مقدمة
العلاقة الزوجية هي علاقة خاصة، دافئة، علاقة حميمة بين زوجين..
هي علاقة تبدأ باسم الله وبكلمة الله، يباركها أهل السماء والأرض ويفرح بها الكون. علاقة مقدسة، لأنها علاقة بناء.. علاقة مليئة بأجمل مشاعر وأعلى درجات من اللذة التي خلقها الله، فهي علاقة بناء مشاعر الحب في الحياة، وهى علاقة ينتج عنها بعد ذلك قدوم طفل أو طفلة إلى الحياة، أي علاقة بناء إنسان جديد تعمر به الحياة.
ولذلك فليس مصادفة أن عقود الزواج في كل الحضارات والثقافات تتم بواسطة رموز الدين وبصيغ تضفى عليها معنى القداسة والعهود التي يجب احترامها، وتتم في كثير من الأحيان في دور العبادة، وهذا يعطي معنى هامًا وهو أن علاقة الزواج ليست مجرد علاقة ثنائية بين رجل وامرأة وإنما هي علاقة يرعاها الله في الأساس ولا تتم في شكلها الصحيح إلا بكلمته.
هذا المعنى شديد الأهمية لكي تتم بقية خطوات الحياة الزوجية بشكل صحيح، ولكي يصبح الحب بين الزوجين والقرب بينهما من الأشياء ذات القيمة العليا في الحياة وبالتالي تأخذ العلاقة الحميمة بينهما أبعادًا رائعة أكثر من كونها لقاء جسدين، فهي علاقة جسدية ممتعة لأقصى ما تكون درجات المتعة (في حالة ممارستها بشكل صحيح) ولكنها لا تتوقف عند حدود الجسد، وإنما هي علاقة لها امتدادات عاطفية وإنسانية وروحية هائلة، لأنها -كما قلنا- علاقة حميمة توضع فيها بذرة الحب وتوضع فيها بذرة الإنسان.
والجنس هو ممارسة للحب (Making love) وليس حركات ميكانيكية تؤدى، وبالتالي فالتداخل بينه وبين أرق المشاعر الإنسانية قائم طول الوقت (أو هكذا يجب أن يكون)، وحين ينفصل عن هذه المشاعر تفقد العلاقة الجنسية أبعادها الوجدانية والروحية والإنسانية وحينئذ يأتى أحد الزوجين (أو كليهما) إلى العيادة النفسية يعاني، وقد تكون المعاناة صريحة أو تكون (وهذا هو الأغلب) متسترة خلف أشياء أخرى مثل آلام جسمانية أو أعراض قلق أو اكتئاب، أو مشكلات اجتماعية ليست لها قيمة، وفى الحقيقة يكون عدم التوافق الجنسي رابضًا خلف كل هذا.
الحب والجنس في العلاقة الزوجية:
كان فرويد يرى أنه لاشيء اسمه الحب وإنما هو الجنس، وبالتالي حاول أن يمسح من تاريخ البشرية شيئًا اسمه الحب على اعتبار أنه وهم أو هو وسيلة فقط للوصول إلى الجنس وأن كل الغزل والأشعار والفنون ما هي إلا مقدمات للجنس، أي أن الجنس هو الأصل والحب هو الفرع. وقد كان وراء هذا الرأي وغيره موجات من الانفجار والانحلال الجنسي بكل أنواعه، فهل يا ترى كان هذا الكلام صحيحًا، وما مدى صحته بشكل خاص في العلاقة الحميمة بين الزوجين؟
دون الدخول في تنظيرات معقدة أو محاولات فلسفية نحاول أن نرى مساحة كل من الحب والجنس في الوعي الإنساني وارتباطات كل منهما.
الجنس (في حالة انفصاله عن الحب) فعل جسدي محدود زمانًا ومكانًا ولذة، أما الحب فهو إحساس شامل ممتد في النفس بكل أبعادها وفى الجسد بكل أجزائه، وهو لا يتوقف عند حدود النفس والجسد بل يسرى في الكون فيشع نورًا عظيمًا.
الجنس حالة مؤقتة تنتهي بمجرد إفراغ الشهوة، أما الحب فهو حالة دائمة تبدأ قبل إفراغ الشهوة وتستمر بعدها، فالشهوة تعيش عدة دقائق والحب يعيش للأبد.
والرغبة الجنسية بين الزوجين قد تذبل أو تموت في حالة المرض أو الشيخوخة، ولكن الحب لا يتأثر كثيرًا بتلك العوارض في حالة كونه حبًا أصيلاً.
الحب غاية والجنس وسيلة.
الحب شعور مقدس والجنس (في حالة انفصاله عن الحب) ليس مقدسًا.
الحب يخلق الرغبة في الاقتراب الجميل والتلامس الرقيق والتلاقي المشروع تحت مظلة السماء ويأتي الجنس كتعبير عن أقصى درجات القرب.
المحبون ليسوا متعجلين على الجنس كهدف... وإنما يصلون إليه كتطور طبيعي لمشاعرهم الفياضة وبالتالي حين يصلون إليه يمارسونه بكل خلجات أجسادهم وبكل جنبات أرواحهم، وحين تحدث الشهوة يهتز لها الجسد كما تهتز لها الروح.
الجنس في كنف الحب له طعم آخر مختلف تراه في نظرة الرغبة الودودة قبله وأثناءه وتراه في نظرة الشكر والامتنان ولمسات الود من بعده.
الحب هو التقاء إنسان (بكل أبعاده) بإنسان آخر (بكل أبعاده)، رحلة من ذات لذات.. عبور للحواجز التي تفصل بين البشر.. أما الجنس (المجرد من الحب) فهو التقاء جسد محدود بجسد محدود، وأحيانًا لا يكون التقاء جسد بجسد بل التقاء عضو جسدي بعضو جسدي أخر.
وفى ظل الحب يتجاوز الجنس كثيرًا من التفاصيل فتصبح وسامة الرجل أو فحولته غير ذات أهمية، ويصبح جمال وجه المرأة أو نضارة جسدها شيئًا ثانويًا.. الأهم هنا هو الرغبة في الاقتراب والالتقاء والذوبان.
حين يلتقي اثنان في علاقة غير مشروعة ومنزوعة الحب فإنهما يكرهان بعضهما، وربما يكرهان نفسيهما بعد الانتهاء من هذه العلاقة الآثمة ويحاول كل منهما الابتعاد عن الآخر والتخلص منه كأنه وصمة... أما في حالة اللقاء المشروع في كنف الحب فإن مشاعر المودة والرضا والامتنان تسري في المكان وتحيط الطرفين بجو من البهجة السامية.
في وجود الحب الحقيقي وفى ظل العلاقة الزوجية المشروعة لا يصبح لعدد مرات الجماع أو أو أوضاعه أو طول مدته أو جمال المرأة أو قدرة الرجل، لا يصبح لهذه الأشياء الأهمية القصوى، فهي أشياء ثانوية في هذه الحالة، أما حين يغيب الحب تبرز هذه الأشياء كمشكلات مُلحّة يشكو منها الزوجان مُرّ الشكوى، أو يتفنن فيها ممارسي الجنس للجنس فيقرأون الكتب الجنسية، ويتصفحون المجلات، ويشاهدون المواقع الجنسية بحثًا عن اللذة الجسدية الخالصة؛
ومع ذلك فهم لا يرتوون ولا يشعرون بالرضا أو السعادة، لأن هذه المشاعر من صفات الروح، وهم قد جرّدوا الجنس من روحه.. وروح الجنس هو الحب المقدّس السامي.. فالباحثين عن الجنس للجنس أشبه بمن يشرب من ماء البحر.
وفى وجود الحب يسعى كل طرف لإرضاء الآخر بجانب إرضاء نفسه أثناء العلاقة الجنسية، بل إن رضا أحد الطرفين أحيانًا يأتي من رضا الطرف الأخر وسعادته، فبعض النساء مثلاً لا يصلن للنشوة الجنسية
(الرعشة أو الإرجاز) ولكن الزوجة في هذه الحالة تسعد برؤية زوجها وقد وصل إلى هذه الحالة وتكتفي بذلك وكأنها تشعر بالفخر والثقة أنها أوصلته إلى هذه الحالة كما تشعر بالسعادة والرضا أنها أسعدته وأرضته ويشعر هو أيضًا بذلك.. أما في غياب الحب فتتحول العلاقة الجنسية إلى استعراض جنسي بين الطرفين فتتزين المرأة وتتفنن فى إظهار مفاتنها لتسعد هي بذلك وترى قدرتها على سلب عقل الرجل وربما لا تشعر هي بأي مشاعر جنسية أو عاطفيّة فهي تقوم بدور الإغراء والغواية فقط...
وأيضًا الرجل نجده يهتم باستعراض قدرته فقط أمام المرأة، وإذا لم تسعفه قدرته الذاتية استعان بالمنشطات لكي يرفع رأسه فخرًا ويعلن تفوقه الذكورى دونما اهتمام إذا ما كانت هذه الأشياء مطلبًا للمرأة أو إسعادًا لها أم لا، المهم أن يشعر هو بذاته.
في وجود الحب لا يؤثر شيب الشعر ولا تجاعيد الوجه ولا ترهلات الجسم، فلقد رأيت من خلال مهنة العلاج النفسي أزواجًا في الثمانينات من عمرهم يشعرون بإشباع عاطفي وجنسي في علاقتهما حتى ولو فشلا في إقامة علاقة كاملة، في حين أن هناك فتيات في ريعان الشباب يتمتعن بجمال صارخ ولكنهن يعجزن عن الإشباع الجنسي لهن أو لغيرهن على الرغم من علاقاتهن المتعددة، لأن تلك العلاقات تخلو من الحب الحقيقي والعميق اللازم للإشباع.
فالجنس لدى المحبين نوع من التواصل الوجداني والجسدي، وبالتالي فهو يحدث بصور كثيرة ويؤدي إلى حالة من الإشباع والرضا، فقد حكى لي أحد المسنين (حوالي 80 سنة) بأنّ متعته الجسدية والعاطفية تتحقق حين ينام في السرير بجوار زوجته (75سنة) فتلمس ساقه ساقها لا أكثر، فالإشباع هنا ليس إشباعًا فسيولوجيًا فقط وإنما هو نوع من الارتواء النفسي يتبعه إشباع فسيولوجي أو حتى لا يتبعه في بعض الأحيان فيكون الارتواء النفسي كافيًا خاصة حين يتعذر الإشباع الفسيولوجي بسبب السن أو المرض.
وهذا المستوى من الوعي الإنساني والوجداني ومن الثراء في وسائل التواصل والتعبير يحمي الرجل والمرأة من مخاوف الكبر والشيخوخة لأنه يعطى الفرصة للاستمرار حتى اللحظات الأخيرة من العمر في حالة التوصل الودود المحب، بل ربما لا نبالغ إذا قلنا أن الزوجين المحبين ذوي الوعي الممتد يشعران بأن علاقتهما ممتدة حتى بعد الموت فهما سيلتقيان حتمًا في العالم الآخر ليواصلا ما بدآه في الدنيا من علاقة حميمة في جنة الله في الآخرة، وهذا هو أرقى مستويات الوعي الإنساني وأرقى مستويات العلاقة الحميمة.
يتبع>>>>>>: العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (2)
اقرأ أيضاً:
الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق / الحوار وقاية من العنف / الثانوية العامة....مرحلة دراسية أم أزمة نمو ؟