إلى السيد عبد الرحمن أبو ندى
غزة - فلسطين
تتبعنا نداءك عبر شبكة العلوم النفسية العربية، وآلمنا استفسارك حول كيفية التعامل مع مختلف الاضطرابات النفسية التي تصاحب الأطفال بعد الأهوال والصدمات التي عاشوها خلال العدوان على غزة.
ولقد كنا دائمي التفكير في قضية الأطفال طوال معاناة شعبكم وشعبنا، وخلال الحرب الأخيرة كذلك شرعنا في إعداد مواد علمية لمعالجة أو التخفيف من صدمات هذا الاعتداء الرهيب. لكني ظللت مراجعا نفسي دائما حول ملائمة وفعالية مثل تلك العلاجات المستقاة أساسا من المصادر الغربية وتجاربها مع معاناة الأطفال خلال حروب إفريقيا الكثيرة، أو آسيا أو حتى أوروبا والطرف المسلم فيها –طبعا-البوسنة، ألبانيا...
صحيح أن الإنسان هو الإنسان بكلياته في كل زمان ومكان، لكن الاختلافات الثقافية قد تدعونا إلى التفكير في اختلافات السيكولوجيا كذلك، وهو ما ينادي به الباحثون أيضا، ومختلف المؤسسات الإنسانية المتدخلة في الحروب والكوارث.. لذلك أستاذ عبد الرحمن:
1. يرجى الاستفادة من البرامج النفسية الاجتماعية التي توضع خصيصا لهذا الغرض؛
2. وكذلك اعتبار العنصر الثقافي في عمليات التدخل هذه وبخص بالذكر البعد العربي الإسلامي بعاداته ومعتقداته والتي تزخر بأدوات كفيلة في الحفاظ على الاستقرار النفسي بعد تشبع القيم والمبادئ،والذي يمكننا تسميته بالدعم النفسي الإسلامي؛
البرامج النفسية الاجتماعية
أمام مثل هذه الحالات من الاضطرابات النفسية، العقلية والعاطفية والتي تؤثر على الوظائف الفسيولوجية، لا بد من توفير الأمان في البداية للأطفال وإشعارهم أنهم في مأمن من كل خطر بعد الآن..
محاولة استدراجهم بالتدريج للحديث، وهذا من أصعب المهمات، حيث دائما يقال أن المهم "هو إيجاد الكلمات المناسبة"، وذلك قصد اقتراح عليهم نشاطات البرنامج النفسي الاجتماعي المتمثل أساسا في:
الجانب الاجتماعي:
- النشاط الجسدي، الفني والترفيهي.
عرف عن الأطفال أنهم ميالون للرياضة في مثل هذه الحالات، الرسم كذلك يستهويهم، التمثيل، الحكايات..
عبر هذه النشاطات تتم عملية تفريغ للطاقات المكبوتة، استشعار بالتقدير الذاتي عبر الانجازات..
في الرسم تترك لهم حرية الإبداع، ويراعى في التمثيل اختيار المعاني والمفاهيم الملائمة.
لتحقيق هذا البرنامج يستحسن تنظيم جذاذة تضم مواعيد هذه الأنشطة مع مراعاة أوقات الدراسة وظروفهم العائلية..
يتم تكييف جو من الأمان والمرح والروح الرياضية.
الجانب النفساني
يبغي التأثير على عقل الطفل وتغيير تصوراته وبالتالي عواطفه السلبية إلى الايجابية.
لا بد من إعطاء تفسير مقنع للطفل لما جرى ليعمل على اقتناع تام الذي قد تسهل معه عملية التخفيف من حدة الانفعالات والتغلب عليها واستيعابها.
- تشجيع الأطفال على حكي صدماتهم يخرجها من ذاكرة الكبت واللاوعي إلى العلن والاستئناس بها،
- معاودة زيارة أماكن الدمار والصدمات لتسهيل وتخفيف آثارها، مع إعطاء التعليقات الايجابية المقنعة.
كل هذه التدخلات معروفة بما دعي بالعلاج المعرفي السلوكي والعلاج بالتعرض.. وغيرها من العلاجات المختلفة.
- بالإمكان كذلك اللجوء إلى مقاييس لكشف مختلف درجات الاضطرابات النفسية الناتجة عن الصدمة -راجع مواد مرجعية لشبكة العلوم النفسية العربية-
هذا وقد يقتضي الأمر العلاج الدوائي للحالات الصعبة ووصف العقاقير من طرف طبيب نفساني مختص -للأطفال تفضيلا- والتي تكون مضادات للقلق الاكتئاب المنومات..الخ مع مراعاة الجرعات الملائمة للسن ومسالة الإدمان على العقاقير.
لكن ما يهمنا في هذا الإطار هو مراعاة خصوصيتنا العربية الإسلامية، وهي هامة جدا وكفيلة بضمان توافق للبنية النفسية للأطفال والتغلب على آثار صدماتهم.
استخدام الإطار الديني العربي الإسلامي
تؤكد الدراسات أهمية الإرشاد الديني في التخفيف من المعاناة النفسية، وأصبحت دروسه معترفا بها من طرف بعض مؤسسات التكوين المستمر. كما أنه لوحظ أن الأشخاص ذوي القناعات الدينية القوية يكونون أقدر على تحدي الأزمات والكوارث وكذلك ذويهم وأبناؤهم المتشبثين بها: حال حزب الله مثلا والضاحية الجنوبية الصامدة في لبنان.
ولنتذكر أن الصراع تاريخي حضاري ديني..
لنذكر أهل غزة أنهم في الخطوط الأمامية لعدو الأمة.. أنهم شرفاء هذه الأمة ينوبون عن تقاعس أغلبية المسلمين..
العدو صنف من يهود مفسدين ملعونين.. لنعتبر أنه بلاء الله تعالى..
وليس المقصود أستاذ عبد الرحمن تحويل حصص الدعم النفسي والأنشطة الاجتماعية إلى خطب دينية متواصلة، ولكن في إطار مقاربة شمولية للأمر يرجى إدخال المكونات الإسلامية بحبكة وفنية وتلقائية كلما سنحت الفرصة بذلك..
منذ اللقاءات الأولى:
- السلام عليكم يأهل الشهداء.. هنيئا لكم هذا الفخر وهذا العزة.. الناس تغبطكم على رفعتكم..
الأبناء يستمعون.. يسجلون..
هل كلكم راض عن قدر الله؟ من يعترض على قدره ومشيئته. لنذكر بقول الله تعالى "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ....."(التغابن:11)
طبعا الكلمات قد تؤتي أكلها فيما بعد، والبدايات صعبة طبعا.. لكن الأمر يستدعي المحاولات والإصرار: قد ينجح الأطفال في الخروج من دوامة الذهول والذعر والصور المؤلمة.
في خلال الحصص العلاجية والحكي... تتم تعليقات ملائمة:
"عظيم يا أكرم.. احك يا لشجاعتك.. احك بفخر واعتزاز.. أنت ابن شهيد/أو أخ شهيد أو ابن شهيدة/...الخ"
- رحم الله الوالد- رحمة الله عليه.. انه في مرتبة عليا- انه مرتاح.. يجب أن تفرح له يا أكرم أليس كذلك؟
يتم التذكير أن هذا كلام الله تعالى: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران:169)
أثناء الحديث عن أمر الشهداء، يتم إنجاز شبه مسابقة وتنافس حول من قدم الكثير من الضحايا، ليتم تسجيل أسماء الأطفال على لوحة أو جدارية أو ملصقة- وأمام كل اسم لائحة بالضحايا وأسمائهم كذلك، فيهنئ الذي قدم أكبر عدد من الشهداء والثناء على الجميع طبعا..
أرجو اعتماد هذا النشاط في مختلف البرامج الاجتماعية لرفع الروح المعنوية للأطفال وإشعارهم بالتقدير الذاتي..
ندع الأطفال يتحدثون ما يشاءون، يسألون ما يريدون، محاولين طمأنته وإقناعهم حول مصيرهم:
- سيضربوننا متى شاءوا لا أحد يردعهم؟
لنطمئنهم أن العدو جبان حقير يضرب الأبرياء وأنه يخاف من إطلاق الصواريخ وأن المقاومة مستعدة لدكه، وبما أنه يخاف من الموت سيرتدع..
- لا تخافوا إن سمعتم الطائرات، إنه يريد أن يفزعكم ليس إلا.. بكلمات نحاول أن نعطي الأمان لهؤلاء الأطفال..
يشجع الأطفال على أداء الصلوات- الدعاء لموتاهم وقراءة القرآن لهم، الصدقة لأجلهم. هكذا يحس الأطفال أنهم على اتصال دائم بأهاليهم وأنه يصل عملهم إليهم.
لا بأس من الاحتفاظ بصورة والديه، مع الاستفسار دائما عن:
- من دعا لوالديه
- كم قرأت من القرآن يا يحيى على أبيك؟
ينادى على الأطفال بأسمائهم الشخصية مع النظر في عيونهم باهتمام وتقدير ما ضحوا من أجله.
طبعا تراعى اللهجة المحلية وعدم الإكثار من اللغة الفصحى التي تكون جامدة باردة أحيانا ولا تصل إلى القلب.
وإذا مضى الحديث وتمت التساؤلات حول هذه الأحداث العنيفة جدا ولماذا نحن الفلسطينيون بالذات، ويا لهولها وجسامتها: يتم التذكير داما بقدر الإنسان المحتوم ومصيره، وكذلك قدر الشعوب ومصائرها، وان للشعب الفلسطيني شرف المواجهة في الخط الأمامي للعدو الحضاري.
كما وجب إشعار الأطفال وإفهامهم أن الموت مقدر على كل واحد، وله أجل لا يتعداه
"وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ"(الأعراف:34)
وأن الناس يموتون في كل مكان، بالمئات والآلاف سواء بالأمراض المستعصية، كالإدمان والسرطان والسيدا والسكري وأمراض القلب عدا حوادث السير القاتلة، فإن مات الفلسطيني شهيدا فهذا شرف وما بعده شرف.
هذا بعض مما يمكن تقديمه لأطفالنا وأهلنا في غزة من جراء هذا العدوان الظالم المستمر، وبالتوفيق أستاذ عبد الرحمن في مهامك تجاه أبناء شعبك وشعبنا، ونبقى في خدمتكم في حدود الإمكان والاستطاعة.
مع التحيات؛
اقرأ أيضاً:
دورة دار الحكمة.. والجوانب النفسية للنكبة / الدعم النفسي للأطفال في ظروف الحرب / الصحة النفسية في مواجهة الكوارث / استمرار الإحساس بالفجيعة أو الخسارة