السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
دعوني أبدأ رسالتي لكم بهذا الدعاء، عسى أن يؤمّن أحد ويصادف ساعة إجابة: اللهم اجز كل من قام ويقوم على هذه الصفحة كل خير، واجعله في ميزان حسناتهم يوم القيامة، اللهم فرّج عنهم كرب يوم القيامة كما فرجوا كرب شباب المسلمين، اللهم أدخلهم الجنة كما أدخلوا السعادة على قلوب شباب المسلمين.. اللهم آمين.
أما بعد؛ فأنا فرد من عائلتكم منذ تأسيسها وأتابعها بشكل شبه يومي، ويعلم الله كم استفدت من الذي قرأته.. فدرهم وقاية خير من قنطار علاج، وبالطبع صادفتني بعض المشاكل وحلها كان إما بين سطوركم أو من خبرتي من خلال قراءتي الاستشارات مجانينها المقترحة، وسبحان الله جاء ما لم أكن أتخيله.. حصلت معي مشكلة لم أكن أتوقعها ولم أسمع بها من قبل، والمشكلة في مشكلتي أنني لا أعرف أين المشكلة، وكما ذكرتم في مواضيع عدة أن نصف الحل يكمن في تحديد المشكلة، ما هي مشكلتي أو قصتي سأبدأ معكم بسرد سريع عن حياتي، وبسرد تفصيلي عن الذي حدث معي، نيتي في أن أرسل المشكلة لكم هي أن يستفيد الشباب من تجربتي؛ لأنها من وجهة نظري غريبة وفريدة.
بداية مشكلتي الأساسية نشأتي وشبابي؛ فقد نشأت في عائلة طيبة متدينة، وكان موضوع البنات بشكل عام بالنسبة لنا عيبا؛ فمثلا عندما كنت في الابتدائي كان يقول لي أقربائي: "بدنا نجوزك". فأبكي وأحزن ظنا مني أن ذلك عيب، وكان ذلك خيرا، حيث إنني عندما دخلت الثانوية كنت بعيدا جدا عن مواضيع الذهاب لمدارس البنات والتكلم معهن وما شابه ذلك، والفضل لذلك بعد الله عز وجل إلى والدي اللذين أحسنا تربيتي والصحبة الصالحة.
عند دخولي الجامعة (معهد الرسم الهندسي لسنتين) ولله الفضل من أول يوم كونا شلة من الأصحاب المتدينين، وأصبحنا نذكر بعضنا بعضا ونحمي بعضنا بعضا، وفي فترة دراستي بالجامعة أحببت فتاة جميلة، ولكني كنت قد قررت ألا أصاحب أبدا، وبما أني لم أكن قادرًا على الزواج فلم أستطع أن أفعل شيئا.. صبرت واحتسبت أجري عند الله.
في الجامعة كنت إنسانا طبيعيا جدا؛ فالتكلم مع الفتيات ممكن، ولكن ضمن الجامعة وبكلام يخص الدراسة فقط، أما الفتاة التي كنت أحبها فلا أستطيع الكلام معها ولا يوجد بيننا حتى صباح الخير، والحمد لله بعد انتهاء الجامعة كنت قد نسيت تلك الفتاة وبقيت ذكرى جميلة، وكما قرأت في استشاراتكم فربما كان حبا من طرف واحد.
بعد الجامعة ذهبت للخدمة الإلزامية في الجيش مدة أقل من 3 سنوات، وبعدها قررت السفر ودراسة هندسة الكمبيوتر في ألمانيا.. قبل السفر كان أهلي يودون أن يخطبوا لي، ولكني لم أقبل لأنني مسافر إلى المجهول فلا منحة لدي، واشترط والدي مساعدتي أول سنة فقط.. لذلك فكرة الخطبة والزواج كانت مستحيلة، وأنا لم أكن أفكر فيها أبدا لأن لدي طموحات وأهدافا، والزواج يأتي لاحقا.. كان عمري حينها 24 عاما.
وبدأت المعاناة.. عندما يقولون بالعامية: "الشوف غير الحكي". فهذا كلام صحيح مائة بالمائة؛ فبعض أقاربي حذرني من الفساد الموجود هناك وأخبرني أنه جاء وزوجته في شهر العسل إلى هنا، وكان الفساد لا يحتمل، فما بالك وأنت غير متزوج، وقلت له: "يا خالي لا تخف". ولم أصدق ما قال في قلبي، ولكن الواقع أثبت صحة كلامه؛ فبعد 6 أشهر بدأت تزيد معاناتي وتفكيري الجدي في الزواج؛ فأول ما فكرت فيه فتاة تركية محجبة وأخلاقها ممتازة كانت معي بدورة تعليم اللغة؛ فاستشرت أهلي فلم يقبلوا أبدا بذلك، وعندما قرأت في استشاراتكم عن الصعوبة حينما تختلف العادات والتقاليد وبعد استخارة الله عز وجل صرفت النظر عن هذا الموضوع.. فكرت بعدها في فتاة تكون من بلدي ولكن تربت هنا، ولكن بعد دراسة الموضوع على كذا فتاة لم يناسبني الموضوع أبدا.. ما هو الحل إذن؟! الزواج من فتاة من بلدي طبعا.
أهلي كانوا على علم بمعاناتي حتى جاء يوم وقالت لي والدتي إنها رأت فتاة صديقة أختي الصغيرة 15 سنة؛ فضحكت وقلت لها: "يا أمي.. أتزوج طفلة؟ وهل هي قادرة على الغربة و.. و.. و..؟". وبعد إغلاق الهاتف نسيت الموضوع بتاتا لأنه غير وارد من منظوري.
ثم جاءت الصدمة الأولى؛ نزلت في أول زيارة لبلدي بعد سنة نصف وكنت في منتصف السنة التمهيدية للدراسة وأول شيء قامت به والدتي عندما نزلت هي أن أرتني صورة صديقة أختي وهي لم تكن محجبة، ومع الأسف أعجبتني فورا، لا أعلم هل هو الحرمان أم ماذا؟! ظللنا شهرا تقريبا في نقاش بالبيت حتى قبل سفري بأيام.. قررنا أن نزورهم زيارة عادية بهدف أن أتعرف على أهلهم وهم يتعرفون علي.
وكانت نتيجة الزيارة أن أم الفتاة أحبتني كثيرا، والأب أيضا، وقال إنني إنسان رائع ولكن طريقه طويل، ومعه كل الحق في ذلك، وبعدها سافرت، وضمنيا كنت أنوي أن آتي السنة القادمة وأخطبها رسميا، وبقي بيننا للأسف "مسجات" وهكذا.. وسألت أهلي: "هل يجوز هذا؟". فقالوا لي أنتما تريدان بعضكما ولا ضير في ذلك. وكانت أول مرة يتغلب فيها قلبي على عقلي، وحصل أن الفتاة بعد 3 أسابيع جاء من يخطبها وأجبرت على ذلك من قبل أمها وأحسست وقتها باليأس والعجز، والحمد لله تغلبت على وضعي بفضل الله عز وجل، ومن ثم صديق لي نصحني بدعاء فك الكرب: "اللهم إني عبدك... إلخ".
وعندما أفقت من الصدمة قلت: "الحمد لله على ما حدث". لأنني كنت قد فكرت بقلبي وليس بعقلي في تلك الفتاة، وكانت بداية مشكلتي الأساسية عندما نزلت في زيارتي التالية بعد سنة ونصف السنة، واقترحت علي والدتي أخت زوجة خالي، وكنت قد رأيتها آخر مرة كانت فيها طفلة.
مواصفاتها: خلوقة حافظة للقرآن تدرس الطب، أهلها طيبون جدا ونعرفهم من زمان، وفوق كل ذلك جميلة، حسب وصف أمي، فقلت لها يجب أن أراها حتى أتمكن من التفكير بكل تلك المواصفات، وبالصدفة كان أخوها قادمًا من أمريكا للزيارة فجاءت الفرصة مناسبة لنسلم عليه.. أقصد أن أراها وأكوّن رأيا محددا، وبالفعل رأيتها وأعجبتني، وهي لم تكن تعرف أنني أراها بقصد الخطبة، فكانت الجلسة تلقائية وتبادلنا أطراف الحديث وبعد أن خرجنا أخبرت أمي أنها قد أعجبتني ولكني سافرت بعد أيام.
وبعدها سألت زوجة خالي أختها عن رأيها في، وكانت قد فوجئت لأنها لم تكن تعلم بالموضوع وقالت لها إنها يجب أن تجلس معي ونتكلم لنتعرف على بعضنا، ولها الحق في ذلك.
وبعد سنة نزلت في زيارة وقررت الذهاب لكي تتعرف علي، وبالفعل جلسنا مدة 3 ساعات كانت بمنتهى الروعة، ونتيجة الجلسة كانت أن أعجبت بي، وأنا كذلك، وبقي التفكير المنطقي.
أنا بقي لي 3 سنوات على إنهاء الدراسة وهي 4 سنوات، وحسب ما قرأت في استشاراتكم فالخطبة الطويلة غير محمودة العواقب فاتفقنا على أن أعود السنة القادمة ولو كانت مكتوبة لي في السماء فهي لي وإلا فلا.
وخطبتها بالفعل بعد مرور سنة وجاء الجد كما يقولون، وسبحان الله دعوت الله كثيرا أن ييسر لي مشروع خطبتي فجاء التيسير بشكل غير معقول.. وقت العمل الصيفي الذي أعيش منه هنا انتهى بوقت يتيح لي النزول بإجازة شهر ونصف، وعندما نزلت ذهبت مرة مع والدتي والمرة التالية وحدي وتكلمنا كثيرا كثيرا، وكانت آراؤنا متطابقة، واتفقنا على الخطوبة لمدة سنتين واتصلنا بهم بعد يومين ليخبرونا بالموافقة، وبدأ التحضير لحفلة الخطوبة بدون كتب كتاب، طبعا الحفل كان للنساء فقط، وعندما أتيت في آخر الحفلة طبعا ارتدى الجميع الحجاب وخطيبتي أيضا وكنا كلنا سعداء وأخبرني إخوتي البنات أنها في الحفلة كانت كما يقولون "طايرة من الفرح". وبقي لي في إجازتي 3 أسابيع وقررنا أن أزورها يوميا لنتعود على بعضنا البعض.
سأسرد لكم الآن مواقف حصلت؛ سألتها عن كيفية اتخاذها القرار بالموافقة فقالت لي إنها عملت استخارة وشعرت بشيء من الراحة النفسية على عكس الذين أتوها من قبلي؛ فقد كانت تشعر بضيق في الصدر، وقالت لي أيضا إنها على الرغم من الراحة فإنها كانت خائفة ومترددة فقالت لها أمها إن هذا شعور طبيعي، فهي مقدمة على حياة جديدة وأكدت لها أنا أيضا كلام أمها وكنت أسألها دائما هل قلّ الخوف؟ فتقول نعم.
إلى أن جاء يوم وقالت لي إنها لم تشعر بعد بالخوف، قالت لي مرة إنها تشعر بسعادة كبيرة فهل تعدني أن نكون كذلك يوميا، فقلت لها بالطبع، فكم كنت سعيدا لأنها في فترة وجيزة أصبحت تحبني، ومع أننا لم نقلها فإن الكلام مفهوم.. بالمختصر كانت أجمل أيام عمري.
وجاء وقت السفر وما أصعبه من وقت، ولكنه جاء.. في أول أسبوعين كان كل شيء أكثر من رائع.. نتكلم على الهاتف و"الشات"، وقالت لي إنها لا تشعر بأني مسافر، قالت لي مرة إنها خلعت خاتم الخطوبة لمدة دقيقة لتقوم ببعض الأعمال المنزلية فشعرت بالضيق لأنها أحست أنني بعيد عنها فلبسته فورا، وقررت ألا تخلعه أبدا. مرة كنا نتكلم على "الشات" وقالت لي إنها تشعر بشعور غريب فهي متضايقة وتميل للانعزال، ورجتني أن أسامحها لأنها كذلك؛ فقلت لها هوني عليك وظللنا نتكلم أكثر من 3 ساعات وأخبرتني في اليوم التالي أنها تحسنت كثيرا بعد أن تكلمنا.
مرة كنا نتكلم كلامًا جميلا في كيف سنربي أولادنا وأننا سوف نكفل يتيمًا لندخل الجنة ونصلي معا.. كلام رائع بحدود علاقة الخاطبين، وقالت لي إنها تود أن تقول لي كلمة؛ فقلت "ماذا؟". فترددت وبعدها كتبت: "بحبك!". وكم كنت سعيدا بتلك الكلمة فقد كنت أعرف أنها تحبني ولكنها أول مرة تقولها، وتناقشا هل يجوز أم لا فاتفقنا أن لا نقول غير تلك الكلمة ونؤجل الكلام الأجمل لما بعد كتب الكتاب.
واتفقنا على أن يكون بعد ستة أشهر وبدأ أهلنا بالتخطيط هل سيقيمون حفلة أم لا وهكذا، والذي يقرأ الذي حصل إلى الآن لا يمكن أن يتوقع ما الذي حصل.. فما بالكم بالذي عاش الأحداث.
بدأ الكلام يقل ولهجة الصوت تختلف وقالت لي إنها تشعر أنها مقصرة في حقي، لكن الشعور الذي أتاها ما زال وفي ازدياد، وقالت إن شاء الله فترة سيئة وتمر، وأنا اعتقدت كذلك، بدأت لهجة الإيميلات تختلف؛ فتقول: "شو ما صار" فهذا اللي الله قد كتبه وعلينا الرضا بالقضاء والقدر. فشعرت حينها أن الذي يحصل ليس سحابة وستمر؛ فكلمت والدتها وكانت هي بالجامعة وقالت لي إنها لا تعرف ما الذي يحصل لابنتها فهي لا تأكل ووزنها يتناقص وكثيرة البكاء وبالأخص حينما ترى صورنا؛ فصعقت لهذا الخبر، وقالت لي أمها إنها تقرأ سورة البقرة كل يوم عله يكون شيطانا فيصرف، وقالت لي إن ابنتها سوف تبدأ بالقراءة أيضا، سألتها منذ متى هذا الشعور فقالت لي بعد حفلة الخطبة مباشرة بدأ الشعور وأضافت أنه من الممكن أن يكون حسدا أو شيئا من هذا القبيل، ولكن ابنتها حاولت تكذيب شعورها، وتقول مع الوقت يزول ولم يزل إلى أن جاء وقت زاد فيه إلى حد كبير عسى أن تتحسن، وفي المساء تكلمت معها هاتفيا وكانت مكالمة لا أنساها ما حييت؛ فكانت جافة جدا وشعرت أنها تكلمني مضطرة وأنهينا مكالمتنا واتفقنا أن نتكلم بعد 3 أيام وفي اليوم التالي أرسلت إليها بإيميل عن أنني سوف أبدأ قراءة ختمة للقرآن وهي أيضا وندعو الله أن يفك الكرب، وقلت لها لو أنها تعلم حلا لمشكلتها مهما كان الحل فأنا مستعد.
وجاء اليوم الموعود فتكلمنا على النت قليلا، وقلت لها كيف أصبحت؟ قالت لي: "على حالي أقرأ القرآن ولا يتحسن شيء". فقلت لها سوف أكلمك هاتفيا فاتصلت بها: "ماذا تريدين أن نفعل لتخرجي من هذه الدوامة؟ هل الخطبة هي السبب؟". قالت: "نعم؟". فقلت: "لها ما رأيك في أن نتوقف عن الكلام مع بعضنا لمدة شهر تأخذين وقتك للتفكير؟". قالت لي: "لا أستطيع تحمل هذا الوضع لمدة شهر؛ فأمي وأبي مرضا لمرضي، وأنا لا أستطيع الاستمرار!". فقلت لها: "لو أن هذا سوف يريحك فأنا جاهز". وقلت لها: "أود أن أسألك سؤالا، هل بدر مني أي شيء ولو كان صغيرا ليحدث ما حدث؟". فأجابت بالنفي القاطع، وقالت إنني إنسان تحلم به أي فتاة ولكن لا يوجد حل لإنهاء معاناتي إلا أن نترك بعضنا.
ما السبب؟ هي نفسها لا تعرف، واتفقنا على فسخ الخطبة وآخر كلمة قلتها لها "انتبهي على نفسك". وقالت لي أنت أيضا، وقلت لها لا إله إلا الله، وقالت محمد رسول الله.
أجل يا عائلتي في استشارات مجانين انتهت قصتي هذه النهاية المأساوية، أما أنا فتحطمت نفسيتي ولجأت إلى الله عز وجل أشكو له همي وحزني؛ فالغربة كربة، ومع المصيبة تصبح الكربة مضاعفة، وأكثرت من قيام الليل وصلاة الجماعة، وكنت كل يوم أتحسن بفضل ربي، ورضيت بما قسمه الله لي، وقلت عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
وتذكرت قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، كيف أن لله حكمة في الأمور لا يعلمها إلا هو، وتذكرت عمر الفاروق حينما قال عندما تنزل المصيبة أحمد الله على ثلاث:
- أنها لم تكن في ديني.
- وأنها لم تكن أكبر من ذلك.
- وأنه يكفر بها من خطاياي.
أنا أريدها وهي تريدني وأهلنا يريدون، ولكن الله يفعل ما يشاء، ما الذي حصل ولماذا وكيف و.. و.. و.. أسئلة لا أملك الإجابة عنها، لقد كنت أعرف أن القلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولكني رأيتها بأم عيني، سبحان الله.. أخطط منذ ثلاث سنوات لارتباطي بهذه الفتاة ثم يحصل ما حصل.
في النهاية قررت أن أؤجل موضوع الخطبة بشكل عام لما بعد سنتين حتى أنهي دراستي وأجد عملا، وربما أعود وأتقدم لفتاتي لو لم ترتبط وقتها، والذي صبر 4 سنوات يصبر سنتين أخريين، هل هناك إجابة في الطب النفسي عما حدث؟
أطمع وأود أن ترد الدكتورة نعمت علي...
شكرا لاستماعكم وسعة قلبكم.
29/9/2024
رد المستشار
يا ولدي.. أتعرف ما الذي يزيد من الآلام واللوعة والإحباط.. (الغربة).
إن الغربة والاغتراب مشاعر غريبة وعجيبة ولها أثر على كل خلجات الإنسان وخلايا عقله.. فإن الغربة تصبغ كل المشاعر بشجن لا نعرف مصدره غير أنه غالبا صادر من اغتراب المشاعر في مكان بعيد عن تواصل الأهل والمعارف وتلاحمهم.. إن أبسط وأدق الذكريات تقفز كبيرة أمام الإنسان في غربته.. ونجده يتذكر تفاصيل كثيرة جدا لقصص بسيطة جدا؛ فيعيدها ويكررها ويتعايش معها.. في حين أن المشاركين في الذكرى من المقيمين بين الأهل والأصحاب نسوا الموقف كله ولا يشكل لهم أي ذكرى أو أثر.
وهذا ما يحدث معك.. "غربتك" هي أهم عامل في اجترارك الثواني وليس فقط الأحداث.. فكل كلمة قلتها معا.. وكل نظرة عين أو حتى اقتضاب صوت لها ثقل كبير على قلبك وفي عقلك.. ثم إنك تعيش وحيدا بين مغريات كثيرة.. والأمل في الارتباط كبر وتعملق داخلك وأخذ صورة لإنسانة معينة.. وبما أنك وحدك فأنت كنت تعيش في الحالة باستمرار.. وأكاد أتصور أنك أثناء تخطيطك لهذا الزواج رسمت أدق تفاصيل الحياة في وجود هذه الإنسانة، فهي صاحبة الصوت والصورة والمالكة المشروع.
وأقول لك يا ولدي إنها لم تخطئ.. فإننا نلوم الشباب إذا لم يستغلوا فترة الخطبة لما جُعلت له "بضم الجيم"، فما هي إلا للتعارف والتفاهم ولبحث كل أمور الحياة المقبلة ووضع دساتيرها بطريقة تضمن الانسجام والتعايش والمحبة والمودة والرحمة؛ وبالتالي فهي قد منحت نفسها ومنحتك الفرصة العادلة للتوافق والانسجام أثناء الخطوبة.
ولقد بدأتها بصورة طبيعية حين ارتاحت لك أكثر مما يحدث عادة مع غيرك من المتقدمين، ولكنها ومع تطور العلاقة والقرب لم تجد هذا التناغم الذي تنشده، وقد كانت واضحة وصريحة مع نفسها ومعك.. ربما أخطأت لأنها تأخرت في إخبارك إلى الدرجة التي صدمتك.. لأن قرار النهاية كلما ابتعد في الزمن كلما ترك أثرا غائرا.. بطول الأمل الذي زرعته الأيام، ولكني أعذرها فقد كانت بين رحى.. بين جمال صفاتك وجميل أخلاقك وقبول أهلها لك وحبهم إياها وكل ما يسعدها، وبين هذا الضيق الذي عشش في قلبها فقلب حياتها إلى هم لا تعرف كيف تتخلص منه، ومع ذلك فيجب أن نحييها على اتخاذها القرار الصعب؛ فغيرها كان من الممكن أن يستمر في الخطوات حتى لا يجرح الطرف الآخر أو يضايق أهله وتصبح المشكلة أكثر تعقيدا بعد الزواج.
المهم يا ولدي ما أستطيع أن أقوله لك إن عليك الانتظار قليلا لحين استقرارك النفسي بعد هذه العلاقة التي انقطعت.. لا داعي للتعجل في فكرة الارتباط، وبالطبع فإنك لن تقدم على أي ارتباط إلا إذا انتهيت من دراستك بعد سنتين كما تقول، ولكنى لا أجد غضاضة أو مانعًا في أن يحاول الأهل مساعدتك مرة أخرى عند عودتك في الصيف.. أي قبل مرور شهور ليست بالقليلة، والفتاة التي أعجبتك أثناء دراسة الجامعة قد تكون أنسب إنسانة لك لما تكنه لها من مشاعر وإعجاب وقد تكتشف أنها غير ما تصورت وتخيلت وتوقعت.
وأنا أحييك على قوة إيمانك وجميل تسليمك لله؛ فهذا بلسم شافٍ لكل الجروح، وثق يا ولدي أن الله سيحدث بعد ذلك أمرا.. ما من إنسان فوض أمره إليه وتوكل عليه راغبا بصدق في طاعته سبحانه وفى إرضائه إلا أفاض عليه من كل الخيرات.
ولا يسعني في النهاية إلا أن أقول لك: بسم الله الرحمن الرحيم "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" البقرة: ٢١٦.