"الغضب يذهب نور العقل"
إن الغضب بشكليه الصريح أو المقنع هو شعور مزعج للطبيب والمريض على حدٍ سواء، ويؤثر بشدة على فعالية المعالجة وعلى العلاقة العلاجية بين الطبيب والمريض.
فالمريض الغاضب قد يتحدى بشكل صريح وانفجاري قدرات الطبيب، أو ربما يكون أكثر مكراً وخداعاً فيتجاهل ببساطة تعليمات الطبيب، أو قد يسخر من الطبيب ويطالبه بإجراء فحوصات واختبارات معينة ليست ضرورية أو يطالبه بوصف أدوية خاصة أو إعطاءه مركبات محدده، أو… أو يلجأ المريض إلى كثرة التطلب والاعتماد على الطبيب بنفس الوقت الذي يرفض أي اقتراح مفيد.
بشكل عام المريض الغاضب يشكل إزعاجاً ومشكلة حقيقية لنفسه ولطبيبه، ولكن على الطبيب التعامل مع هذا النمط من المرضى بهدوء وحكمة وروية ويبحث بحنكته عن الدوافع وراء سلوك مريضه الغاضب.
والأمر البديهي أن يحّرض سلوك المريض الغاضب الإنقال المعاكس Counter Transference لدى الطبيب، فيغضب الطبيب وبالتالي تكون استجابته العدائية صريحة وواضحة، أو تكون الاستجابة أكثر مكراً وتقنعاً ومغالاة فيجيب الطبيب على هؤلاء المرضى بصوت مرتفع، وربما لجأ إلى السخرية منهم، ثم يبرر سلوكه هذا بأن المريض لا يلتزم بالتعليمات وبالخطة العلاجية، وكثيراً ما يلجاً الطبيب إلى إهمال المريض وعدم الاهتمام به، وعدم الرد على اتصالاته الهاتفية، وحتى قطع العلاقـة الطـبية مع المريض.
إن ما ذكرته من سلوكٍ غاضب لدى كلٍ من المريض والطبيب هي أمثلة دقيقة على ارتكاس الإنقال Transference والإنقال المعاكس. فعندما يتفاقم غضب المريض نحو طبيبه، حتى لو كان -ظاهرياً على الأقل- كنتيجة لخطأ بسيط ارتكبه الطبيب، فالمنطق التحليلي لهذه الحالات هو أن الطبيب يعيد إلى ذاكرة المريض شخصاً هاماً من الماضـي، والمريض لا شـعورياً يقوم بإبدال ذاك الشـخص بالطبيب، بمعنى آخر "المريض يقوم بإنقال غضبه من ذاك الشخص وإلقائه على الطبيب".
فهو لاإراديا ينفّس عن ضغطه من ذاك الشخص وينفجر على الطبيب. وكثيراً ما نشاهد حالات مماثلة بين الأزواج فالزوج ينفجر غاضباً في وجه زوجتـه دون أن يكـون لهـا صلة في سـبب ثورة غضب زوجهـا وحنقه، ولكن يمكنهـا أن تستوعب "فش خلق" وقهر زوجها ببساطة دون أن تدري أو يدري زوجها لماذا يحدث هذا السلوك.
وبالمقابل نشاهد ارتكاسـات الإنقال المعاكس والتي تعتبر مشـابهة تماماً للارتكاسـات السـابقة لكنها تنشـأ عند الطبيب، وهنا يعيد المريض إلى ذاكرة الطبيب بشـكل لا إرادي شـخصاً هاماً من الماضي.
أسباب السلوك الغاضب
"الطبيب خلق ليعالج لا ليحاكم"
عدم تفهم غضب المرء من الأخطاء الموجودة في كافة أشكال علاقاتنا الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والمهنية ولكنه يتجلى بوضوح في الحياة الزوجية للبعض منا، فالزوجة تحاول تحسين علاقتها بزوجها قبل أن تفهم غضبه، والمدير في مؤسسة أو موقع ما يحاول تحسين علاقته برؤسائه وزملائه وموظفيه قبل أن يتفهم غضبهم…
كذلك من الأخطاء الشائعة للأطباء محاولتهم تحسين علاقتهم مع مرضاهم قبل أن يتفهموا غضبهم، في حين يجب على الطبيب أن يتفهم غضب مريضه قدر المستطاع بصبر وهدوء وحكمة قبل أن يبدأ بأية محاولة لتحسين علاقته بالمريض، فمجرد تفهم غضب المريض يشكل أعظم وسيلة تواصل لتحسين علاقة الطبيب مع مريضه. وعلى الطبيب أن يسأل نفسه هل غضب المريض حاد أم مزمن؟.
فالمريض الغاضب بشكل مزمن هو أقل اهتماماً بالتحدث بصدق وصراحة عن الأسباب الكامنة خلف غضبه، وكذلك هو أقل اهتماماً بتغيير سلوكه الغاضب، وأقل رغبة في تحسين علاقته مع طبيبه. في حين أن المريض الغاضب بشكل حاد هو أكثر رغبة في تحسين علاقته مع الطبيب، وأكثر اهتماماً بالتحدث بصدق و صراحة عن الأسباب الكامنة خلف غضبه، وكذلك أكثر اهتماماً بتغيير سلوكه الغاضب. وسواء كان غضب المريض حاداً أو مزمناً يمكننا تقسيم أسباب سلوكه الغاضب إلى قسمين:
الأول: نتيجة معاناة المريض من فقـدان لبعض العلاقات مع الآخرين.
مثال: امرأة.. توفي زوجها منذ فترة وجيزة، فغدت نزقة جداً مع طبيب العائلة، وتهجمت عليه في عدة مواقف بكلمات لاذعة، واتهمته بأنه غير قادر على تحديد سبب ألمها البطني.
شكل سـلوك المريضـة في البداية صـدمة للطبيب.. لكنه فيما بعد اسـتطاع أن يكتشف سبب غضبها غير الطبيعي.. فعندما سـألها: "لماذا كل هذا الغضـب الموجه نحوي فقط في هذه الفترة، رغم أنني طبيب العائلة منذ سـنوات عـديدة، ولم أصادفك يوماً إلا وتبادلينني والعائـلة الود والتقـدير والاحـترام ولم يبدر مني ما يدعو لهذا الهجوم، فلماذا لا نتحاور في فهم أسـبابه ونحاول أن نعمل سـوياً لتفهمها وتجاوزها إن أمكن، أليس في ذلك خير من السلوك وفق نتائج الهجوم المتكرر باتجاهي".
وبعد حوار بناء.. أخبرته عن عدم ثقتها بالأطباء بعد وفاة زوجها، ثم أجهشت بالبكاء… لقد تبدى الحزن والأسى عندها واضحاً على فقد شريك حياتها. وتبدد غضبها الحاد تجاه طبيب العائلة عندما بدأت بالتعبير عن أساها وحزنها في هذا الحوار والمقاربة الحكيمة من قبل الطبيب.
الثاني: معاناة المريض من بعض الاضطرابات في نظرته أو تقييمه لذاته.
مثال: رجل أعمال ناجح متوازن رغم أنه متطلب، أصيب مؤخراً باحتشاء عضلة قلبية Myocardial Infarction ، وأصبح بعد دخوله وحدة العناية المشددة رجلاً مستحيلاً لكثرة صراخه وهيجانه ونزقه وطلباته لأتفه الأسباب.
وسـأله الطبيب الذي يتابع حالته عن سـبب هذا التغير المفاجئ في سـلوكه، فتحـدث المريض بعد جهد كبير من قبل الطبيب وعلى مضض عن خوفه من أن يصبح مقعداً بسـبب مرضه، وعن شـعوره بتهديد هذا المرض القلبي لصحته وحياته.
نلاحظ في حالة المريض التغير الواضح في صورته عن ذاته، وما نجم عنه من خوف بأن يغدو عاجزاً، وانعدام القيمة الذي يشغل تفكيره. فالخوف من العجز وانعدام القيمـة كانا متنكرين في صورة غضب ظاهري، وعندما تم التحدث بصراحة عن هذه المخاوف، بدأ الغضب بالزوال تدريجياً.
معالجة المريض الغاضب
"يدعى الطبيب.. حكيماً"
من الأمثلة السابقة يمكننا أن ندرك مدى الصعوبة في التعامل مع هؤلاء المرضى، فيجب على الطبيب مكافحة غضبه هو إضافة إلى غضب مريضه، وهذا ليس واجباً سهلاً. وكما ذكرت في أيامنا وحياتنا بمختلف مجالاتها الاجتماعية والعائلية والمهنية يعترض المرء الكثير من حالات الغضب وبطبيعة الحال ليس من السهولة التعامل معها، ولكن من الضروري وقد اخترنا هذه المهنة الإنسانية أن نكون حكماء وموضوعيين ومعتدلين ما أمكن، وإلا فانّ الغضب يمكن أن يتفاقم بسهولة إلى الدرجة التي يحطم فيها علاقة الطبيب بالمريض الضعيفة بالأساس، وكذلك فالأمر ينطبق في جميع العلاقات الأخرى مع المحيطين بنا.
وحتى يحقق الطبيب الموضوعية ويبقى ضمن توازنه أيضـاً يجدر به أن يّنفس عن مشـاعره إن لم يستطع كظمها ولكن بعيـداً عن المريض. ويمكن أن يتم ذلك من خلال التعبير المباشـر عن المشـاعر المكظومة تجاه المريض وذلك في الحديث مع أعضاء الفريق الطبي مثلاً.
مثال: بعد لقاء شـاق وصعب مع مريض غاضب خرج طبيبه الجراح من الغرفة مغتاظاً ودخل غرفة الممرضات وانفجر أمام الأطبـاء والممرضـات قائـلاً: "يا رجل.. أيّ ألم في العنـق يعاني منـه هذا المريـض؟!!... فليعتن أحدٌ غيري بهذا (الجلف العنيد).
وبعد عدة عبارات أخرى، بدأ الجراح يشعر ببعض الارتياح، وأصبح قادراً على سؤال نفسه "لماذا جعلني هذا الرجل أبدو كالمجنون؟.".
ونظر مرتبكاً إلى ممرضة جالسـة في الغرفة وسـألها: "لماذا؟".. وأخبرته الممرضـة أن المريض ذكر أن أباه دخل هذا المشفى قبل عشرين عاماً. وبعد دقائق من لحظات التنفيس الانفجارية هذه، عاد الجراح ليسـأل المريض عن سبب انزعاجه، وأنكر المريض أي انزعاج وأضـاف قائلاً: "عليك الاهتمام بحالتي الطبية فقط، ومتى أنهيت ذلك عليك الانصراف إلى عملك!. ولا علاقة لك بي خارج هذا الإطار!.".
شـعر الجراح بأن المريض يصده بطريقة غير مهذبة، لكنه قرر المتابعة وقال للمريض: "لا أريد أن أثيرك، ولكن مشـاعرك هذه تجعل العمل بيننا صعباً وعقيماً ودون الفائدة المرجوة منه، ربما هناك شـيء ما يزعجك، ومن المفيد أن نتحدث عنه معاً".
احتد المريض قائلاً: "مثل ماذا؟".
قال الجراح: "علمت من إحدى الممرضات أن أباك دخل هذه المشـفى سـابقاً، أخبرني عن هذا الأمر وما الذي حدث معه".
فتحدث المريض إلى الجراح وقصّ عليه كيف دخل أباه هذه المشفى قبل حوالي عشرين عاماً لإجراء بعض الفحوص والاختبارات الروتينية العادية، وأنه مات بسبب اختلاطات غير متوقعة.
سأله الجراح: هل أنت في خوف من حدوث نفس الشيء معك؟".
أجاب المريض : "نعم".
سأل الجراح: "ماذا تقترح؟".
أجاب المريض: "هل نستطيع أن نتعاون سوية لإزالة مخاوفي؟".
نلاحظ كيف سـاعد التعليق الودود كلاً من المريض والجراح على التحـدث عن الاختبارات المقترحـة وعن مخاطرها.. وبعد ظهور نتائج الاختبارات.. أعطاه الجراح معلومات واضحة عن نتائجها.
ورغم أن المريض بقي صعباً أحياناً خلال بقية الفترة التي قضاها في المشفى، فانّ طرق التدعيم التي وضعها الجراح للتعامل مع هذا المريض ساعدته على الخروج من أسوء المواقف.. دون أن يمزق علاقته مع المريض.
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
الاضطرابات النفسية عند ديتلف ميليس(4)/ فكرة عن التحليل النفسي للفيتشية 2/ اضطـراب الشـخصية المتجنبـة/ تصنيف اضطرابات الشخصية(1)