العلاقة الزوجية يميزها أنها علاقة شديدة القرب (معنويا وحسيا) شديدة الخصوصية، إضافة إلى كونها علاقة مستديمة وعلاقة حتمية. وهذه الخصائص في العلاقة الزوجية يفترض أن تؤدي إلى نتائج إيجابية، وهي فعلا كذلك في حالة نجاحها وتحقيقها لمعاني السكن والمودة والرحمة التي وردت في توصيف أركان هذه العلاقة في القرآن الكريم، أما إذا خرجت العلاقة عن هذا الإطار فإن كل الخصائص السابقة يمكن أن تتحول إلى مشكلات تتراكم عبر الزمن حتى تصبح مزمنة أو مستعصية، وقد تؤدي في قمة متصل التراكم إلى أن يقتل أحد الطرفين الآخر وبصورة بشعة؛
فمثلا كونها علاقة شديدة القرب يعطي فرصة للاحتواء والذوبان الجميل كما يعطي فرصة على الناحية الأخرى للاحتكاكات والتربصات والعلاقات المؤلمة جسديا ونفسيا، وكونها علاقة شديدة الخصوصية يعطي فرصة لحفظ الأسرار والثقة والإفصاح عن الذات دون قيود أو تحفظ، كما يعطي فرصة على الناحية الأخرى لاستغلال الأسرار وابتزاز صاحبها (أو صاحبتها) وإذلاله أو فضحه، وكونها علاقة مستديمة يعطي فرصة لتراكم الذكريات الجميلة والمشاعر الحلوة، كما يعطي على الجانب الآخر فرصة لتراكم مشاعر الإحباط والغضب والكراهية، وكونها علاقة حتمية يعطي إيحاءا للطرفين بالارتباط الدائم والآمن في الدنيا والآخرة، وعلى الجانب الآخر يمكن أن يعطي إحساسا بالدخول في طريق مسدود مع شريك نعاني منه ولا نرغبه ولا نستطيع الفكاك من قيوده.
التراكمات والارتباطات الشرطية:
والتراكمات سواء كانت إيجابية أم سلبية تحدث ما يسمى بالارتباط الشرطي، بمعنى أنه حيثما كانت العلاقة جيدة فإن هناك رصيدا من الأحداث والذكريات الجميلة والأحاسيس اللذيذة تجعل كلا الزوجين حين يلتقيان يشعران بالراحة والأمان والمودة والسعادة لأن ظهور أحدهما على شاشة وعي الآخر يفتح في النفس نوافذ يظهر من خلالها تاريخ ممتد من اللحظات السعيدة، وحيثما كانت العلاقة سيئة فإن ظهور أحدهما على شاشة وعي الآخر يستدعي مشاعر سيئة مرتبطة بتاريخ طويل من الصراع المرير والمعاناة المؤلمة وقد يصل الأمر عند بعض الأزواج أن يشعر بصداع شديد أو غثيان حين يرى شريك حياته وكأن الارتباط الشرطي امتد من النفس إلى الجسد وشمل كل نبضة روح وكل خلية جسد. وربما لا تكون الأمور في الواقع بهذا التبسيط الثنائي بين السعادة والتعاسة، وإنما هي مزيج من هذا وذاك ولكن ما يهمنا هو حصيلة ذلك التراكم وهل هو في الاتجاه الإيجابي أم السلبي على وجه العموم.
وهناك علامة بسيطة تعطينا انطباعا عن حصيلة التراكمات بين أي زوجين وهي أنه كلما اشتاقا لبعضهما وسعيا نحو التواجد معا فهذه دلالة على ميل التراكم نحو الإيجابية ووجود ارتباطات شرطية سارة، والعكس صحيح، وربما يفسر لنا هذا اشتياق كثير من الزوجات لكلمة "وحشتيني" (اشتقت إليك) من الزوج لأن هذه الكلمة رغم بساطتها وقلة حروفها إلا أنها تعبر عن هذا التراكم الإيجابي للأحداث والذكريات وتعبر عن الارتباطات الشرطية السارة بين الزوجين وتدل على أن حضور الزوجة في وعي زوجها يفتح لديه نوافذ للسكينة والطمأنينة والمودة والحب والراحة والمتعة.
ومن هنا نفهم أيضا لماذا ينفر الرجال من الزوجة النكدية أو الغيورة حيث أن حضور الأولى يرتبط بشكوك واتهامات وتساؤلات ونزاعات، وحضور الثانية يرتبط بالحزن والهم والغم، وبتراكم هذه المشاعر بمرور السنين تتكون منظومات من الارتباطات الشرطية تجعل مجرد رؤية أو سماع أو حتى تذكر الطرف الآخر يفتح بركانا من المشاعر السيئة والمؤلمة، ولهذا فالمرأة التي تجعل جو البيت مشحونا ومضطربا تساهم في دفع زوجها للبحث عن مشاعر سارة خارج المنزل، فإذا حدث وتلقفته امرأة أخرى وكان حضورها في وعيه مريحا وسارا فإن تراكمات سعيدة تبدأ في التكون ويختل الميزان لغير صالح الزوجة حيث تدفع هي زوجها بالتراكمات السلبية في حين تجتذب الأخرى هذا الزوج بالتراكمات السعيدة والارتباطات السارة.
وهذه أحد الجوانب النفسية لحدوث الخيانة الزوجية واستمرارها خاصة مع الزوجة شديدة الغيرة أو الزوج شديد الغيرة فكلاهما يجعل لقاء الآخر به مؤلما ويجعل فكرة الخيانة لديه نشطة طول الوقت. وحين تكتشف الخيانة تزداد الخلافات الزوجية ويختل الميزان أكثر وأكثر فينفر الزوج من الزوجة إلى العشيقة، أو تنفر الزوجة من الزوج إلى العشيق.
ومن أحد أسرار العلاقة الحميمة بين الزوجين أنها تربطهما بمشاعر سارة طوال حياتهما وتجعل بينهما كنز من الذكريات والأحاسيس الجميلة ولهذا خص الله هذه العلاقة بأعلى درجات من اللذة الحسية يمكن أن يتذوقها الجهاز العصبي، وكأن المقصود أن يدمن كل منهما الآخر من خلال ارتباطات شرطية سعيدة ولذيذة تعوض وتوازن ما يتعرضان له من متاعب الحياة ومسئوليات الأسرة والأبناء، ولهذا نقلق كثيرا حين تضطرب هذه العلاقة بين الزوجين لأن معنى هذا أن ثمة اضطراب متوقع في ميزان التراكمات وربما ترجح كفة التراكمات السلبية فيزهد أحد الزوجين الآخر أو يبغضه. وربما يفسر لنا هذا الأمر كراهة الطلاق من الناحية الشرعية أثناء فترة الحيض ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه لأن في هذه الفترة تتوقف هذه العلاقة الحميمة وربما يختل التوازن ناحية التراكمات السلبية خاصة إذا كان رصيد الزوجين من التراكمات الإيجابية ضعيفا.
توازنات التراكم ونوعية الحياة الزوجية:
إذن فالحياة الزوجية قابلة لإحداث التراكم الإيجابي للخبرات والمشاعر إلى الدرجة التي تربط الطرفين لأقصى درجات الارتباط بين البشر ومن جهة أخرى قابلة لإحداث التراكم السلبي أيضا لأقصى الدرجات التي تدفع للقتل انتقاما وخلاصا من شريك قاهر وضاغط وخانق. ونستطيع القول بأن نوعية الحياة الزوجية تتوقف على ترجيح نوع التراكم فإذا رجحت كفة التراكم الإيجابي كانت الحياة الزوجية أقرب للسعادة بقدر درجة الرجحان، والعكس صحيح.
أما إذا كانت الكفتان متقاربتان فنحن هنا أمام حياة زوجية على الحافة، وسلوك الزوجين وسلوك من حولهما يدفع إلى رجحان أحد الكفتين فإما أن يطلقا وإما أن يتجها إلى بعض التوافق، وأحيانا تظل الكفتين متأرجحتين وتظل الحياة الزوجية تحت التهديد لسنوات طويلة، وهذا في الحقيقة وضع مؤلم لأنه يضع الطرفين في صراع لا يحسم، فمن ناحية توجد أشياء إيجابية تربطهم، ومن ناحية أخرى توجد تراكمات سلبية تبعدهم، وفى علاقة كهذه نتوقع وجود مشاعر متناقضة من الحب والبغض والرضا والسخط والأمان والخوف وفوق كل هذا حيرة لا تنتهي.
التراكمات السلبية:
وربما لا نتحدث كثيرا عن التراكمات الإيجابية على أساس أنها الشيء البديهي المتوقع في العلاقات الزوجية السوية، ولكننا هنا سنركز على التراكمات السلبية نظرا لخطورتها واحتياجها للتدخل الإصلاحي والعلاجي.
ولكي نفهم خطورة التراكمات السلبية في الحياة الزوجية ربما نحتاج لأن نستدعي أحداثا روعت الضمير الإنساني وصدمته مثل الزوجات اللائي قتلن أزواجهن وقطعنهن قطعا ووضعنهن في أكياس بلاستيك، وقد تكرر هذا الأمر في فترة ما منذ عدة سنوات لدرجة أفزعت الرجال، والزوج الذي قتل بناته الست انتقاما من أمهم.
والآن نحاول أن نفهم لماذا يحدث التراكم السلبي في العلاقة الزوجية، ولماذا يحتفظ أحد الأطراف بمشاعره المؤلمة لسنوات، وما الذي يمكن أن تحدثه هذه المشاعر في العلاقة بين الطرفين وفي الحالة النفسية والجسدية لهما أو لأحدهما؟
من الطبيعي أن يمر الزوجين بلحظات اتفاق ولحظات اختلاف، وأن ما تتركه لحظات الاختلاف أو حتى الخصام من أثر يجب أن يجد له مخرجا في لحظة عتاب أو موقف محاسبة أو سماح لكي تتخلص النفس من هذه الذكرى ومن آثارها على اعتبار أننا جميعا بشر ومعرضون للخطأ، وبمعنى آخر هناك أزواج وزوجات يملكون آلية دائمة للتخلص من آثار الخلافات أو الخصومات حتى تظل نفوسهم غضة ونظيفة وقابلة لتلقي التراكمات الأجمل والأسعد، وأيضا هناك أزواج وزوجات لا يستطيعون التخلص من مشاعرهم السلبية تجاه الطرف الآخر وتظل هذه المشاعر تتراكم وتتحول من الإحباط إلى الغضب ومن الغضب إلى الحنق ومن الحنق إلى الرغبة في العدوان والانتقام، وفي النهاية قد نصل فعلا إلى العدوان والانتقام سواء كان لفظيا (نقد مستمر، سخرية، شتائم) أو جسديا (دفع، ضرب، قتل).
وفي ظروف معينة قد لا يستطيع الطرف المحبط والغاضب إخراج عدوانه فيكبته لشهور أو سنوات وتكون النتيجة اضطرابا نفسيا لدى هذا الطرف المحبط الغاضب المكبوت، ويكون الاضطراب في صورة أمراض نفسجسمية (ارتفاع في الضغط، أزمة قلبية، مرض السكري، الروماتويد، الصداع المزمن، القولون العصبي، الحكة الجلدية العصبية، الصدفية،...... إلخ) أو أمراض نفسية (قلق أو اكتئاب).
وعدم وجود آلية لإزالة التراكمات السلبية يجعل الحياة الزوجية أشبه بمدينة غاب عنها عمال النظافة وتعطلت فيها محطات الصرف الصحي، أو أشبه بسيارة انسدت فيها ماسورة العادم (الشكمان).
وللحديث بقية.............. التراكمات في الحياة الزوجية(2)
اقرأ أيضاً:
أسباب فشل الحياة الزوجية / الزوج المسافر(4) / ضرب الزوجات للأزواج (العنف العكسي) / الصمت الزوجي