداء) فهو داء ودواء على النحو الذي فصلناه أكثر من مرة.
و- أذكر بأن الإنسان ليس جسدًا فقط، وليس شهوة وغريزة فقط، والجنس الرائع اللذيذ الذي نحبه جميعًا ليس هو النشاط الإنساني الوحيد في الحياة، بل هناك آفاق أخرى في الثقافة والفكر، وفي الروح والذهن، وهناك متع كثيرة في الحياة جسديًا وذهنيًا وروحيًا، والشقي من يحرم من هذه الآفاق والمتع، والعاجز من يقبع في مكانه، ولا يتحرك طالبًا لأنوع اللذة جميعًا، ولا يعني كلامي هذا يا أخواتي وإخواني أن نهمش الجنس، أو نقاوم التفكير فيه، أو نصادر الطموح إلى ممارسته، حاشا وكلا.. إنما الأمور ينبغي أن توضع في نصابها، وتأخذ أحجامها الحقيقية، ولا أعتقد أنها كذلك عندنا.
11- المسألة تحتاج إلى توازن دقيق بين احترام هذه الغريزة، والتمحور حولها، وقد كان المسلمون الأوائل خير مثال وقدوة فلم تخجل السيدة خديجة "أم المؤمنين" أن تطلب النكاح فأرسلت امرأة عجوزًا تثق في حكمتها لترغّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نكاحها من طرف خفي، وكان الزواج الذي ظل المصطفى يذكره طوال العمر، وكان الزواج عامة سهلاً وميسورًا، لأن العقول كانت ناضجة، والنفوس كانت واسعة، وإرضاء الله بالحلال كان الهدف الأسمى دون مماحكات أو اعتبارات من عادات فاسدة أو تقاليد شكلية فارغة، ثم كان دور "المرأة" التي تسعى بين البيوت لتوفق -بحكمتها ومعرفتها- بين الرءوس المتناسبة في الحلال، وكانت الأنشطة الاجتماعية والدوائر العائلية والعامة "المناسبة" "مناشط تخرج إليها الفتاة فترى غيرها من الفتيات، ويراها غيرها، ويتعرفن على البيوت والعائلات فيرشحن لأبنائهن أو إخوانهن الفتاة المناسبة، شبكة اجتماعية واسعة كانت تنهض بالعبء فلا تجلس فتاة حتى منتصف وربما نهاية العشرينات، بل والثلاثينات من عمرها دون زواج.. فهل فقدنا هذه كله: الوعي، والتقوى، والشبكة الاجتماعية؟