مشكلتي لا أدري إن كانت غريبة أم لا، فأنا لي صديقة يهودية أمريكية تعرفت عليها عن طريق الصدفة. وقد رغبت في أن أتعلم اللغة العبرية والإنجليزية، وهي شغوفة باللغة العربية كثيرًا. كنا نجلس معًا وقتًا طويلاً، تعلمنا أشياء كثيرة وتطرقنا للتحدث عن أمورنا الخاصة، ويوجد بيننا محبة واحترام.
هي الآن تعمل معلمة في دولة أوروبية، ولكنها دائمة الاتصال بي.
المشكلة هي أنني أرغب كثيرًا بقطع الصلة معها بسبب ما يحدث في فلسطين ولبنان واليمن من قتل ودمار، لكنها عندما تشعر بذلك تبدأ بالبكاء ويظهر على صوتها نبرة حزن.. فهل تشجعونني على قطع علاقتي بها؟
مع العلم أنني أيضا أحبها كثيرًا، لكنني أفعل ذلك تعبيرًا عن تضامني مع أهلي وإخواني.
أرشدوني لو سمحتم.
23/90/2024
رد المستشار
الأخت الكريمة، كم سعدت برسالتك القادمة من أرض فلسطين الحبيبة إلى قلوبنا جميعًا؛ لأن رسائلكم تشعرنا أننا صرنا بالقرب من مسرى حبيبنا وقدوتنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، نشعر أننا نجوب بين ربوع القدس الشريفة، ونصلي في المسجد الأقصى، ونشاهد قبة الصخرة، ونستمع لأجراس كنيسة القيامة، ثم ننتقل إلى بيت لحم لنرى كنيسة المهد التي احتضنت المسيح علية الصلاة والسلام وليدًا، ونسير في الشوارع والطرقات نصافح الأبطال من أطفال وشباب الانتفاضة والطوفان، وتكتحل عيوننا برؤيتهم وهم رمز عزتنا وكرامتنا.
وللأسف فقد وصلتني رسالتك في وقت عصيب من أوقات أمتنا؛ ولذلك آثرت أن أؤجل الرد على تساؤلك حتى تمر هذه اللحظات الأليمة التي عشناها وعاشتها أمتنا الجريحة؛ لأننا في هذه اللحظات قد شغلنا بكشف الحقائق وسبر الأغوار عما في المشاهد المتتالية من زيف وخديعة، وكذلك شغلنا بالعمل على رفع المعنويات بين كل من نلقاه أو نتواصل معه، فأرجو أن تتقبلي اعتذاري ولا تغضبي مني.
والحقيقة أن تساؤلك يطرح قضية على جانب كبير من الأهمية لما شابها من لبس وغموض؛ وهو ما أدى لرسوخ مجموعة من الأساطير التي اعتبرها البعض أمورًا مسلمة ومن الثوابت التي لا تقبل نقاشًا ولا تفاوضًا؛ حيث رسخ في أذهاننا أن كل اليهود أعداء لنا، وأنهم جميعا يتسمون بسمات معينة تجعل التعامل معها أمرا مرفوضا وخيارا غير مطروح، وتسطر الكتب والمقالات عن السمات المميزة للشعب اليهودي، رغم أن اليهود –مثل أتباع أي ديانة- ليسوا شعبا واحدا، ولكنهم عرقيات وجنسيات مختلفة، ورغم أن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قال لنا: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون"، وقال أيضا: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، ونفس مجموعة الأساطير شاعت عن الأمريكان، فكل الأمريكان أعداء لنا ولا بد أن نعاديهم، وصديقتك تجمع بين الأمرين، بين كونها يهودية الديانة وأمريكية الجنسية.
وعندما يعم اللبس والغموض ينبغي أن يكون حكمنا ومرجعيتنا كتاب الله وسنة رسوله، والله سبحانه وتعالى يقول: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وقد تقولين ويقول غيرك بأن هؤلاء اليهود يحتلون أرضنا وينتهكون حرماتنا ويدنسون مقدساتنا ويقتلون أطفالنا، وهذا اللبس يحدث للخلط الشائع بين اليهودية كديانة والصهيونية كحركة أو مذهب سياسي قومي استعماري استيطاني كما وصفها الأستاذ "رجاء جارودي" في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، ولقد ووجهت الحركة الصهيونية منذ بدايتها وحتى الآن بمعارضة من بعض اليهود الذين اعتبروا قيام دولة إسرائيل نوعًا من الشرك (حيث اعتبروا أن تقديس اليهود لدولة إسرائيل نوع من الوثنية الجديدة التي تشبه إلى حد كبير وثنية من عبدوا العجل في زمن موسى عليه السلام).
ومع تصاعد الحركة الصهيونية في أواخر القرن الماضي فقد عارضها الكثير ومنهم إيزاك ماير وايز والذي قال في مؤتمر مونتريال 1897: "إننا نرفض رفضا باتًا أي مبادرة ترمي إلى إنشاء دولة يهودية، فأية مبادرات من هذا القبيل تنم عن فهم خاطئ لرسالة إسرائيل والتي كان اليهود هم أول من بشّر بها.. إننا نؤكد أن هدف اليهودية ليس هدفًا سياسيًّا ولا قوميًّا، بل هو هدف روحي".
وكان لرابطة الحاخامات الألمان والجماعات اليهودية في لندن والاتحاد الإسرائيلي العالمي والاتحاد الإسرائيلي في النمسا مواقف مشابهة، كما قال مارتن بوبر: "لقد اجتث الدين اليهودي من جذوره عندما ولدت النزعة القومية اليهودية؛ حيث تحول الشعب إلى صنم يعبد". وقال يهودا ماجنيس: "الصهيونية التي استقطبت جانبًا كبيرًا من يهود الشتات هي يهودية وثنية".
كما قال بنيامين كوهين: "إن الإنجاز الأكبر الذي حققته الصهيونية هو تجريد اليهود من يهوديتهم، فلتفعلوا أيها الأصدقاء كل ما بوسعكم لكيلا يتمكن أتباع مناحم بيجن وشارون من تحقيق هدفهم المزدوج؛ وهو التصفية النهائية للفلسطينيين كشعب ولليهود ككائنات بشرية".
ورغم أن هؤلاء اليهود بحركتهم ضد الصهيونية قد تعرضوا للإيذاء وللاضطهاد من الصهاينة فإنهم ما زالوا حتى الآن يحاولون أن يرفعوا صوتهم، مؤكدين على أن الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل يتنافيان مع اليهودية السليمة، ومنهم إلياس دافيدسون الذي جعل عنوان إحدى مقالاته: "معا لأجل فلسطين حرة وغير مقسمة"، ومنهم ناعوم تشومسكي الكاتب الأمريكي اليهودي الذي يقف بكل قوة ضد سياسات دولة إسرائيل وضد سياسات الحكومة الأمريكية. وإذا أردت التعرف أكثر على هذه الحركة فستجدين مواقع عدة على الإنترنت "ليهود ضد الصهيونية":
أما إذا أردت أن تقطعي علاقتك بها لكونها من الأمريكان فما قولك في أنه رغم ما للحكومات الأمريكية المتتابعة من مواقف مؤيدة ومتحيزة وداعمة لإسرائيل، وخصوصا مع تصاعد قوة ضغط اليمين المتطرف المسيحي الذي يروج لعودة المسيح مع صعود نجم إسرائيل وهدم المسجد الأقصى، ورغم الحملة الظالمة التي شنتها وتشنها أمريكا وحلفاؤها ضد شعبنا الأعزل في العراق.. رغم كل هذا فلا أحد يستطيع أن ينكر وجود عشرات الآلاف من الأمريكان الذين لا يرضون عن سياسات الحكومة الأمريكية، وهؤلاء قد نظموا حركاتهم للوقوف ضد الحرب على العراق.
ولقد وجد هؤلاء وغيرهم في المنتدى الاجتماعي البديل في بورتو أليجري والذي حضره ما يقرب من مائة وعشرين ألفا فرصة لمناهضة سياسات أمريكا الظالمة في فلسطين والعراق، ومن المبكيات غياب الوجود المؤثر للعرب والمسلمين في هذه الحركات، كما انطلقت المظاهرات المليونية المناهضة للحرب في شوارع أوربا وأمريكا.
وجاء البيان الذي وقعه ستون ألفا من الأمريكان وعنوانه: "ليس باسمنا" ليؤكد على موقفهم الرافض والمناهض لما يفعله بوش وعصابته، والداعي لمراجعة سياسات الحكومة الأمريكية؛ لأنها هي التي ترسخ كره أمريكا بين شعوب العالم المقهورة، ولقد فعلوا ذلك رغم أن هذا قد يعرضهم للاتهام بالخيانة والسجن.
ومن هؤلاء كتاب وأدباء وفنانون آمنوا بضرورة أن يسود الحق والعدل والمساواة والسلام، فكانت كتاباتهم خير شاهد من أهلها على قبح وبشاعة الغزو الأمريكي؛ فكتب روبرت فسك مقالات متوالية أيام الغزو ومنها: "هذه هي حقيقة الحرب.. نحن نضرب وهم يعانون" و"في ساعات الظلام الطويلة: بغداد تهتز متأثرة بفرقعة القاذفات ب 52"، و"في وسط الاحتفال: طفل في سكرات الموت وملابسه غارقة بالدماء".
ومن هؤلاء أيضًا عشرات من الشباب الناشطين الذين تركوا الأهل والحياة المرفهة في بلدانهم ليكونوا دروعًا بشريا تذود بصدورها عن أهلنا في فلسطين ولبنان، لتسقط منهم راتشيل كوري التي لقيت حتفها تحت عجلات جرافة صهيونية عندما كانت تدافع عن بيت من بيوت الفلسطينيين، وكثيرون غيرها لم يرهبهم موتها ولم يدفعهم للتنازل عن القضية التي آمنوا بها، حتى ابنة رامسفيلد كانت جاءت إلى الأردن مع أصدقائها لتشارك هي الأخرى في حماية أهل العراق من بطش عصابة والدها.
وقد تقولين ويقول غيرك: فماذا عن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)؟
والجواب أن ما نهينا عنه هو موالاتهم، والولاية مصدر لـ "وَلِيَ" بمعنى النصرة، ويقال بأن هذه الآية قد نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين عندما ذهب يشفع في بني قينقاع ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم "أحسن في موالي"، والامتناع عن مناصرتهم بالطبع لا يعني ظلمهم والجور عليهم؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
ولنا في الفاروق عمر خير قدوة عندما انتصر للقبطي المصري الذي ضرب بواسطة ابن عمرو بن العاص وذلك بضرب هذا الابن ووالده، وهو يقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا". ولقد شاءت إرادة المولى عز وجل أن يجعل من أمهات المؤمنين -وهي السيدة صفية بنت حيي بن أخطب- من كانت يهودية قبل زواجها من الرسول الكريم، ومثلها كان العديد من الصحابة الذين حسن إسلامهم.
فإذا اتضح مما سبق أنه لا يوجد ما يمنع أن تصادقي هذه الفتاة اليهودية الأمريكية؛ طالما أنها لا تظهر العداء ولا تتعمد إيذاء إخوانك المسلمين، فإنني أجد لزامًا عليك أن تراعي ما يلي في علاقتك:
1- نحن أمة وسط، ولقد أمرنا الله سبحانه وتعالى ورسوله بالاعتدال والتوسط في كل أمر من أمورنا، وحرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على التأكيد على هذا المعنى حتى في الحب فقال: "أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما"؛ فحبك الشيء يعمي ويصم، فاحرصي على التوسط في عاطفتك نحوها، وحذار من أن يعميك حبك عن عيوبها أو عدائها إن كان ظاهرا، "والمؤمن كيس فطن".
2- يجب أن تظهري لها الصورة الرائعة للمسلمة المعتزة بدينها، وأن تكوني بأفعالك وأقوالك خير دعاية لبضاعتك الإسلام، فقد يكون الله سبحانه يريد لك ولها الخير بأن تتعرف على الإسلام على يديك، فيكون هذا خيرًا لك من حمر النعم.
3- لقد كانت علاقتكما حتى هذا اليوم علاقة شخصية، فهل في إمكانك أن تجعلي لهذه العلاقة غاية أسمى، وذلك بأن تشجعيها على أن تتعرف على وجهات نظر اليهود ضد الصهيونية، وأن تظهري أمامها -ولكن برفق وبقدرة على مخاطبة الإنسان فيها- الوجه القبيح للصهيونية بما ترتكبه كل يوم من فظائع في حق الشعب الفلسطيني.
وكذلك قد يكون مفيدًا أن تحاولا معًا الانخراط في إحدى حركات مناهضة العولمة التي تتحرك بغية أن يسود العدل والحق والمساواة والسلام أرجاء المعمورة، ولتكون هذه فرصة لينضم إليكم بعض من صديقاتك وصديقاتها، فلقد وصفت النيويورك تايمز هذه الحركة بأنها أصبحت ثاني أكبر قوة في العالم، وأملنا أن ندعم هذه الحركة لتكون أكثر تأثيرًا في الأيام القادمة من أجل عولمة بديلة أكثر إنسانية.
أختي الكريمة، كنت معك في هذه الرحلة التي حاولنا فيها أن ندرك ما في العالم حولنا، والتي أدعو الله أن تفيدك، كما أدعوه أن يعينك على أن تحققي الأهداف المرجوة من هذه العلاقة، وتابعينا بالتطورات.