إدمان الفتوحات العاطفية (سيكولوجية متعددي العلاقات)
قالها بفخر في لحظة صراحة وهو ينظر في الفراغ الممتد ويتنهد بعمق: "كل امرأة عرفتها كانت أشبه بمدينة محصنة قمت بغزوها ولم أتركها حتى تم لي الفتح ثم تركتها إلى غيرها، وهكذا توالت الفتوحات بلا نهاية"... نظرت إليه متعجبا ومشفقا وغاضبا (وربما حاسدا أو مشدوها)، وشعرت بالقلق على استخدام لفظ "الفتوحات" في هذا السياق العاطفي العبثي بعد أن كان مرتبطا بفتوحات تاريخية محملة بالفخر ونشر الحق والعدل والخير في ربوع الأرض، ومرتبطا بالرجولة الحقة المشحونة بالمروءة والشهامة والصدق والوفاء والإخلاص (وليس بالنذالة والخداع والاستغلال).
خرجت من هذا الإطار الفلسفي والتاريخي وعدت مرة أخرى إلى الحياة اليومية وقصص الخيانات والعلاقات والمغامرات العاطفية والجنسية وكثرتها في هذه الأيام بشكل وبائي وصدى ذلك في الحياة الأسرية وتوجهات المجتمع وانحرافات السياسة وارتخاء القدرة على التغيير الإيجابي وضعف الرغبة تجاه معالي الأمور، والغرق في بحر الشهوات والملذات، وادعاء البعض بأن هذا هو شكل ومضمون الحياة المعاصرة بعد أن اقتربت المرأة من الرجل في كل مكان أكثر من اللازم.
وإذا كانت هناك أسباب كثيرة لاتساع انتشار ظاهرة العلاقات المتعددة إلا أن اختراع التليفون المحمول قد أحدث نقلة نوعية في هذا الأمر حيث استخدمت الاتصالات و"الرنات" و"المسجات" كوسائل سحرية تذيب الحواجز وتقطع المسافات وتسهل اللقاءات على كل المستويات. وننبه القارئ العزيز إلى أننا سنتحدث في هذه الدراسة عن العلاقات على مستويات مختلفة (العاطفية والجنسية والعقلية والروحية) ولكننا خصصنا المستوى العاطفي وحده بالذكر في العنوان نظرا لغلبة العلاقات العاطفية على غيرها، وأيضا للحفاظ على "شياكة" ورقة العنوان، وأخيرا لكي يطابق ما سمعناه متواترا من كثير من ذوى العلاقات المتعددة في تسميتهم لتلك العلاقات حياءا وخجلا وخوفا (أو هكذا نتمنى).
ومصدر هذه الدراسة جلسات العلاج النفسي العميق (حيث تتاح فرصة للتجوال في المناطق المحظورة داخل النفس والتنقل عبر مستوياتها المختلفة التي لا نراها في حياتنا العادية ذات البعد الواحد غالبا)، والعلاج الزواجي والعائلي، والعلاج الجمعي، مع إضافات مهمة من التراث العلمي وخبرات الحياة العامة. ونعتذر عن الإطالة، وقد أدى إليها حرصنا على توصيل الرسالة كاملة علها تفيد أكبر عدد من الضحايا الذين نرى منهم عينة صغيرة في عياداتنا النفسية.
هل التعدد فطري أم مكتسب؟
يقول البعض بأن التعدد –خاصة بالنسبة للرجال– فطري، وأنه ظاهرة قديمة قدم الإنسان وحتى الحيوان، ويستدلون على ذلك بشيوعه في الطيور والحيوانات، وشيوعه في المجتمعات البدائية واستمرار شيوعه في المجتمعات الحديثة، وما يختلف هو شكل التعبير عنه فقط فبعض المجتمعات تمارسه بشكل بدائي مفتوح وبعضها تقننه وبعضها تمارسه في صور محورة. ويرى كنزي (وهو من أشهر الباحثين في السلوك الجنسي وصاحب كتاب السلوك الجنسي عند الذكر الأنثى في الإنسان) أن الطبيعة التعددية هي الأصل (إذا أعجبك هذا الرأي فاعلم بأن لديك رغبة كامنة في الانفلات)، وربما كان ذلك مرده إلى عناصر الوراثة ففي جنس كل الثدييات نجد أن الذكر يواقع عددا كبيرا من الإناث، ولعل هذا هو السبب في أن المجتمعات تبيح تعدد الزوجات وتتغاضى عن سلوك الرجل الذي يحب أو يتعلق بأخرى خلاف زوجته، ولكنها تستهجن سلوك المرأة التي تكون لها بغير زوجها علاقات جنسية غير مشروعة، وربما لم يفعل التشريع سوى أنه قنن الفطرة (الموسوعة النفسية الجنسية، عبد المنعم الحفني1992، مكتبة مدبولي، القاهرة).
وعلى العكس فإن أنثى الثدييات تكتفي بذكر واحد ولا يشذ عن هذه القاعدة غير أنثى الأسد (اللبؤة) فهي في فترة الإخصاب تبحث عن أي أسد يلقحها بلا تمييز، وربما هذا هو السبب في وصم المرأة المنفلتة بأنها تشبه أنثى الأسد في سلوكها (أترك لك صياغة العبارة باللغة التي تعجبك).
وهناك من يرى (خاصة أنصار التساوي وليس المساواة بين الرجل والمرأة) بأن التعددية ميل موجود لدى الذكور والإناث على السواء وأن الأعراف الاجتماعية الذكورية هي التي تروج لتعددية الرجل دون المرأة لإعطائه مزايا التعدد وحرمان المرأة منها (ربما هذا اعتراف غير مقصود بأنها ميزة فعلا). والبعض الآخر (الناس الطيبون.. جدا) يقول بأنه مكتسب ويستندون إلى أن سلوك غالبية البشر يميل إلى أحادية الشريك، وبالتالي تصبح الأحادية هي الأصل ويظهر التعدد كاستثناء تدفعه الضرورة (كمرض الشريك أو فتور المشاعر تجاهه أو نقص في أحد صفاته أو طمع زائد لدى المعدد ).
وقد كان التعدد صفة لازمة في عصور الرخاء والرفاهة، وكان أحد مظاهر الوجاهة الاجتماعية والحظوة الطبقية، فكان الرجل يتزوج عدد من الزوجات حسب ما يسمح نظام المجتمع ولا يكتفي بذلك بل يستكمل احتياجاته بعدد غير محدود من الجواري (تراوح بين الخمسمائة والألف في بعض الروايات التاريخية)، وربما يبدو هذا الأمر مستنكرا حين نراه بعقلية الحاضر ولكنه كان مقبولا جدا في زمانه، وكان أحد سمات النظام الاجتماعي (كثيرون من الرجال يتحسرون على أنهم لم يعيشوا في تلك العصور.. بالتأكيد أنا وأنت لسنا منهم).
العوامل الكامنة وراء الرغبة في التعدد
* الكراهية الكامنة لأحد الوالدين: يرى فرويد (رائد التحليل النفسي) في التعدديين الدونجوانيين والبغائيين رغبة في الثأر من جنس الرجال أو جنس النساء بسبب كراهية تتولد عند الطفل لأمه التي رفضته أو أهملته أو عند الطفلة التي رفضها أبوها أو أهملها فكلاهما يعاقب الجنس المقابل (كلام صعب.. ولا يهمك سنفهمه بعد قليل.. وهذه الصعوبة تؤكد المقولة بأن علم النفس هو العلم الذي يقول كلام يعرفه كل الناس بلغة لا يفهمها أحد!! وإلا ما كانش يبقى علم).
* فشل العلاقة بأحد الوالدين: ويرى يونج (صاحب نظرية علم النفس التحليلي) أن متعدد العلاقات قد فشل في علاقته بأمه في الطفولة لذلك تظل لديه رغبات وحاجات عاطفية وجسدية لم ترتو وتصاحبه في مراحل عمره التالية، وهو يفعل مع النساء فعل البغي مع الرجال، فهي الأخرى لديها حاجات لم ترتو، وتشكو البرود الجنسي، وكلاهما يكرر العلاقات العاطفية أو الجنسية على أمل الارتواء ولكن ذلك لا يحدث.
* النرجسية:والنرجسي يتوجه حبه نحو ذاته، لذلك فهو لا يحتاج المرأة لذاتها وإنما لإشباع رغباته العاطفية أو الجنسية، ولهذا تتعدد علاقاته وكأنه يستخدم أكثر من امرأة لتحقيق أكبر قدر من الإشباع لحاجاته النرجسية التي لا تشبع، وكلما زاد عدد محظياته كلما ازداد شعوره بقيمته وقدرته وجاذبيته، وفى النهاية يؤدى كل هذا إلى مزيد من تضخم الذات لديه ومزيد من الأنانية والشره العاطفي أو الجنسي أو كلاهما معا. والنرجسي يعرف الأخذ بلا حدود ممن حوله ولا يعرف العطاء أبدا، فالمرأة بالنسبة له ما هي إلا وسيلة إشباع لرغباته، أما هي ذاتها فلا يعترف بوجودها كإنسانة متكاملة ولا يعترف أو يقدر احتياجاتها.
وعلى الرغم من أن الشخص النرجسي ليس لديه قدرة على حب أحد (غير نفسه) أو العطاء لأحد إلا أنه مستعد لأن يقدم ما يقدمه الصياد من طعم للسمكة (الضحية) التي يريدها حتى إذا أصبحت ملك يديه نزع من فمها ذلك الطعم ليلقيه لضحية أخرى يتربص بها أو ينتظرها.
* المشاعية الجنسية: وفيها نجد أن الشخص (رجل أو امرأة) تتعدد علاقاته (أو علاقاتها) الجنسية بلا حدود، وهو لا يرتبط بأي امرأة عاطفيا أو إنسانيا (وهى أيضا كذلك)، وهو يخشى الارتباط بواحدة ويتحاشاه، فهو لا يحب أن يعتمد على امرأة واحدة لإشباع احتياجاته. وهذا الشخص نجد أن نزعاته الجنسية متضخمة في حين أن ميوله العاطفية ضعيفة جدا أو ضامرة، لذلك تصبح المرأة بالنسبة له جسدا مجردا، ولهذا فهو يطلب تعدد الأجساد كما يطلب الشره في الطعام تعدد أصناف الطعام وتنوعها.
والمشاعي الجنسي غير ناضج نفسيا حيث تتضخم لديه المناطق البدائية في النفس (منطقة الهو المشحونة بالرغبات) في حين تكون المناطق الأعلى ضامرة (منطقة الأنا التي تضبط السلوك مع ظروف الواقع ومنطقة الأنا الأعلى التي تضبط السلوك تبعا للقوانين الأخلاقية والدينية). وفي الشخص العادي يوجد ارتباط بين ما هو عاطفي وما هو جنسي أما في الشخص المشاعي فنجد نموا مفرطا في الجانب الجنسي مقابل ضمور مفرط في الجانب العاطفي.
وقد تكون المشاعية مسبوقة أو مدعومة بنمط فكرى (أيديولوجي) لدى الشخص المشاعي بأن يعتقد أن الإنسان له الحرية في أن يفعل ما يريد دون التقيد بأي قوانين أو ضوابط دينية أو أخلاقية، وهذا هو الحال لدى كثير من الغربيين، ولهذا يصبح السلوك الجنسي لديهم عملية بيولوجية مثل الطعام والشراب يحددها الإنسان كخيار شخصي مقطوع الصلة عن أية اعتبارات دينية أو اجتماعية.
* الرتابة والملل: حين تدب الرتابة ويسود الملل حياة الزوجين ربما يندفع أحدهما أو كلاهما لكسر هذا الطوق من خلال بعض المغامرات، وقد يجد في هذه المغامرات ما يشجعه على الاستمرار خاصة إذا كان من محبي المخاطرة وكسر الحدود وتجاوز الخطوط الحمراء. وقد يصل بعض الأزواج بسبب الروتين والرتابة والملل إلى حالة من الفتور العاطفي الشديد أو الضعف الجنسي، وتصبح هذه الأشياء دافعا للبحث عن شريك جديد يحرك هذا الفتور أو يعالج هذا الضعف خاصة إذا فشلت محاولات الزوجين في التغلب على هذه المشكلات.
وفى المجتمعات التي تبيح التعدد للرجل قد يكون الزواج الثاني حلا للرجل، وقد يصبح حلا للمرأة في بعض الحالات (ولو أنه حل مر) فهي في معرض غضبها ورفضها وغيرتها بسبب وجود الزوجة الثانية تتحرك مشاعرها وإن كانت متناقضة في البداية، ويصاحب هذه الحركة في المشاعر تغيرات في الهرمونات الداخلية، وربما يفسر هذا حدوث الحمل لدى الزوجة الأولى (وقد كانت عقيما) بعد أن تزوج رجلها بزوجة ثانية بهدف الإنجاب (هذا ما نراه في الممارسة المهنية في بعض الحالات ولا نستطيع تعميمه حتى تتم دراسات علمية محكمة على أعداد كبيرة من النساء في مثل هذه الظروف).
أما في المجتمعات التي لا تبيح ذلك أو في الظروف التي لا تسمح بالتعدد فنرى العلاقات العاطفية والجسدية بدرجاتها المختلفة خارج نطاق الزواج. وقد تبيح بعض المجتمعات وسائل إشباع غير مباشرة أو مستترة كالرقص على الطريقة الأوروبية (الذي يتيح اقترابا إلى درجة التلاصق وأحيانا التعانق مع قبول اجتماعي واسع)، والرحلات والمعسكرات المختلطة (بشدة) والعلاقات الإلكترونية على الإنترنت (الشات الساخن)، والصداقات الحميمة أو شبه الحميمة بين الجنسين، وكلها محاولات للحصول على مصادر متعددة لإثارة المشاعر التي أصابها الفتور، خاصة إذا لم يكن لدى الزوجين أو أحدهما رسالة مهمة ذات معنى تملأ عليهما حياتهما.
وقد أجريت بعض التجارب على مجموعات من الحيوانات ذكورا وإناثا كان قد بدا عليها مظاهر الفتور العاطفي والجنسي نظرا لطول مدة التواجد مع بعضها، فقام العلماء بإدخال بعض الذكور والإناث الجدد وسط هذه المجموعات فوجدوا أن علاقات الغزل والعلاقات الجنسية قد بدأت تنشط بشكل ملحوظ لدى هذه المجموعات التي كانت قد أصيبت بالفتور(هذه النتيجة يفرح بها مؤيدو وراغبو التعدد ويشمئز منها الرافضات ويستشهدن عليها بالأصل الحيواني للرجال... احذر أن تقول لست منهم).
ويتبع>>>>>>>: إدمان الفتوحات العاطفية(2)
واقرأ أيضًا:
نفسي عاطفي: حب إليكتروني Electronic Love / نفسي عائلي: زواج ثاني Second Marriage / نفسي عاطفي علاقات متعددة Multiple Relations / نفسي عائلي: خيانة زوجية Marital Infidelity