ما إن يبادر الطبيب أهل المريض أن ابنهم مصاب بالفصام حتى يتساءلون أقصدك يعني ازدواج الشخصية...
بس هو مش شخصيتين..... وبعدين هو بيعرف كل حاجة، فيعود الطبيب ليشرح أن الفصام لا يعني ازدواج الشخصية....
وأن الفصام مرض مختلف تماما عن مرض ازدواج الشخصية... فهذا مرض وهذا مرض.... ازدواج الشخصية مرض نفسي والفصام مرض عقلي...
وهو في فرق يا دكتور بين المرض النفسي والمرض العقلي؟..
هكذا يسأل أهل المريض... فيعتدل الطبيب في جلسته استعدادا لشرح مهم سيساعد الأهل في علاج ابنهم.... نعم المرض النفسي...
هو الذي يمكن لأي أحد منا في أي مرحلة من حياته أن يصاب به كحالة مؤقتة نتيجة التعرض لظروف أو ضغوط وله سبب واضح سواء كان هذا السبب معروف للمريض أو احتاج لمن يساعده في معرفته ولكن هو تفاعل ناتج عن عدم التكيف مع الواقع...
والمريض النفسي يدرك أنه يحتاج للمساعدة ويطلبها..
والمرض النفسي يشفى تماما سواء من خلال العلاج النفسي أو الأدوية النفسية، أما المرض العقلي فلا توجد له أسباب واضحة... والضغوط النفسية هي عوامل مساعدة لظهوره ولكنها ليست السبب فيه ويصاحبه تغيرات في كيمياء المخ..... والمريض العقلي لا يدرك طبيعة مرضه ولا يطلب المساعدة.... والمرض العقلي مرض مزمن لا يشقى صاحبه حتى وإن كان على صورة نوبات يتحسن بعدها المريض تماما فغن احتمال الانتكاس أو حدوث نوبة جديدة يظل احتمالا غير مستبعد...
وللعلاج الدوائي دور هام في تحسين المريض العقلي والسيطرة على أعراض المرض وللعلاج النفسي دور ولكنه ليس بالحجم الذي يؤديه في علاج الأمراض النفسية... وربما كان تأهيل الآهل لكيفية التعامل مع مريضهم العقلي، وإعادة تأهيل المريض العقلي للاندماج في المجتمع هي أهم أدوار العلاج النفسي في هذه الحالة... وسنقوم بشرح حالة ازدواج الشخصية كنموذج للمرض النفسي....
وبالمناسبة هي حالة نادرة جدا في الطب النفسي ويمكن ألا تمر على كثير من الأطباء النفسيين وربما يكون سبب شهرتها مع ندرتها هو تناول الأفلام السينمائية وبعض المسلسلات لهذه الحالة سواء كانت أفلاما أجنبية أو عربية وربما كان فيلم (أين عقلي) من أكثر الأفلام العربية التي تناولت الأمر بصورة أقرب إلى الحقيقة العلمية مع مراعاة الحبكة الدرامية......
وإن تجاوزت معظم الأفلام والمسلسلات الأخرى الدقة العلمية بل ووقع بعضها في أخطاء فادحة وسأقوم بشرح حالة ازدواج الشخصية من خلال حالة واقعية حيث أدعي أنني شاهدت حالتين من ازدواج الشخصية في خلال حياتي العملية....
حضرت المريضة مع أهلها إلى الاستقبال وهي شابة لا يتجاوز عمرها التاسعة عشر بياناتها كانت تقول أنها لم تكمل تعليمها وتعمل عاملة في مصنع وأنها تقطن إحدى المناطق الشعبية الفقيرة... وعن سبب إحضارها للمستشفى ذكر أخوها أنها ترفض الذهاب لعملها كعاملة في مصنع وتذهب إلى أحد الكليات مدعية أنها طالبة في هذه الكلية وأنها بالفعل تذهب وتشتري من على الأرصفة الكتب الخاصة بهذه الدراسة وأنهم عندما يواجهونها بالحقيقة تثور عليهم وتقول أنها لا تنتمي إليهم وكان سلوك الفتاة في الاستقبال يتميز بالتكبر وتعاملني بنوع من التعالي وترفض الحديث على أساس أني من أكون حتى أتحدث معها وكان يبدو من ملابسها أنها تحاول أن تلبس بصورة مخالفة فعلا لأهل منطقتها الشعبية أو حسب كونها عاملة في أحد المصانع البسيطة المهم أني أدخلتها المستشفى على أساس أنها احتمال كبير أن تكون بدايات لحالة الفصام العقلي على اعتبار أن ما تعبر عنه من أنها طالبة بأحد الكليات ورفضها لأهلها هو نوع من ضلالات العظمة....
وأن باقي الصورة ستكتمل مع مزيد من الفحص وأخذ المزيد من التفاصيل من الأهل.....
كنت نوباتجيا في ذلك اليوم فقمت بالمرور على العنبر في الفترة المسائية وكان طبيعيا أن أمر عليها على أساس أنها حالة جديدة ربما تحتاج لأي نوع من التدخل لأفاجأ بشيء أدهشني وهو أن من كانت تتعامل معي بعظمة في الصباح...
هي الآن منزوية باكية في سريرها ترد باستكانة وحزن وتعلن أنها فعلا عاملة في مصنع وتشكو من زميلاتها وسوء معاملتهن.... لأنها تلبس بشكل مختلف عنهن... كانت كتب الدراسة ملقاة بجانبها وعندما سألتها عن الدراسة قلت أنها فعلا كانت ستدخل الكلية وحالت ظروف وفاة أختها دون دخول الكلية بدأ كلامها منطقيا على غير حالها في الصباح... بدت شخصية أخرى تماما....
إذا فالأمر يحتاج إلى استعداد ليأتي الأخ هذه المرة ويحكي القصة بالكامل لأنني سألته عنها وقلت هناك في حياة أختك ما يحتاج أن يقص ولم تذكره فقال إننا أسرة فقيرة جدا كثيرة العدد ولكن وهب الله بناتها جمالا أخاذا....
رأى أحد الأثرياء أختنا الكبرى وأعجب بها وتزوجها فعلا ولما رأى كثرة العدد أخذ هذه الأخت لتعيش مع أختها الكبرى في أرقى منطقة سكنية وتولى تعليمها في أفضل المدارس واعتبرها ابنته وكان يغدق عليها في الملابس ووصلت فعلا إلى المرحلة الثانوية وحصلت على مجموع يؤهلها لدخول الكلية ولكن إرادة الله شاءت أن تموت أختها الكبرى فجأة في حادثة فكان الطبيعي أن تعود إلى أسرتها الأصلية لا تحمل معها إلا ملابسها الفخمة وذكريات جميلة عن أيام سعيدة عاشتها في كنف هذا الزوج لأختها والطبيعي أن أسرتها لم تستطيع إكمال تعليمها بل وطلبت منها النزول للعمل في هذا المصنع البسيط لتساعد في مصاريف الحياة ولتمثل ملابسها استفزازا لزميلاتها الفقيرات حيث تعاملهم بنوع من الرفض فأطلقوا عليها الأقاويل لنجدها قد رفضت الذهاب إلى العمل وبدأت في الذهاب إلى الكلية وهي تصر على أنها دخلتها وعندما نفهمها الحقيقة تثور....
إنه الضغط النفسي الرهيب من انتقالها من حياة الرفاهية غلى حياة ترفضها......
لم تستطع أن تتحمل كان الحل أن تنقسم شخصيتها... إلى شخصيتها العادية الفقيرة المسكينة الحزينة التي تواجه الواقع المرير.... وشخصية تعيش في عالم آخر تتمناه حيث تكمل تعليمها في الكلية التي اختارتها ولتذهب إلى الكلية ولتشتري الكتب.... إنه الهروب من الواقع..... الهروب من التجربة المؤلمة... والأمر يحتاج إلى ما نسميه بالعلاج النفسي العميق إن صح التعبير الذي يعرفها بما حدث ويأخذ بيدها
لتتعامل مع الواقع ويعاد تأهيلها لمواجهة الحياة وليس الهروب منه... لتشفى تماما وتعود لحياتها الطبيعية... كانت هذه هي قصة ازدواج الشخصية فما هي قصة الفصام....
هذا حديث آخر يطول شرحه فانتظرونا......
واقرأ أيضاً:
مقالات عن الفصام والوهام / الفصام والوهام Schizophrenias & delusions