مفتاح شخصية الجماهير العربية
لكي نفهم سلوك الجماهير (ونحن هنا نتكلم عن العالم العربي بشكل خاص) فسنحاول أن نمسك بخيط يدلنا على مفتاح شخصية هذه الجماهير والذي يفسر الكثير من أفكارها ومشاعرها وسلوكياتها, وهذا المفتاح يمكننا بواسطته أن نقرأ الكثير من الظواهر المرتبطة بهذه الجماهير وأن نفهمها بشكل منطقي سلس.
ومفتاح شخصية الجماهير العربية ليس صعب المنال حيث أنه وارد في الكثير من أدبياتنا وتراثنا بشكل مكثف وملفت للنظر, فعلى مدى مراحل التاريخ يطلق لفظ "الرعية" على الشعوب العربية, واللفظ مأخوذ من البيئة العربية (الرعوية بشكل خاص) حيث يكثر مشهد الراعي في صورة رجل أو امرأة يمسك عصا ويهش بها على الغنم ليقودها إلى مواطن العشب ويحميها من الذئب ومن التفرق, والأغنام هنا تضع رأسها لأسفل أغلب الوقت لتأكل العشب أو تشرب الماء (وهذا أغلب فعلها) ولا ترفع رأسها إلا لتهزه للحظة قصيرة كعلامة على انتشاء الشبع. والأغنام تتحرك في مجموعة يشكلها الراعي طولا أو قصرا أو عرضا وإذا شردت منهم واحدة يردها بإشارة أو ضربة من عصاه.
ولا يتصور أن يكون لهذه الأغنام رؤية أو إرادة أو اختيار, وللراعي الحق كل الحق في بيع بعضها وذبح البعض الآخر دون مساءلة من أحد. هذا هو مشهد عملية الرعي التي اشتقت منها الكلمة, وقد ينزعج القارئ من بشاعة هذه الصورة إذا تخيل نقلها إلى عالم البشر أو اتهام مجموعة من الناس بأنهم يتبعون هذا النمط, ونحن لا نقصد ذلك (وإن كان في الواقع كثير مما يؤيده), ولكن نحاول أن نرى جذور السلوك من خلال تتبع معاني ودلالات التسمية والتي استقرت في طبقات عميقة من الوعي العربي العام فشكلته.
قد يبدو هذا المفهوم سلبيا أو موجعا أو جارحا خاصة إذا نقله أي شخص من المشهد الرعوي الحقيقي إلى المشهد الإنساني دون تحويرات لازمة تتصل بعالم البشر, ولكن من المؤكد أنه حتى بعد هذه التحويرات يبقى للاسم تأثيراته العميقة والتي نستطيع تتبعها في صور العلاقة بين الحاكم والمحكوم في كثير من مراحل التاريخ العربي, فقد كانت السلطة دائما في يد الحاكم (الراعي) فهو الذي يرى ويوجه ويجمع أو يفرق ويعطى أو يمنع ويحمى أو يضيع, ولم يكن ثمة دور للرعية (أو الرعايا) إلا الاستجابة (رد الفعل) للراعي.
وهذا المفهوم يدعمه مفهوم أخلاقي آخر وهو فكرة المجتمع الأبوي الذي ترى فيه صورة الأب خفاقة عالية وترى فيها صورة الأبناء صغيرة تابعة ومتطفلة. وهذا المفهوم الرعوي أو الأبوي يجعل الرعية دائما في حالة تبعية وأحيانا في حالة تسولي, فهم لا يعتقدون أن لهم حقوقا وإنما ما يحصلون عليه هو منحة من الراعي أو من الأب إن شاء أعطاهم إياها وإن شاء منعها عنهم, وهذا يفسر ما نراه من ظاهر التزلف والاسترضاء والتسول والتوسل والدعاء بطول العمر للراعي أو للأب المانح القادر.
وقد تعجب أنك في كثير من المجتمعات العربية حين تقدم لأحد خدمة معينة في حدود وظيفتك أو عملك تجده يكثر لك من الدعاء وكأنك قدمت له شيئا لم يكن يستحقه, في حين أن هذا لا يحدث في مجتمعات كثيرة تستشعر أن لها حقوقا تأخذها بكرامة وهى رافعة الرأس شاكرة بموضوعية وأدب, وفرق كبير بين شكر الأحرار ودعوات المتسولين, فما نجده في بلاد العرب هو أشبه بدعوات المتسولين لمن قدموا لهم عطاء, تلك الدعوات التي تظهر فقط أمام صاحب العطاء لتستبدل بعد غيابه عن أعينهم بأشياء أخرى كثيرا ما تكون مناقضة. وهذه المفاهيم تختلف كثيرا عن مفاهيم المواطنة التي تستوجب حقوقا وواجبات وتستوجب تفاعلا ناضجا وحيويا بين الحاكم والمحكوم وبين الأب الحكيم وابنه الناضج المسئول.
إذن فنحن طبقا لهذا المفتاح أمام سلوك رعايا تابعين لا مواطنين فاعلين إيجابيين, وهؤلاء الرعايا ليست لهم حقوق معروفة واجبة الأداء يأخذونها بعزة وكرامة وإنما لهم عطايا ومنح تأتى إليهم من الراعي وتستوجب ما تستوجبه العطايا والمنح من الانحناء وكثرة الدعاء والثناء والمدح وطلب الرضا والتمنيات بطول العمر للراعي وذريته.
دينامية العلاقة بين الجماهير والسلطة:
حين تكون السلطة منطقية وشرعية وقائمة على الشورى وملتزمة بها, وحين تكون الجماهير على درجة جيدة من التعليم والثقافة ولديها ملكة التفكير النقدي يصبح الأمر علاقة سلطة ناضجة بجماهير ناضجة فيسود العقل وتحتل الموضوعية مساحة كبيرة في العلاقة بين الطرفين فلا تتحول إلى حب حتى التقديس والاستلاب أو إلى كراهية حتى التدمير. ونتاج ذلك منظومة سياسية واجتماعية تتسم بالسلام وارتفاع معدلات الإنتاج والنمو والإبداع.
أما حين تكون السلطة غير منطقية, أو غير شرعية, أو استبدادية, أو فرعونية, حينئذ تسود ديناميات مرضية مثل الكذب والخداع والنفاق والعدوان السلبي واللامبالاة من جانب الجماهير, بينما تتعامل السلطة مع الجماهير بازدراء وشك وتوجس, وترى أنها غير جديرة بالتحاور والتشاور وإنما تساق بالعصا. وإذا وصفنا نمط هذه العلاقة بمصطلحات علم النفس نقول بأنها علاقة بين والد ناقد مستبد وطفل يميل إلى العدوان السلبي. وهذا الطفل العدواني السلبي ينتظر اللحظة المناسبة لينقض على الوالد الناقد المستبد ليتحول بذلك إلى طفل متمرد. وبالتعبير الشعبي الدارج نصف هذه العلاقة بأنها علاقة القط والفأر.
هذان هما القطبان المتضادان على متصل العلاقة بين السلطة والجماهير وبينهما درجات عديدة من أشكال العلاقات حسب نوعية السلطة وطبيعة الجماهير.
تزييف الوعي:
ولكي تتمكن السلطة من قيادة الجماهير دون مواجهات أو مشكلات أو اضطرار للحل الأمني بكثرة فإنها تقوم بتشكيل وعى الجماهير بما يتفق مع مصالح السلطة, وهى تلح طول الوقت بأن ما تفعله هو في صالح الجماهير, وقد تتمادى السلطة في تشكيل الوعي الجماهيري حتى تصل إلى تزييف ذلك الوعي خاصة حين تكون أهداف السلطة غير مشروعة وغير أخلاقية, لذلك فهي تقوم بتزييف وعى الجماهير حتى يرى تلك الأهداف الذاتية غير الأخلاقية أهدافا عظيمة ومشروعة ويخيل إليه أن السلطة تسعى لصالحه. وبالطبع فإن هذا العمل يتطلب مهارات عالية لذلك يختار أصحاب السلطة ذوى الكفاءات في الإعلام الموجه للإلحاح ليل نهار على حواس الجمهور من خلال الصحيفة والإذاعة والتليفزيون لإقناعه بما تراه السلطة.
وقد يتم التزييف من خلال شخصية كاريزمية في السلطة أو في المجتمع يتم من خلالها تسويق أفكار السلطة إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناءا على تقبلها وحبها للشخصية الكاريزمية. وهذا التزييف لوعى الجماهير وبالتالي لخياراتهم يحدث في الأنظمة المستبدة والأنظمة الديمقراطية على السواء, ولكن تختلف وسائله وأساليبه ودرجة فجاجته أو وقاحته من مجتمع لآخر فبينما يحدث في الأنظمة المستبدة بشكل سلطوي غاشم يمجد إرادة الفرد ويرفعه إلى مصاف الآلهة نجده في الدول الديمقراطية يحدث من خلال آلة إعلامية هائلة التأثير تقوم بعمل غسيل مخ للناخب وتوجهه إلى حيث تريد من خلال التأثير على أفكاره ورؤاه.
والجماهير بعد تزييف وعيها تصبح كائنا انفعاليا غير منطقي يميل إلى التحيز على أساس عاطفي وحماسي , ويميل إلى الاندفاع في الاتجاه الذي يحدده له من قاموا بتزييف وعيه. وهذا السلوك الجماهيري يستمر على هذا النحو إلى أن تكتشف الجماهير أنها قد غرر بها أو خدعت, وحينئذ يتغير مسارها وتنقض بلا رحمة على من غرروا بها أو خدعوها, وقد يحدث هذا التحول بسبب كارثة كبرى تقع (هزيمة عسكرية ساحقة أو انهيار اقتصادي يهدد لقمة العيش) أو بسبب تراكم جرعات الوعي التي يبثها بعض المصلحون من أبناء الشعب.
الخصائص العامة للجماهير العربية:
1 - السلبية:
ربما يدهش بعض المراقبين تلك السلبية الشعبية غير المسبوقة تجاه الأحداث الساخنة, والحقيقة أن هذه السلبية ليست حالة طبيعية وإنما هي نتيجة جهود حثيثة عملت على مدى سنوات طويلة على خلق حالة من السلبية الفردية وإعلاء قيم المصلحة الذاتية, وإعاقة أي بادرة للتجميع أو الفعل, والهدف في النهاية هو التأكيد على بقاء الوضع القائم برضا الجميع.
وقد تحدثنا للتو عن تأثير أجهزة التليفزيون والكومبيوتر على الوعي العام, وهنا سنزيد من رؤية هذا التأثير بطريقة كمية ونوعية, فلو حسبنا الساعات التي يقضيها الناس أمام هذه الأجهزة لوجدناها بالملايين, أي أن هناك ملايين الناس يقضون ملايين الساعات أمام الشاشة وليس لديهم أية رغبة في مغادرة غرف النوم حيث تقبع هذه الشاشة اللذيذة. والأمر لا يقتصر على استهلاك طاقة ملايين الأجساد وإنما يمتد إلى عقولهم, فكثير من البرامج تقتل ملكة التفكير النقدي وتدع الشخص في حالة تلقى سلبي لكل ما يراه على الشاشة أو معظمه فهو مستلق على ظهره يشاهد برامج مبلدة للعقول ومخدرة للتفكير النقدي الواعي ومحشوة بالتفكير الخرافي أو الاستهلاكي وقاتلة لأي قدرة على الفعل الاجتماعي الجاد والمؤثر.
وهذا النوع من المشاهدة السلبية يعود المشاهد على أن دوره لا يتعدى حالة المشاهدة فهو كل يوم يرى في نشرات الأخبار من يقتلون أو يدمرون أو يزورون وهو لا يبرح مكانه أمام الشاشة وفي غرفة نومه ومن هنا تتكون لديه عادة الاكتفاء بالمشاهدة و في أقصى تقدير التحسر على ما يحدث والدعاء على من يفعلون والغضب ممن يسكتون وفقط. وربما يفسر لنا هذا سلبية الناس أمام أحداث كانت تحركهم لأقصى درجات التحريك فمثلا حدثت حالات اغتصاب أو محاولات اغتصاب في بعض الميادين العامة دون أن يحدث التدخل الشعبي المتوقع, وحدثت عمليات قتل وبلطجة في كثير من الأحداث دون أن تكون هناك استجابة مكافئة لذلك وكأن الناس تعودوا على المشاهدة دون الفعل من خلال ملايين ساعات المشاهدة التليفزيونية أو الكومبيوترية.
وما يتبقى من الوعي يتم تسكينه أو تخديره بواسطة السينما أو الإذاعة أو الصحف أو المباريات الرياضية أو الانتخابات الشكلية أو الحوارات الإلهائية أو الوعود الزئبقية, وكلها تساهم في امتصاص طاقة رد الفعل الإنساني. وقد يقول قائل إن هذا تجن على وسائل الإعلام والوسائط التكنولوجية الحديثة, فهي وسائل تنوير وإيقاظ للوعي وتحريك للمشاعر ودفع نحو التغيير, وهذا صحيح ولكن في حدود ضيقة تجعل هذه التأثيرات الإيجابية في حكم الاستثناءات في كثير من دول العالم خاصة دول العالم الثالث التي تبقى يقظة للحيلولة دون تجاوز البرامج الجادة حد الخطورة أو التأثير, فهي لا تمانع في وجود بعضا من هذه البرامج الموقظة للوعي أو الكاشفة للحقيقة ولكن في حدود تجعلها مجرد تزيين للصورة العامة ودرء للاتهام بالتزييف الشامل, وتحسين الصورة في الخارج والداخل, مع الإبقاء على التفوق النوعي والكمي لبرامج وفعاليات غسيل العقول وتخدير الهمم وتزييف الوعي والحيلولة دون انتصاب الفعل الإنساني في اتجاهات التغيير الحقيقي. فالناس تعرف الكثير عن نجوم الكرة ونجوم الغناء وفاتنات السينما وملكات الجمال ومواعيد المسلسلات ومفتى الفضائيات أكثر مما يعرفون عن زعماء الإصلاح وجماعات الضغط من أجل التغيير.
ولا يغيب استعمال الدين في عمليات التخدير هذه من خلال برامج دينية تكرس للتفكير الخرافي وتكرس للاعتمادية السلبية من خلال مفتون يشغلون الناس بقضايا هامشية ومشاهدون وطالبي فتاوى وتفسير أحلام أدمنوا التلقي السلبي والاعتمادية الطفيلية الساذجة على ما يقوله المفتون, ونسوا تماما "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك" فقد باعوا قلوبهم وعقولهم لنجوم الإفتاء كما باعوها قبل ذلك لنجوم الكرة والفن.
ويتعلم الناس مزيدا من السلبية من خلال انتخابات تزور إرادتهم ومن خلال بقاء أوضاع يرفضونها لسنوات طويلة ومن خلال إجهاض المحاولات التغييرية أو الإصلاحية المتكررة أو من خلال فشل الحملات الصحفية الكاشفة للفساد والعوار ثم فشل كل هذه المحاولات في إحداث أي تغيير ملموس, أو من خلال الملاحقات الأمنية المستمرة والضاغطة, كل هذا يحمل الجماهير على الرضوخ للأمر الواقع والاعتقاد في أن الوضع الراهن قدر لا يمكن تغييره إلا بقدر آخر لا دخل لهم فيه.
2 - القابلية للإيحاء والاستهواء والاستلاب:
هذه إحدى الخصائص الهامة في الجماهير خاصة حين يتدنى مستواها التعليمي والثقافي فتصبح فريسة لأي شخصية قادرة على اللعب على مشاعرها وتصوراتها واحتياجاتها فتندفع بلا عقل إلى التصديق والإتباع دون تثبت أو تحقق ويساعد على ذلك غريزة القطيع التي تشكل نوعا من الضغط الجماعي على الناس فيندفعون إلى اتجاه معين لا لشيء إلا لأن غيرهم مندفعين أو مساقين إلى نفس الاتجاه. وهذه الخاصية يلعب عليها كثيرا السياسيون أصحاب الشخصيات الكاريزمية حيث يمتلكون القدرة على إلهاب حماس الجماهير وتوجيههم إلى حيث يريدون, وفعلا تستجيب تلك الجماهير وهى مغمضة الأعين وتسلم قيادها إلى من تثق به ثقة عمياء دون أن تسأل إلى أين؟.
وفي انتخابات العالم الثالث غالبا لا تطرح برامج حقيقية للمرشحين وإنما ترفع شعارات رنانة تحرك المشاعر ولا تقنع العقول فالعقول هنا لا تعمل ولا تفند أو تنتقد. ويلعب الإعلام الموجه دورا كبيرا في تسهيل عمليات الإيحاء والاستلاب والاستهواء للجماهير الجاهلة الغريرة, وكأن الإعلام هنا يقوم بالدور الذي قام به من قبل سحرة فرعون, فهم يسحرون أعين الناس ويزيفون وعيهم ويحتلون إدراكهم ويوجهونه لخدمة مصالح معينة بعيدة غالبا عن مصالح الجماهير المخدوعة. ويستطيع الإعلام أن يقوم بهذا الدور حتى في الدول الديمقراطية حيث يستغل أدواته المؤثرة في صياغة الرأي العام وصناعته والتأثير في خيارات الناخب وتوجهاته من خلال الإلحاح والتزييف وتسليط الأضواء على أشياء بعينها وإطفاء الأضواء في مناطق ومساحات أخرى بهدف خلق الصورة المطلوبة لتزييف الوعي وتوجيه الإرادة.
ولا ينجو من هذا التأثير إلا قلة من المثقفين المستنيرين الذين يحتفظون بقدرتهم على الرؤية من خارج إطار القطيع ولديهم القدرة على الاحتفاظ بإدراكهم دون تلوث أو تشويه أو تزييف ولديهم القدرة على التفكير النقدي وتنبيه الجماهير الساذجة المخدوعة. ولهذا يتعرض هؤلاء لمصاعب كثيرة خاصة في النظم الاستبدادية فتلفق لهم القضايا ويزج بهم في السجون ويستبعدون من مواقع التأثير.
3 - أخلاق العبيد:
حين يعيش شعب من الشعوب تحت أنظمة استبدادية لفترات طويلة في تاريخه دون أن يتمكن من تغيير هذه الأنظمة فإن أفراد هذا الشعب يكتسبون صفات العبيد, فيتعاملون مع كل صاحب سلطة بالخضوع والخنوع والاستسلام, ويرون أنهم غير جديرين بالحياة الكريمة, ويرضون بالفتات الذي يلقى إليهم من يد السيد صاحب السلطة والسطوة. وشيئا فشيئا تذوب الكرامة وتنمحي النخوة والعزة والرجولة وتسود صفات الانتهازية والنذالة والجبن والتسول المهين, وينطبق على الناس في هذه الحالة ما قاله الشاعر:
خمسون عاما أنحنى
مذ كنت يوما سيدي طفلا رضيعا
واليوم تأمرني لأرفع هامتي
فبكل أس في سيدي لا استطيعا
4 - السادوماسوشية:
ومع الوقت يتعود الناس على القهر والإذلال، بل ويصبح مطلبا نفسيا لهم, إذ يستعذبون الشعور بالظلم وخاصة حين تسود ثقافة "يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم" فالناس حينئذ ينقسمون إلى ظالم ومظلوم, فيختار أغلبهم موقع المظلوم الذي ينتظر إنصافه في الآخرة من الظالم, وهذه هي بذور الماسوشية في سلوك الجماهير. وعلى الرغم من هذا الخضوع الماسوشي من الجماهير تجاه كل من يملك سلطة عليهم إلا أننا نجد في المقابل حالة من السادية تجاه من هو تحتهم, بمعنى أننا نجد الموظف يقبل حذاء رئيسه في العمل, ثم حين يتعامل مع بقية الناس من الجمهور الذي يتردد عليه لقضاء مصالحه نجده يذيقهم أشد العذاب ويوقف مصالحهم ويذلهم ويبتزهم بوعي أو بغير وعى, وحين يذهب هذا الموظف إلى البيت إما أن تجده زوجا جبارا مستبدا أو تجده خاضعا مستسلما منسحبا وذلك طبقا لموازين القوى بينه وبين زوجته. أي أن الناس في هذه الظروف المشوهة تتعامل بماسوشية (خضوع واستسلام وتلذذ بذلك) مع الأعلى وتتعامل بسادية (قهر وتعذيب واستغلال وتلذذ بذلك) مع الأدنى, وتغيب في هذا الجو العلاقات السوية الناضجة بين أغلب الناس.
ويتبع >>>>> : سيكولوجية الجماهير(3)
اقرأ أيضاً: