أنا شاب في الرابعة والعشرين من عمري، خطبت فتاة محجبة، وذات مستوى ديني وثقافي وتعليمي عالٍ منذ ما يقرب من عامين، تكمن مشكلتي في رفض والدي إتمام زواجي؛ وذلك لأنه يرفض زواجي أو زواج أي أحد من إخوتي إلا من أحد أقربائه أو معارفه، وهذا ما تعرض له إخوتي الأكبر مني سنًّا، وكانت النتيجة أنهم تخطوا الثلاثين دون زواج رغم عدم وجود أي عائق إلا هذا السبب. والآن والدي يطلب مني ألا أتزوج هذه الفتاة، وأنا لا أعرف ماذا أفعل. إذا مضيت في الزواج أخشى أن أكون غير بارٍّ بوالدي، وأنا حريص على بره، وهو يحتج عليَّ بأن سيدنا عمر أمر ابنه بفراق زوجته فأطاعه. وإذا تركت الزواج أخشى أن أقع في الحرام؛ لما أعلم بداخلي من رغبة شديدة في الزواج، وما تعرفونه جميعًا من انتشار المغريات والفتن (وقد قرأت في فقه السنة: أن حكم الزواج هو الوجوب لمن قدر عليه وخشيَ على نفسه الفتنة)، كما أخشى لو فعلت ذلك أن أكون أنا أو والدي ظالمًا لهذه الفتاة وعائلتها بمنعها من الزواج لمدة عامين ثم تركها بلا مبرر مع ما يمكن أن يثير هذا حولها من أقجدال، كما يحدث في مجتمعاتنا خاصة أن الخِطبة تمت بعد استئذاني لوالدي وموافقته.
هذا مع العلم أني أعرف من يرشحهن أبي للزواج مني، وسبق أن رفضتهن؛ لأسباب مختلفة وهو يعلم ذلك، كما أني مرتبط عاطفيًّا بهذه الفتاة، ولا أرغب في غيرها زوجة لي. ووالدي يشهد لها ولعائلتها بالتدين والأخلاق الحسنة، أرجو أن تنصحوني، ماذا أفعل فأنا أخشى ألا أبر والدي من ناحية وأخشى الوقوع في الفاحشة من ناحية أخرى، خاصة أني عندها سأظل طويلا على غير زواج؛ لأن موقف أبي يتكرر مع أي فتاة لا يختارها بنفسه، وهو متمسك بهذا، ويقول: إن هذا حقه، وإن علينا طاعته في هذا.
كما أريد أن أعرف: هل يحق للوالد أن يمنع ابنه من الزواج أو أن يجبره على زواج أو طلاق دون أي أسباب؟ أنا أعرف أن للوالدين حقوقًا عظيمة، ولكن هل هي مطلقة؟ وما حقوق الأبناء؟ إنني أحب والدي رغم كل شيء، وأعلم مقدار ما عاناه من أجل تربيتنا تربية حسنة، ولكن يسوؤني ما يفعله معنا، ولا أريد أن يكون في قلبي شيء منه، وقد حاولت أن أناقشه كثيرًا، ولكنه يرفض النقاش، ثم أصبح يرفض مجرد فتح الموضوع.
إنني أفكر في إتمام الزواج مع العمل الدائم على مراضاة والدي،
أفيدونا، أفادكم الله .
28/7/2025
رد المستشار
أخي العزيز: نحمد فيك حرصك على إرضاء والدك وبره؛ رغم ما يبدو من تعسفه، وهكذا أمرنا الله –سبحانه- بأن نكون بارين بالوالدين، وألا تكون معاملتنا لهم خاضعة لمبدأ "المعاملة بالمثل" الشائع في العلاقات الخارجية بين الدول، وهكذا يعدنا الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم "بروا آبائكم تبركم أبناؤكم".
سؤالك يا أخي يفتح موضوعاً واسعاً يكثر فيه الخلط والجدل، وقد نال اهتمامنا حتى تداولنا بشأنه مراراً، وكتب كل منا ملاحظاته عليه؛ لأهميته من ناحية، ولشعورنا بالمأزق الذي أنت فيه من ناحية أخرى.
دعني أقول لك: إن اعتراضات الوالدين تكون أحياناً وجيهة، ويكون الأبناء غير مبالين بها إما لقلة خبرتهم، أو لاندفاعهم وراء عواطفهم، أما وأنك تؤكد أن والدك يرفض إتمام الزواج دون سبب واضح، بل وبعد أن سبق له الموافقة على الخطبة، فنحن أمام عدة احتمالات منها أن يكون قد حدث شيء أو نما إلى علمه أمر، لا يريد أن يطلعك عليه؛ مما جعله يتحول إلى جهة الرفض، أو أن ظروفاً مادية جدت، تمنعه من مساعدتك في إتمام زواجك، أو أنه متمسك بتزويجك من دائرة أو طرف بعينه أو أنه يتعنت لمجرد التعنت، وحب السيطرة والتملك، الأمر الذي مال إليه بعضنا تمشياً مع قولك: إن هذا هو سمته مع إخوتك الذكور الأكبر.
فإذا كان الأمر كذلك بمعنى أن الفتاة التي خطبتها "بموافقته سابقاً" بلا عيوب اجتماعية أو أخلاقية قادحة، وأن رفضه يأتي دون أي مبرر منطقي مفهوم أو مشروع رغم معرفته بتعلقك بهذه الفتاة، بل ورغبتك العامة الملحة في الزواج، فإننا نكون هنا يا أخي بصدد حالة مما يسمى "الاستعقاق"، وفيه يدفع الأب الأبناء دفعاً إلى العقوق حين ينسف كل الاختيارات الأخرى.
والحادثة التي تذكرها والمنسوبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه – لو صحت – لا تصلح دليلاً للقياس عليه؛ لأسباب متعددة منها أن الفاروق ما كان ليطلب من ولده تطليق زوجته إلا وهو يعلم أن هذا الطلاق هو أخف الضررين لأمر تبين له في شأن الزوجة قدح في جدارتها بالاستمرار مع ولده، ومنها أن طلب عمر من ولده، أو حتى أمره له، لم يكن أمراً دينياً بل كان أمراً اجتماعياً بمعنى أن والداً ينصح ولده أو يأمره بناءاً على خبرة حياتية وربما غير مستند إلى دليل من آية قرآنية أو حديث شريف، وإلا لذكرتها الروايات... وهكذا.
بسهولة جداً يمكن التشكيك في ثبوت رواية هذه الحادثة، وبسهولة أكبر يمكن فهم أنها ليست مصدراً من مصادر استنباط الأدلة الشرعية خاصة وهي تعارض روح الإسلام ونصوصه في أكثر من موضع.
ومن لطائف ما ورد في هذا الباب قول ابن تيمية -رحمه الله: "إذا لم يكن لأحد أن يلزم أحدًا بأكل ما ينفر طبعه عنه، مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه؛ كان النكاح بذلك أولى، فإن أكل المكروه ساعة وعشرة المكروه من الزوجين طول العمر يؤذي صاحبه، ولا يمكن فراقه" انتهى.
ومعنى ومفهوم بر الوالدين هو أكبر وأوسع من مجرد الطاعة العمياء في أمر الزواج أو الطلاق، ولا وجاهة لرأي رافض في مسألة الزواج، أو دافع لمسألة الطلاق إلا حين يكون هناك اعتراض واضح ومحدد يتعلق بأمر قادح في الكفاءة أو الدين.
أخي العزيز: أما وقد تعرضنا للموضوع من هذه الزجداة فإننا ننصحك بأن تحرص على رضا والدك وموافقته على زواجك قدر الإمكان، وأن تسوق عليه الحكماء والأصدقاء ممن يملكون عليه تأثيراً معنوياً فاعلاً، وأن تتمسك باختيارك إذا كانت فتاتك على النحو الذي تصف، فحرام أن تترك فتاة مثل هذه دون سبب.
وربما تكون لدى والدك مخاوفه، أو هواجسه من زواج الغرباء، وربما يغلبه حب مرضي لكم، أو خوف مرضي عليكم، أو خشية مبالغ فيها من انشغالكم عنه إذا تزوجتم، وذهب كل منكم إلى حال سبيله، وكل هذا يمكن التعامل معه، والالتفاف حوله بحسن التعامل منك، ومن فتاتك "زوجة المستقبل".
إن صخور رفض الوالدين التي تبدو مثل الحجارة الصماء أمام عيون الأبناء هي صورة خادعة؛ لأنها ما تلبث أن تتفتت – ولو بعد حين – أمام الصبر والإصرار المؤدب اللطيف "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء"، فكن صريحاً متلطفاً، ودوداً مع والدك، وأعلمه أنك لن تتزوج إلا برضاه ما أمكن ذلك، وأنك لن تتخلى عن الفتاة دون سبب واضح، واستخدم نفس المنطق الديني الذي يستخدمه فقل له: إنه بذلك يدفعك إلى عقوقه، وأنه يظلمك، ويدفعك إلى الحرام، ويظلم فتاتك دونما ذنب اقترفته، واستمر في محاولاتك لأطول وقت ممكن، فإن لم يستجب فلا بأس من إتمام الزواج مع حفاظك على علاقتك الطيبة به، وإن كنت أحسب أنه سيلين فلا تيأس، فالتجارب تقول: إن الآباء غالباً ينهزمون أمام رغبات أبنائهم الصادقة القوية، بينما يستعجل بعض الأبناء الخروج على الأب المتعسف، ولو صبروا قليلاً لكان خيراً للجميع، فلا تستعجل طالما كان للصبر مكان، وفقك الله، وأعلمنا بالتطورات.
واقرأ أيضًا:
آباء وأبناء... قصة كل بيت!
عقوق الآباء!
آباء وأبناء محنة الوعد الذي صار فخا!
عقوق الآباء لمن نلجأ؟!
يا آباء العالم اتقوا الله في أبنائكم!