مما لا شك فيه أن مصر تعاني الآن من مشكلة تزيد يوماً بعد يوم، أننا ـ أصبحنا مجتمعاً يفتقد إلى الأب بمعناه الأرحب والأشمل والأفضل، يفتقد وجوده النفسي، المعنوي والمادّي بل والنوعي المتميز مقارنة بأجيال مضت مع التسليم بكل المتغيرات الاجتماعية (التي تسمى بالحراك الاجتماعي) وبكافة التغيرات الكونية، الاقتصادية، السياسية. فالطفل المصري لا ينتظر أكثر من أن يتربى في كنف والديه (وجود أبيه شخصاً وموضوعاً) وهذا حقه لا ينازعه فيه أحد ولا يمكن مجادلة الأمر تحت أي دعوى.
والمسألة ـ للأسفـ تأخذ منحنى خطيراً وهاماً وقاسياً إلى حدّ الوجع.. لقد أصبح غياب الأب نفسياً وجسدياً علامة فارقة للطفولة المصرية ولجيل المراهقين والشباب الحالي ـ تحديداً هؤلاء الذين ولدوا في السبعينات والثمانينات.
أب.. ليست له أي وظيفة أسرية سوى بذر بذرة الحمل، بمعنى إيداع الحيوان المنوي في رحم امرأته من أجل ذرية صالحة أو طالحة، أب.. يكمل (أبوّته) تلك.. قبل ولادة أطفاله.. ينهيها.
أب.. أبوته، تعني ـ فقط ـ شأناً بيولوجياً محضاً، يبذر البذرة ولا شيء آخر.. ربما في عطلته السنوية التي يأتيها شهراً أو شهرين كل سنة أو كل سنتين، حتى وهو موجود في أجازته تلك، يكون مزعجاً للنظام الذي تعودت عليه الأسرة بدونه، ويكون أيضاً غائباً نفسياً لا يكسب ولا يكتسب الاحترام في محيطه، وكأنه بنك متنقل أب (مختصر)، (مختزل)، لا يمكن أن يكون والداً، لكنه ـ مجرد أداة فعل للحمل.
أب لفعل واحد فقط، أب مع وقف التنفيذ، لا هو أب (جديد) ولا هو والد (قديم)، هو بصراحة (لا أب)، لا يترك وراءه أثراً يقتفي، ليس له ظل إذا انتصب واقفاً في الشمس، أو مشى بعرض الطريق، لا يعرف أولاده ولا يعرفونه كأب فعلي يمارس الوالدية الصحيحة! أب.. مفترض. أنه الذكر المُوّلد لذرية تفتقر إلى التربية وإلى عطاء الأب الفعلي..
سيكولوجياً ـالأب حبة اللقاح، أب خيالي، (فانتازي)، يتصوره الرجال والنساء كفحل يلقح امرأته في زياراته العابرة، ورمز للعلاقة الجنسية الخاطفة (الناجحة)، هو كسوبرمان أو الرجل العنكبوت لطفلة صغيرة في غرفة صغيرة وبيت ليس به إلاّ الإناث و العرائس الصغيرة، هو من يمكن أن يتخيله الأولاد والبنات وهم يلعبون (بابا ده لازم يكون راجل كبير وضخم بحق وحقيق).
بشكل أو آخر هذا الأب هو نتاج مؤكد لعصر العولمة والتكنولوجيا والمعلومات، ونتاج للهجرة الذكورية إلى بلاد الواق واق. هو حتى لو كان (صعيدياً) يبني المدن الواقعة وراء البحار والصحاريِ، أب (مودرن) أو أب (ما بعد الحداثة)، أب (شجاع) وجديد جرئ يتحمل الوحدة ويتجرع الصبر ويقطع المفاهيم القديمة للأبوة بسكين بارقة في الظلام وقاتلة للأمان.
أب ابن عصر السوق المفتوحة. أبو (الكاش) والتحويلات البنكية التلغرافية، أب عبر الهاتف والموبايل والفاكس والكاسيتات التي يحملها القادمون. أب تباع أبوته وتشتري كأي سلعة (فهو قد يشتري من يحلّ محلّه بالهدية والكلمة الحسنة أو بالمال، تمشياً مع مبدأ ـ الصحة لمن يدفع أكثر)، أب بالقطعة يمكنك التعامل معه كحبة أسبرين إذا داهمك صداع تتناول علبتها من فوق الرف.
وطبقاً لمبدأ الحداثة فإن ذلك الأب يمارس أبوته دون رجولة، ودون قواعد يفرضها النوع. أب مثالي لنوعية الناس الذين يعتقدون بأن الرجل في البيت إما ليست له لازمة أو أنه جزء من المشكلة.ولكافة الأسباب السابقة فإن الأب حبة اللقاح يمثل موجة من موجات المستقبل يمثل أقلية لها وزن تنمو بسرعة في مصر يمكن تصورها بحوالي (30%) ومع كل سنة تمر علينا فإن هناك أطفال يولدون أكثر لآباء حبة اللقاح.
وهكذا وكأن الأزواج وزوجاتهم في كثير في الأسر قد ابتعدوا مسافات ومسافات وكمن كل منهما في دائرته المغلقة، الأب في غربته التي أصبحت الوحدة الاكتئاب تؤنسانه فيها. انتزعت منه الوحشة والحساسية وصار في مكانه النائي ذاك، يشحذ التحيات والهمهمات. يتوحد مع مباريات كرة القدم أو الجلوس على مقاهي (ديكور) أو محلات (فول وطعمية) تصغر الوطن وتختزله جداً في صورة تتهشم بسرعة. وهي أغلقت عليها أبوابها ونامت مع أحزانها وأولادها تضمّ أو لا تضمّ صورة الرجل الحاضر الغائب، المفقود، تتغضن ملامحها، وتفقد النضارة وعندما يعود وتلتقي الدائرتان، تتماسان في أشكال شبه مستحيلة مُستغربة وغير متحققة إنسانياً.
المشكلة إذن أن تلك الوالدية الناتجة عن (الأب حبة اللقاح)، والأم الحاضنة لأولادها في دائرتها المغلقة تزرع في المجتمع مفاهيم مبتورة عن الوالدية والأسرة والزواج، والأسرة (هي التي تأسر أعضاءها إليها ولا تدعهم ينفكون عنها لا بالهجرة ولا بالشرود)، (ويعني الزواج أن يكون الرجل والمرأة زوج للآخر معه حوله ولا يمكن أن يتحقق من على بعد)... إذا اختل بعض أو كل ذلك تتزعزع أركان المجتمع ويختل المفهوم الأسري الموحد المتوحد القوي والشامل.
يهتز مفهوم الوالدية ويتصدع مصطلح التربية وبعد أن تطول هجرة هذا الأب حبة اللقاح يتعوّدها ويفقد اسمه معناه، تتغير ملامحه وتبتعد تشكيلته العصبية والنفسية عن روح امرأته وأولاده... المصيبة الكبرى التي وقعت هي أن بعض إن لم يكن أغلب هؤلاء الأولاد لا يرون ضرورة أو احتياجاً لهذا الأب.. ونجدهم يصابون باضطرابات نفسية اجتماعية تتمحور حول الإحساس بعدم الأمان وفقدان الثقة بالنفس، وهنا ينبغي أن نناقش مفهوم الأبوة ومعنى الوالدية في مجتمعنا وإمكانات تصحيحها أو تيسيرها أو تفادي آثارها السلبية في ضوء القسوة الاقتصادية البالغة التي تطحن الناس، والشهية المفتوحة جداً للأولاد على كل ما هو مثير من موسيقى وموبايلات ودروس خصوصية وسفر للخارج وملابس ماركتها عالمية (Designer).
كل سنة تمر بنا يتراكم ويكبر وجود الأب حبة اللقاح في مجتمعنا ويحتل حيزاً من ثقافتنا ومسلسلاتنا وفننا الرفيع. عضوياً ـ هذا الأب ـ متخفي، لبس طاقية الإخفاء ومضى يسعى... يحتل لا مكان، وهو كذكر وَلاّد يحتل مساحة كبيرة يلقي ببذرة، ويزيد بذوره ويزيد من الكثافة السكانية ويمضي، وكأنه المقصود بتلك الأغنية التي لاقت نجاحاً ورواجاً (بابا فين؟!) يغنيها أطفال تركوا لوحدهم فلا نرى في مشهد الفيديو كليب لا أم ولا خالة وإنما عيال يمرحون ويرقصون وسائل متسائل في التليفون (بابا فين؟...) فعلاً (بابا فين؟!).
وإذا تخيلنا أننا سنؤلف أغنية تناسب مفهوم الأب حبة اللقاح لوجدناها تدور حول: أين بابا.. هل يريدني حقاً.. أين هو.. مسافر.. شافك وأنت صغير.. هيجيلك وأنت كبير.
ـ هل يحبني ـ طبعاً وفخور بيك!
ـ طيب هو مشي ليه؟!
ـ عشان يجيب فلوس؟! فلوس كثيرة...
وهو شخصية فيلمية كارتونية مضحكة ومبكية في آن واحد، ولا يمكن أن ننسي فيلم (عرق البلح) للراحل رضوان الكاشف الذي صور فيه ببراعة نزوح كل الرجال عن القرية التي تركت لنساء متعبات منهكات نفسياً وجنسياً.. ومعهن مراهق وعجوز، وعندما عاد الرجال عادوا مشوهين مضطربين وعاجزين نفسياً وجنسياً، أما في (خالتي فرنسا) فالرجل إما يتزوج في غفلة، وهو النشال، وهو الميت، وهو الضائع،وهو تاجر المخدرات، مما أدّى إلى تأصيل مفهوم (المرأة الذكر) الدور الذي أدته ببراعة فائقة المبدعة (عبلة كامل) فهي التي تربي وتدافع وتحمي وتقاتل الأسود والأبقار في مجتمع ضاعت واهترأت فيه القيم.
إن فلسفة الأب الغائب نفسياً وجسدياً أو أيهما، أصبحت سائدة اليوم في الخطاب الثقافي ومعظمها للأسف ـ قد أصبح ـ يعتمد على النصح والوعظ والإرشاد أو على التفكير الرغائبي (التمني ـالحلم ـالابتعاد عن الواقع قدر الإمكان وإنكاره والعبث به)، (وإيه يعني ما هو الأم تقوم بدور الأب وخلاص) وقد يقود الخطاب إلى تبرير متدني مثل (قضا أخف من قضا) (أب غائب أحسن من أب فاسد).
بمعنى آخر تغير الموضوع؟،، أمرُ جد خطير لأن الأولاد يضيعون فيه، فلا نركز عليهم وعلى مستقبلهم وإنما نتجه إلى مناقشة أحوالنا نحن. وهنا يكون القلق العميق من متجذراً فينا وكأنه لا يوجد مشكلة ولا يوجد أطفال يعانون ولا توجد أجيال قادمة يتهددها خطر التفكك والشرذمة.
هل لم يعد لنا سوى إعادة تعريف الأبوة وفق منظور اجتماعي مهشم: ما هو دور الأب البيولوجي لأي طفل؟! هل كان مستعداً للعب دورة الحقيقي كوالد، مربي ومسئول؟! بمعنى آخر جلّ ما نخشاه هو تصدع مفهوم الأبوة كما تصدعت مفاهيم أخرى منها (المعلّم) و(المهندس) و(الأستاذ) و(الدكتور)... وترامت تحتها فئات لا تدري كنهها أو ماهيتها، هل يصل الأمر بطرح حاد وجرئ [ليس كل الذكور رجال وليس كل الذي يخلّف أب].. هل أصبح الأب عاملاً زواجياً تولد له أطفال ليربيهم الآخرون (الأم ـ الجدّ ـ العمّ ـ الخال وربما الجيران؟!) وهنا يُنزع من الأمر روح النص، فلا يوجد أب، ويوجد آخرون يلعبون دور الأب..؟!
الأب يعني في المفهوم الأسري، الاجتماعي والتربوي، الرجل الذي يعرف كيف يربي أولاده في مواجهة (أسرة قد تتكامل بدون الأب)، بصرف النظر عن عيوبها، نواقصها التي تنطبع على كل فرد حسب حاله ونوعه ونوعيته! ويصبح الأب حبة اللقاح عدوانياً على الذرية وعلى شكل الأسرة بل ومؤسساً لمفهوم (اللامبالاة و"الأنامالية").
وإذا سَرَى مفهوم الأب حبة اللقاح وانتشر وإذا صرحت النسوة أنه لا لازمة إطلاقاً لعودة ذلك الأب فإن الأمر جَدّ خطير ويحتاج إلى مراجعة شاملة وجديدة.
3 يوليو 2004
اقرأ أيضاً:
صمت الأزواج.. طلقات في جسد الزوجات / سيكولوجية الخصوصية الزوجية(2) / التراكمات في الحياة الزوجية(2) / الصمت الزوجي