لا أذكر أنني كنت في يوم من الأيام من أصحاب الذهنيات الديماجوجية في شئون الدين أو الدنيا، ربما طبيعتي الشخصية، وتكويني النفسي، وربما تضافر مع هذا توجيه أساتذتي، وتأثير تخصصي.
وبسبب هذا الوضع أجد نفسي ممتعضا حين أسمع بعض مفردات أدركها بوصفها من مفاتيح ومعالم أسلوبٍ في الخطاب والتحليل والتفكير أعتقد أنه شائع في حياتنا وإعلامنا، وهو مسئول رئيسي عن تخلفنا وهزائمنا، وواقعنا البائس، وهو يكاد أن يكون رد الفعل الأغلب في تلك المرحلة الهامة التي نمر بها ومن هذه المفردات"الغزو الثقافي"، "ثقافة المقاومة"، وليس لي أي اعتراض وامتعاضي ينصب على المعاني التي يقصدها أغلب المتحدثين حين تجري على ألسنتهم هذه التعبيرات وأخواتها، وغالبا ما تحمل هذه الألفاظ مدلولاتٍ دفاعيةً، وآلياتٍ تقليديةً، وآفاقًا محدودة في التفاعل والتفعيل، وأدوات عاجزة بطبيعتها عن الصمود أمام أنماط من التحدي جديدة ومتحولة، وتحتاج إلى إبداع وعمق تفكير، الأمر الذي نفتقده غالبا للأسف الشديد.
*ما وراء العري:
لا يرى أغلبنا في الصورة الثابتة أو المتحركة كوسيلة لنقل المعاني والأفكار بأسا، ومن يرون فيها ما ينبغي رفضه يدخلون من باب الحرام الشرعي لأصل التصوير بوصفه تشبيها وتجسيدا... وهو منطق لا يصمد أمام أي تفكير فقهي منهجي، ولا يلتفت أحد عندنا إلى ما هو أخطر وأعمق، وهو ما يتحدث عنه جمهور كبير من المتخصصين والمهتمين وغيرهم حول تأثيرات الصورة، وثقافة الصورة، وعصر التصوير والصورة، والتأثيرات المقصودة هنا هي نفسية وذهنية وتعليمية، ومن ثم اجتماعية ثم شاملة.
إذن إذا أحضرت عينة عشوائية من البشر حول العالم وأعطيتهم صورة لامرأة عارية وطلبت منهم رأيهم أو موقفهم أو تعقيبهم فستجد لديك ردود الفعل التالية:
0 فريق لا يرى فيها أي شيء بل يعتبرها علامة من علامات الحرية والتحرر، وقد يناقشك في جمال المرأة ومقاييسها الأنثوية بوصف ذلك هو المحتوى الأهم في الصورة، من وجهة نظره طبعا.
0 فريق سيعترض على العري يوصفه منافيا للأخلاق والآداب والأديان وبعضهم قد يعترض لأن في هذا النمط من التصوير إهانة للمرأة وامتهانا لها في مساحة الرمز الجنسي، فتصبح مجرد مشروع غواية جنسية، أو مادة ترويجية استهلاكية سلعية- كما في الإعلانات- وهما وجهان لعملة واحدة.
0 وفريق سيهتم بمسألة التصوير من حيث المبدأ... بعضهم ممن يرونه حراما في حد ذاته،- إلا للضرورة القصوى- وليس للتعري أو الإعلان.. إلخ. من الضرورات بالطبع، وآخرون سيهتمون بالتصوير من حيث هو وسيط معين في توصيل المعلومات ونقل الأفكار وبعثها في النفس، وإشاعتها في المجتمع كقيمة وكمقترح للتطبيق، وكفكرة للممارسة ونمط للتفكير بحسب الثقافة السائدة في هذا المجتمع أو ذاك، ومن الطريف أن يتفق من يسمون بالمتشددين الإسلاميين مع أصحاب النظرة الأعمق لوسيط الصورة، وإن كان الفارق كبيرا بين مدخل هؤلاء وأولئك!!!،
خطورة طغيان الصورة وثقافتها أعمق من مجرد نقل العري والتعري، لأن العري والتعري- ولو في نهاية المطاف- هي أفعال إنسانية، وممارسات مفهومة، ومقبولة، ولكنها مشروطة ومرتبطة بمساحات معينة، ولأغراض معينة في بعض الثقافات دون غيرها.
خطورة طغيان الصورة وثقافتها- ولو لم تكن عارية- تكمن مثلا في تغليب أهمية وقيمة الشكل على المضمون، والمظهر على الجوهر بحيث يتحول الشكل والمنظر إلى هاجس ضاغط، وعصاب قاهر، وأولوية قصوى، ولو على حساب المضمون والجوهر، أو حتى بلا مضمون ولا جوهر!!!
من أجل ذلك أتأمل بشغف المعارك الطاحنة التي تدور في مجتمعاتنا حول الشكل والمظهر فيما يخص السفور والحجاب مثلا، فمن جانب ترى النسويات الملابس السائرة"حجابا" حتميا على "العقل"!!!، ولا ترى حرية وتحررا إلا مع السفور بدرجاته، ومن ناحية أخرى يصرخ الآخرون، ويطبعون الكبت، ويملئون الجدران والمجالس، والدروس، والملصقات الملونة بشعارات وعبارات وتسجيلات ودعوات تشعرك بأن الحجاب هو الإسلام، وأن وزن الاستجابة لله سبحانه وتعالى بالستر تأتي في مقدمة الأولويات على المرأة فهي تفوق أو تعدل واجب طلب العلم، وتفوق أو تجُب فضل الجهاد بأنواعه، أو تبدو حلا لأوضاع المرأة والمجتمع!!!
وخطورة هذا المنحى أو ذاك بالنسبة لفكرة وفلسفة الحجاب مثلا تكمن في أن أهم أهداف الحجاب- كما أفهم- هو تحييد الشكل، وستر أبرز مظاهر الأنوثة لتتأكد مفاهيم المساواة والإنسانية في العلاقة بين الجنسين، ومن المدهش أن يشيع نمط من الحجاب يجعله بألوانه وهيئته شكلا في حد ذاته!!!، حتى لا تستغرب إذا قرأت على غلاف مجلة فنية أو نسائية حجاب فلانة....حشمة وجاذبية!!! وفي خضم الصراع على الشكل يستمر غياب وانهيار المضمون فلا نحصد على الطرفين أو الجبهتين إلا... الخواء!!!
وهذا الوضع في رأيي المتواضع هو بعض تجليات طغيان ثقافة الصورة والشكل والمظهر بالتالي، وتستطيع أن تجد أمثلة أخرى في نمط تفكيرنا وعلمنا، وأداءنا لوا جباتنا الوظيفية أو إدارة علاقاتنا الإنسانية... "الشكل أهم من المضمون"
*الجنس قيود وآفاق:
في مواجهة التهييج الهائل للغريزة أو الناحية الجنسية في الناس حول العالم عبر وسائط متعددة - أهمها الصورة بالمناسبة- تتنوع ردود أفعالنا، ولكن تغلب عليها الخيبة أو قلة الحيلة:
*البعض يحاول مواجهة هذا المد بالمزيد من التشديد- والصلابة في الأشكال غالبا- وهو يحسب أن الأخلاق ومتانة القيم تترسخ بمجرد ترديد الكلام، وإغلاق الأبواب والنوافذ بعشرات المزاليج، والتضييق على حركة النساء. بوصفهن أصل كل داء وبلاء!!!
*والبعض يرى أن "المرونة" هي واجب الوقت فيذهب ليفتي بالأيسر على طول الخط، وهو يظن نفسه بذلك يوسع من دائرة الدين لتضم أوسع وأعرض جمهور بدلا من تقليص المساحات بما ينفر الناس فيهربوا أو يملوا من الدين برمته.
والموقفان شائعان وكلاهما استجابة للضغوط المتزايدة، وكلاهما يحسب أنه على الصواب دون أن يراجع موقفه في ضوء أصل الشرع أو معطيات الواقع، ومثلهما يأتي موقف"الانفتاح" الذي لا يرى في الأمر تهييجا أو بأسا من أصله، ولكنه يراه انتصارا لقيم التحرر والحرية من بقايا الموروثات، وقمامة الشكليات الزائفة التي تقيدنا وتحول بيننا وبين الانطلاق للتقدم!!!، وعن كل هذه المواقف- رغم تنوعها- يغيب عمق ما يحدث عندنا في النفوس والبيوت والمجتمعات.
تحولات هائلة تقع في عالمنا الجنسي بداية من الخيال الذي يعاد تشكيله لتصبح مخيلتنا الجنسية مستورة بالكامل!!، مرورا بتضاعف حجم وأبعاد هاجس وموضوع الجنس في تفكيرنا وعلاقاتنا ومشاكلنا وكل حياتنا، وانتهاء بالفقه الجديد الذي يحاول التعامل مع تلك الضغوط والمتغيرات إما بالمزيد من التشدد والرفض أو المرونة يسير دون الالتفات إلى عمق التحولات، فالموقف من ممارسات جنسية بعينها، كانت تقليديا محدودة الانتشار أو مستنكرة، أصبح يرتبط بالقدرة عليها، وبموافقة الطرف الآخر في العلاقة أكثر مما يرتبط بمرجعية خارجها، مثل الدين أو فلسفة الجنس في المنظور الإسلامي مثلا؛
وفي مشكلتين تعرضنا لهما على صفحة استشارات مجانين مؤخرا في إحداهما نجد أن الزوجة تسأل عن موقفنا ورأينا في حالتها، وهي متوافقة مع زوجها في الاستمتاع بالإتيان في الدبر، وهي تسأل بمنطق: هو يريد، وأنا أريد فما الموقف،؟! وفي الأخرى يتحدث الزوج عن مشاهدة أفلام جنسية، وعن رغبة عارمة في ممارسة الإتيان في الدبر، وعن خيالات جنسية محددة ومتكررة في كل لقاء حميم مع زوجته، ويلمح أنها تستمتع بهذا وترغب في مواصلة تلك، فماذا يكون الموقف؟
وقد حلت الفياجرا مشكلة القدرة إلي حد كبير، وفكرة المرجعية الخارجية، والأبعاد الفلسفية والغائية تتنحى تدريجيا لصالح تعظيم مفهوم اللذة والاستمتاع ليصبح الغرض الأوحد تقريبا لممارسة الجنس، وتختفي الأبعاد الروحية والوجدانية لتلك الممارسة الجليلة، فما العمل؟!
ومرة أخرى ما معنى الغزو هنا، وكيف نتصدى له؟!
وما نقترحه- مبدئيا- بناء على ما تقدم أننا في حاجة ماسة إلى الفهم والنظر بعمق في مظاهر وانعكاسات، ومغزى وآليات هذه المتغيرات الجديدة، والفهم عندي يسبق الاجتهاد بالطبع، وينبغي أن يسبق الإدلاء بالرأي، أو الاستجابة بموقف، أو المبادرة بفعل التشدد على غير هدي مثل التيسير بغير رؤية.... كلاهما ضار- ولو على المدى البعيد- والتحدي يواجهنا جميعا، لذا لزم التنويه.
واقرأ أيضًا:
جاثوم الجنس والفتاة العربية.. خبرة ومحاولة.. (4) / كيف تقي نفسك من التحرش الجنسي(2) / الجنس في حياة الفتاة العربية! / الاستغلال الجنسي للطفلة التحرش الجنسي