لكل شيء في هذه الحياة إرهاصات ومقدمات حين تمر دون قراءة كافية تتبعها المشكلات وحين تتراكم المشكلات دون حل تتحول إلى أزمات وحين تتراكم الأخيرة دون حل تتحول إلى كوارث وانفجارات قد تبدو مفاجئة لمن أغمض عينيه وسد أذنيه ووضع على قلبه غشاوة. فهل كانت ثمة إرهاصات لأحداث التحرش الجنسي العدواني الجماعي في وسط القاهرة في أول أيام عيد الفطر أمام سينما مترو وفي شارع طلعت حرب المكتظ بالبشر ليلا ونهارا؟.... بالتأكيد نعم، وفيما يلي بيان ذلك.
الإرهاصات:
1- انتشار الزواج العرفي لحل المشكلة الجنسية التي عجز المجتمع عن حلها فاختار الشباب هذه الصيغة التوفيقية والتلفيقية التي تسمح بالمعاشرة على الطريقة الغربية تحت سقف شبه شرعي في وجود ورقة صغيرة لزوم راحة الضمير، وهو نفس الأسلوب الذي يتبعه الكبار كثيرا حين يأتون كل المنكرات ويفعلون الموبقات ويتسترون برداء الشرع أو الشرعية لزوم المحافظة على الشكل مع الاستمرار في انتهاك المضمون وتدميره.
2 – زنا المحارم والذي بلغت نسبة حدوثه 10% في العينة التي تمت دراستها في مدينة القاهرة والمكونة من 500 فتاة، وتبين معها أن 30% من الأسر في القاهرة يعيشون في غرفة واحدة ويشاهدون بالصوت والصورة في كل ليلة وعلى الهواء مباشرة علاقات جنسية شرعية وغير شرعية.
3- حالات الحمل والإجهاض خارج إطار الزواج والتي زادت معدلاتها الظاهرة والمستترة بشكل ملفت للنظر.
4 – العشوائيات التي شوهت وجه القاهرة والمدن الكبرى، وصارت مستودعا لكل التشوهات النفسية والأخلاقية.
5 – الأغاني المبتذلة واستمرارها في الانحدار، حيث كلما انحدرت أغنية أكثر من سابقتها ضمنت الانتشار والذيوع بين جمهور ينحدر ذوقه دون أن ينتبه أو يهتم أحد.
6 – خيام رمضان وما حدث فيها هذا العام من رقص شرقي وعري غير معهود في شهور رمضان قبل ذلك، وكأن ضغط غرائز التعري لم ترعوِ أمام قدسية الشهر الكريم.
الدلالات:
** استجابة الناس للحدث: تلك الاستجابة التي تضع علامات استفهام كثيرة، إذ يكاد العقل العادي التقليدي لا يصدق حدوث ما حدث وسط هذه الجموع من الناس حيث تنتهك حرمة فتاة أو امرأة والناس لا تستطيع منع ذلك الفعل أو عقاب الفاعل أو الإمساك به وتسليمه لمن يهمهم الأمر (إن كان ثمة من يهمه)، وفي هذا دلالة على أن سلبية المصريين ولا مبالاتهم قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة وغير محتملة، إذ انهارت لديهم خطوط كثيرة ووصلوا إلى الخطوط الأخيرة وهي الغيرة على العرض والشرف والكرامة وحماية الضعيف وحماية المرأة والدفاع عن كل هذا حتى ولو دفع الإنسان حياته ثمنا، فالحياة بدون هذه المعاني والقيم هي أدنى من حياة الدواب وأكثر شرا من حياة الشياطين. هذه الفردية والأنانية والسلبية واللامبالاة والدياثة لدى من شاهدوا الحدث ولم يفعلوا شيئا تعطي معيارا داخل المنطقة الحمراء في انحدار السمات البشرية.
** العنف ضد الأنثى: فالتحرش ومحاولة الاغتصاب فعل مركب من الرغبة الشديدة في المرأة على المستوى الجسدي فقط مع الخوف منها والاحتقار لها واعتبارها موضوعا جنسيا فقط وليست إنسانة مكتملة الإنسانية. وقد يكون الخطاب الديني المتشدد قد ساهم في ذلك متحالفا –دون أن يدري أو يقصد– مع الفيديو كليب، فكلاهما صور المرأة على أنها جسد مثير للرغبة ومسكون بالغواية، أحيانا يتعرى إلى أقصى درجات التعري وأحيانا أخرى يتخفى إلى أقصى درجات التخفي، وفي الحالتين تصل الرسالة حول هذه المخلوقة المسمى بالمرأة، والتي لا تستوجب الحب والتواصل الإنساني وإنما تستوجب الانتهاك الغريزي الشره حين تلوح الفرصة.
وهناك بعد آخر لهذا العدوان ضد المرأة مرده تهديد التفوق الذكوري بعد صعود أسهم المرأة وانتقالها من مرحلة التحرير إلى مرحلة التمكين والمزاحمة للرجل والتفوق عليه أحيانا، وقد أدى هذا إلى شعور بالغيرة والحسد من الشباب تجاه الفتيات ففي كثير من البيوت نجد الفتاة أكثر نضجا وأكثر حرصا على مصلحتها من أخيها الولد، وكثيرا ما تنال استحسان الأسرة في حين ينال هو اللوم والتوبيخ على طيشه ونزقه واندفاعه وفشله. وكأن ما حدث كان لحظة ثأر لهذا الشباب الطائش النزق المنتقم لكرامته الذكورية المهدرة ولتفوقه المهدد، وهو يستغل في هذه المعركة تفوقه العضلي على المرأة ليوازن ويواجه تفوقها عليه في جوانب كثيرة.
** أزمة الاحتياجات: فالإنسان طبقا لنظرية العالم النفسي ماسلو له احتياجات تتدرج في تصاعد هرمي قاعدته الاحتياجات البيولوجية (الطعام والشراب والجنس) يعلوها الاحتياج للأمن يعلوه الاحتياج للحب يعلوه الاحتياج للتقدير الاجتماعي يعلوه الاحتياج لتحقيق الذات، يعلوه الاحتياج للتواصل الروحي. ومن الواضح للمتخصص وغير المتخصص أن هناك حرمانا شاملا لكثير من هذه الاحتياجات، على الرغم من وجود احتمالات لإشباع مفرط في بعضها عند بعض الناس، ولكن في النهاية نجد اضطراب شديد في التوازن بين الإشباع والحرمان ذلك التوازن الذي يحفظ للنفس البشرية استقرارها واعتدالها، ففي المجتمع المصري فئات متخمة ماديا وغرائزيا يقابلها فئات شديدة الحرمان حتى من الاحتياجات الأساسية الدنيا.
ليس هذا فقط بل إن المحرومين لا يجدون حتى إشباعا على مستوى الحلم، فقد انهارت أحلام كثير من الشباب ولم يعد يبدو في الأفق البعيد أو القريب بصيص نور يبعث على التفاؤل أو انتظار الانفراج. وقد أتيحت لي فرصة للوقوف على أحوال ساكني القبور في منطقة الدرّاسة وشاهدت بعيني كيف يكون الحرمان لدى أناس استوت عندهم الحياة مع الموت فسكنوا القبور قبل الأوان. وليست المشكلة هنا فقط في الحرمان الشديد وإنما هناك تلويح بالإشباع دون إشباع، بمعنى أن كثيرا من الشباب يقضي ساعات طويلة أمام القنوات الجنسية أو المواقع الجنسية يشاهد كل ألوان الاستمتاع الجنسي وفنونه ثم إذا أغلق التليفزيون أو الإنترنت لم يجد حوله غير حرمان وتحريم مطبق من كل ناحية.
** هيبة الحكومة: والتي يبدو أنها توارت في أعين هؤلاء الشباب إذ أنهم لو تصوروا أن هناك ضبطا وربطا لما انطلقت غرائزهم من عقالها بهذا الشكل الفج المتحدي، بل إن الحدث بشكله الذي وقع يعطي دلالة على التمرد والعصيان لكل سلطات المجتمع السياسية والأمنية والدينية والأخلاقية، ففي اللحظة التي تجمع فيها الشباب حول فتاة فألقوها أرضا أمام أعين المارة وانتهكوا جسدها بهذه الوحشية والوقاحة قد قاموا بانتهاك كل قوانين المجتمع وأعرافه وداسوا كرامته وانتهكوا حرمته عامدين متعمدين.
ورجل الأمن في شوارع وسط البلد ربما يكون قد ساهم (مختارا أو مضطرا تحت إلحاح الفقر والحاجة فيما حدث من سقوط هيبته) فهو قد دخل في لعبة هات وخذ مع البائعين على الأرصفة وسائقي الميكروباصات والسيارات الواقفة في الممنوع بإغماض عين وفتح يد، كل هذا جعله يشعر بأن هيبته مهتزة، وأن مهمته مشوشة، لذلك يصعب أن يقوم بفعل ذات بال في حماية المواطن فهو لم يشعر في أي وقت بأنه مطالب بحمايته، قد يكون مطالب بعقابه أو تحجيمه إذا تجاوز حدوده مع السلطة، أما حمايته هو نفسه فهذا ليس وارد بقوة كافية في ثقافته، فهو يعلم أنه موجود لحفظ النظام من غوغائية الشعب.
** الانشقاق Dissociation: فعلى الرغم من مظاهر التدين الواضحة والمنتشرة خاصة بين الشباب فقد حدث ما حدث، وليس بمستبعد أن يكون من بين هؤلاء الشباب من سهر ليله في صلاة التراويح والتهجد وختم قراءة القرآن وسابق أقرانه في ذلك، ومع هذا حين انتهى رمضان، انشق الوجه الآخر القابع في أعماق وعيه ليحقق إشباعا لغرائز مكتومة، تلك هي غرائز الجنس والعدوان التي لم تجد منصرفا صحيا أمامها، فالخطاب الديني المتشدد قائم على التحريم والترهيب، والخطاب الإعلامي قائم على التغييب والتزييف والخطاب السياسي قائم على الإبعاد والتهميش والوصم والخداع، والخطاب التعليمي قائم على ملء الأدمغة بما لا يحتاجه سوق العمل أو ظروف الحياة الواقعية، والخطاب الأخلاقي قائم على النفاق والازدواجية. وإذا كانت التركيبة هشة بهذا الشكل فإن ذلك يعطي فرصة لجزء من الجهاز النفسي أن ينشق في بعض الأوقات بشكل غير متوقع ليحقق للنفس ما حرمت منه بحق أو بغير حق، وحين يتحقق هذا الهدف يعود هذا الجزء المنشق ليقبع مرة أخرى في أعماق النفس منتظرا لحظة انقضاض قادمة.
** فشل بناء هذا الجيل: فما حدث يعني أن ثمة مراجعات ضرورية وملحة لكل وسائل البناء التربوية بدءا من البيت ومرورا بالمدرسة والمسجد والكنيسة والشارع والأحزاب والوزارات، فمن الواضح أن انهيارا قد حدث في هذه المستويات كلها أو جلها وكلنا مسئولون عنه أو ساهمنا فيه أو التزمنا الصمت السلبي حياله، ولو لم تتم قراءة هذا الأمر قراءة موضوعية صحيحة واعتباره ناقوس خطر يدق في أذاننا فإن أخطارا أخرى كثيرة سوف تتهددنا إن آجلا أو عاجلا كما حدث في حوادث القطارات وكوارث العبّارات.
** إزاحة القهر واغتصاب الإرادة: فمن المعروف أن الإنسان حين يقع تحت قهر سياسي أو اجتماعي أو ديني وحين تسلب إرادته وتنتهك كرامته فإنه يكون قابلا حينئذ لإزاحة كل هذه الأشياء نحو ضحية يعتقد أنها أضعف خاصة إذا لم يستطع الرد على المعتدي الأصلي، ويدخل في هذه الإزاحة ذلك القهر الذي يمارسه رجل ضد زوجته وأبنائه كإزاحة لقهر وقع عليه في عمله أو في مجتمعه.
وبهذه القراءة نستطيع القول أن هذا الشباب لم يشعر بالكرامة أو بالعزة أو بالشرف لأن كل هذه المعاني لا يمكن أن تجتمع مع أفكار ومشاعر فعل التحرش الدنيء الذي حدث، فهذا الشباب قد انتهكت كرامته وسلبت إرادته، واغتصب صوته، وأهملت احتياجاته، وهو الآن يرد ولكن في المكان الخطأ ونحو الضحية الأضعف في نظره.
** ضعف الثقة بالقانون والعدالة: فمن الغريب أن تحدث كل هذه الاعتداءات على أكثر من امرأة وفتاة على مسمع ومرأى مئات من الناس ولا يصل الأمر إلى أقسام الشرطة أو قاعات النيابة والمحاكم، فالناس قد تعلموا من خبراتهم السابقة أن الإبلاغ عن مثل هذه الأشياء دون جدوى، وليس وراءه إلا الفضيحة والبهدلة للضحية وأهلها، وأن الأمن الاجتماعي قد توارى خلف الأمن السياسي الذي استوعب جهود الشرطة بشكل واضح.
واهتزاز هذه الثقة شجع الجناة على الاستمرار في عدوانهم دون خوف من ردع قانوني، وجعل الضحايا يبتلعون مراراتهم في حلوقهم ويؤجلون نيل حقوقهم إلى يوم القيامة، وبعض الناس يقرر أن يأخذ حقه بيده أو بيد حراس شخصيين أو بلطجية يستأجرهم، وهذه كلها علامات انهيار للمنظومة المجتمعية لا يفلح معها بيانات رسمية باردة تمارس الإنكار ودفن الرؤوس في الرمال والتغطية والتمويه والتهوين.
** المخدرات والمسكرات: والتي تساعد على إطلاق الدفعات الغريزية وخاصة الجنس والعدوان، وتضعف الضوابط الطبيعية التي تحول دون انفجار هذه الضوابط. ولا يخفى انتشار أعداد كبيرة من أنواع المخدرات الطبيعية والمخلقة لدى تجار المخدرات وعلى أرفف الصيدليات دون جهود حقيقية ومؤثرة للمواجهة.
** سلوك الحشد: فمن المعروف في علم النفس أن سلوك الفرد وهو وحده يختلف كثيرا عن سلوكه وهو مندمج في وسط مجموعة، ففي الحالة الأخيرة تزول مخاوفه وتتراجع محاذيره ويصبح أكثر قدرة في التعبير عن ما يكمن بداخل نفسه، والجماهير حين تتجمع بهذا الشكل تصبح أبعد ما تكون عن العقلانية والتريث وحساب النتائج فتأتي بأفعال قد توصف بالطيش أو النزق أو الاندفاع.
كانت هذه قراءة مؤلمة لحدث أشد إيلاما، ولو لم تصلنا الرسائل المتضمنة بين ثناياه فسنواجه في المستقبل ما هو أخطر منه.
واقرأ أيضًا:
يوميات رحاب الزواج العرفي؟ ولا الزنا؟! / عن السعار الجنسي في وسط البلد / سعار جنسي علني....وأخشى ....! / التزنيق الجنسي في المواصلات