المادية سمة من سمات العصر، هذا العصر الذي يغمر أهله بشهوات وشبهات بعضها فوق بعض، وحيث يباع كل شيء، ويشترى: الجمال تتكفل به مباضع الجراحين، وأشعة الليزر، ووصفات التنحيف الغالية.
الانتقال لابد له من مركبة مكيفة الهواء تحميك من البرد أو تحتضنك في الحر لترتاح وتشعر بالرفاهية. والبيع والشراء له معابد ومساحات أصبحت تفوق الحدائق والملاعب فخامة وازدحاماً. والروح أصبحت محاصرة بالأجهزة الإلكترونية والمفروشات والأشياء... لقد أصبحنا نعيش في حضارة الأشياء بحق.
ويسألونك عن الرومانسية!! ستجدها وقد تحولت إلى هدايا مستوردة أو لغة رقمية محوسبة تنتقل عبر جهاز أو من جهاز إلى جهاز!!
ويسألونك عن الخصوصية!! وستجدها قد صارت صندوق بريد إلكتروني "خاص"، أو مساحة استجمام مقتطعة من الطبيعة يحوطها سور يحميها من فضول العامة لتستلقي هناك مغمضا عينيك لتستمتع وتستجم.
ويسألونك عن الروح! فابحث عنها.. ربما وجدتها تحاول البقاء وسط غابة من الظروف غير المواتية، وهي تهرب.. تصرخ من أثقال غربة وضعها حولها صاحبها أو حاملها، ثم عاد يشكو الوحدة أو الملل!!
هو أو هي.. أسلم أو أسلمت الروح للأجهزة والأشياء بحيث لا نعرف من الذي يستخدم ماذا؟ أيهما يستهلك الآخر؟!!
ثم عدنا نتساءل: أين الإنسانية؟! أين الروح؟! أين الرومانسية؟!
ويأتي رمضان..
وسط هذه المتاهة يلوح من العام للعام شهر كامل مخصص للأرواح والنفوس لتغتسل وتتخفف من أثقال المادة بأنواعها، ونقابله نحن على طريقتنا مدججين بالأشياء: أطعمة ورفاهية وأجهزة وبرامج إلكترونية خاصة!!
ونحن من فرط السذاجة نعتقده امتناعا عن الطعام والشراب المباح، واللغو المرفوض.. نصف اليوم أو يزيد، ولا نلتفت أن جوهر رمضان هو الانحياز للروح على حساب المادة، والطعام والجنس مجرد رمزين لأنشطة تستهلك أشياء فيها من المادة أكثر مما فيها من نصيب للروح.
وهي ليست أنشطة مذمومة أو محرمة في ذاتها، ولكن الصيام يأتي ليجعلها هامشا على متن الروح، وليفسح بالفريضة والوجوب مكانا ومساحة لهذه الروح التي تكاد تختنق طوال العام، وفي كل نشاط!!
يحتفي رمضان بتلك اليتيمة المعذبة في عصر الأشياء والشهوات، ونحتفي نحن به بمضاعفة الأشياء والشهوات.
ليس المقصود من رمضان تغيير مواعيد وعادات بقدر ما المقصود هو تغيير نمط التعامل مع الأشياء، أن نعود نحن إلى مقعد التحكم والسيطرة والاستخدام، فهي تكون هناك في النهار طعاماً وجنساً وغير ذلك تملأ الآفاق كعادتها بمواد ومفردات وسلع مغرية لامعة براقة، لكنها متروكة راكدة، فإذا جاء الليل كان المقصود أن نغترف من الماء غرفة بأيدينا تسد الرمق وتعين على المواصلة، لا أن ننطلق كالبعير من عقاله نعب الماء، ونعود إلى سيرتنا الأولى في علاقتنا بالأشياء والشهوات.
كيف يتاح هذا لمن ينامون أغلب النهار؟! أو يظنون الصوم مجرد امتناع بالنهار؟! أو يقلبون المقصود.. فيكون رمضان شهر احتفال واحتفاء بالأشياء والشهوات المباحة، وأحياناً غير المباحة؟!
ثم نعود نفتقد الروح، فنسافر بحثا عنها نلتمسها بجوار الكعبة أو في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن الذين حاصرناها مقيمين، فهربت من الاختناق، نحن أضعناها في الزمان فذهبت تلتمس البقاء في المكان!!
ومع النساء..
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}..
ليس رمضان ذمًّا للأشياء أو الشهوات، ولكنه دعوة للتأمل والتحكم وإعادة النظر، وفرصة لإطلاق الروح المحاصرة فتزدهر وتتواصل، ونحن نقرأ آية تحليل "الرفث" ليل رمضان، فهل خطر ببالنا أن رمضان هو شهر تواصل من نوع أو أنواع أخرى مع الزوجات؟!
ونحن نتعلم ونشاهد ويصلنا "البث" عن أوضاع المعاشرة، ومقترحات كسر الملل في العلاقة الجسدية إضافة إلى برامج "النيولوك"، وغير ذلك من مسارات الجسد والصورة التي نحن عليها من الخارج. هل خطر ببال أحد أن يضع برامج للتواصل الروحي والمعنوي؟!
وهل خطر ببال أحد أن في رمضان "رفثا" بالليل ممكنا، وعناق أرواح بالنهار متاحا؟!!
هل بالصلاة وتلاوة القرآن.. معا؟!
هل بإطفاء الأجهزة وهجر الأشياء والاستسلام للبساطة والقليل من الطعام والرفاهية.. معا؟!!
بتجاوز الجسد المرهق المكدود، والانطلاق إلى مراعي الروح، وآفاق ما بعد المادة شوقاً إلى الله سبحانه.. واحة وسط الهجير، واستعادة لما ضاع أو اندرست طرقه حين غطتها رمال الصحراء، فلا اتجاه ولا آثار أقدام!!
أكتب لكم هذا، وأنا أشعر أننا صرنا مجرد معتقلين في أجسادنا وشهواتنا وأشيائنا، أرواحنا ليست حرة، وكم نتكلم ونسمع عن حرية الفكر والعقل، ولا يحدثنا أحد عن حرية الروح!!
فهل بقيت في الجعبة آمال أو مشاريع محاولات؟!
هل منا من يمكنه الشغب ليحرر روحه، أم أن كل من فوق أرضنا سبايا وعبيد؟!
لا أمل للرومانسية، ولا مكان للروح إلا في مساحة محررة يحميها الدين بوصفه قوة، لها تأثيرها وسطوتها في النفوس والمجتمعات التي ما زالت تحترمه. هل تتصورون أننا -نحن قد نكون ضمن الأمل الأخير للرومانسية والروح في الدنيا؟
وبعد..
كثيرا ما يسألني القارئ: حسنا.. وماذا بعد؟!
بسطت أمامنا المشكلة، وأوضحت أبعادها ثم تركتنا دون حل.
وغالباً ما يكون عندي التحليل، ولا أدعي أن لدي الحل الجاهز، وغالبا ما أعتبر أن صياغة الحلول هي عملية جماعية مشتركة لإنضاج النقاش حول التفاصيل والمقترحات.
تعالوا إذن نتأمل ونفكر، وأنا أكتب هذه السطور في اليوم الثاني من رمضان، ولعل أمامنا متسعا بمشيئة الله كيف نستثمر رمضان كما يريد لا كما نريد؟! كيف نفهمه؟! كيف نفك شفرته، ونستوعب إيماءاته؟! كيف نستجيب لندائه ونستسلم لمنطقه وفلسفته؟! ما هي المساحات التي ينبغي أن يعمل عليها رمضان في حياتنا لتتغير ونتغير؟! ما هي الفرص التي يتيحها أمامنا الشهر الكريم فلا نتركها تفوت؟! ما هي العطايا والمنح والفيوضات المودعة في أحكامه لنأخذ ونعطي غيرنا من البشر في عالم تبحث فيه الروح عن موطئ قدم؟!
ألسنا أولى بالتائهين الهاربين الهائمين على وجوههم بحثاً عن ملاذ للروح؟ ألسنا أولى بهم من اليهودية المحرفة أو الهندوسية الوثنية أو البوذية، وكلهم يحصدون حصادا وفيرا، ونحن ما زلنا نقدم ديننا بشكل مبتسر ومنقوص!!
تسألون: وماذا بعد؟! وأنا أقول: تعالوا نبحث... معا.
واقرأ أيضًا:
كيف تدفع عصابة بوش الثمن فادحًا؟! / الذوق العام / مصر ولادة وأولادنا متفرجون ومتفجرون