كان يقود السيارة بعد أن انهينا إفطار "مجموعة الجنوب" السنوي، والذي سعدنا هذا العام بأنه قد ضم معنا الأستاذ "بلال فضل" الكاتب والسيناريست الشاب، والسيدة زوجته "داليا يوسف"زميلتنا في إسلام أون لاين.
الحوار القصير المصاحب للشاي بعد تناول الطعام كان واعدا وعميقا، وأعتقد أن من لم يحضر هذا الإفطار فاته الكثير غير الأكل الشهي!!
في السيارة قال مرافقي وقائدها مشيرا إلى لافتات ضخمة عن مشروع معماري كبير: هذه أكبر شركة في الشرق الأوسط، وما ترفع بناءه هو ضخم وفخم بالمعنى الحقيقي للكلمة.... ولم أعلق!!
أجلس الآن في القطار العائد إلى القاهرة، ورأيت في جريدة يفتحها من يجلس أمامي بمقعدين إعلانات ضخمة عن نفس المشروع: الفخم والضخم!!
وأنا انتهيت لتوي من قراءة المدونات التي كتبها أخي د.وائل على "مجانين" عن" زيارته إلى لبنان"، وفيها يشير إلى ما كنا قد تحدثنا فيه سابقا، شفاهة وقد أكون كتبت فيه أو عنه من "الإعمار الجهادي" كما أسميته، ونعني به نمط البناء في لبنان بحيث يكون جاهزا للتعامل مع حرب قادمة لا ريب في إطار المواجهة المستمرة بيننا وبين إسرائيل!! والآن تتلاطم تداعيات المعاني في رأسي، وتهزني هزا!!
أسأل نفسي:هل يمكن أن يزخرف مؤمن حياته بالطريقة التي نراها فيعيش كثير من أغنياء المسلمين؟!
هل سيكون الإيمان آمنا وناميا وسط أعمدة الرخام المصقول، وغيرها من التجهيزات فائقة السعر والجودة والفخامة؟! هل من يؤدي زكاة ماله، ويتبعها بصدقات، سيقف آمنا بين يدي الله سبحانه يوم تتقلب القلوب والأبصار؟!
فجوة هائلة بين الإعمار الجهادي الذي يحاول الاستعداد للمواجهة، والإعمار الفخم الذي من الطبيعي أنه لا يبني وهو يتوقع هجوما أو حربا أو مواجهة!!
هل سيأتي علينا يوم تتحكم في قرارات الدفاع عن أنفسنا كتل الخراسانة أو مصالح وأناس يرتدون الحفاظ على أسواقهم في المولات، وفيلاتهم في المجمعات والمنتجعات، وملاعب الجولف، وأبراج السياحة، والمدن الترفيهية الضخمة، هل سيخافون عليها، ويضغطون من أجل سلامتها؟!! ومن قبل ومن بعد من الذي يحدد المصلحة العليا لبلد مثل مصر؟! هل هي فئة معينة، أو طبقة معينة تقول بأن مصلحة مصر الآن في السلام وعدم الحرب، أو العكس، أم ماذا؟! لا أتصور نفسي أجلس في قصر منيف أتحدث عن الجهاد مثلا؟!
وشاعرنا أحمد مطر سبق بالقول قبل مرضه:
وغاية القصور في الثورة
أن تعرض الثورة في القصور!!
وتحتاج نفسية أصحاب القصور والمنتجعات بالغة الفخامة والضخامة إلى دراسة مستقلة تتحرى الصدق والحقيقة في العلاقة بالإيمان. مبدئيا فإن الإسلام كما أعرفه قد ذم الترف وأهله، وفي المسلمين ترف ومترفون أعتقد أحيانا أنه قد يفوق أحيانا ما لدى بعض الأمم الأخرى!!
أحسب أن الذوق والشعور الإيماني الروحاني الحقيقي يأنف من هذا، ويجفل بعيدا عنه، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرعيل الأول من صحابته، حتى رأينا من يبكي لأن الدنيا فتحت عليه بأشكال وأشياء لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
واضح أن دخول الإسلام إلى ثقافات وحضارات أكثر ترفا من البيئة العربية الصحراوية، أي بيئة النشأة، قد أصاب مسار الدين وحركته بشيء يجدر معرفته ودراسته تفصيلا، وواضح أن التوسع السريع في ضم بلدان وشعوب وملل وأقطار وبشر إلى الإسلام دون جهود استيعاب ثقافي وإيماني وأخلاقي وروحي، يبدو هذا قد أصاب الإسلام في مساره التاريخي بشيء تجدر معرفته ودراسته تفصيلا.
كنا نستعد للإفطار أمس حين قلت لإخواني: أرى أن هناك خطوات وتحركات لتبديد طاقتنا في الرد على الشبهات، والإساءات، بدلا من إنجاز أجندة أهم، قال أحدهم: يقول القائلون: ماذا لدينا أهم لنعمله؟!
فقلت:حركة استيعاب تنقصنا بشدة، استيعاب للمسلمين أنفسهم وكسبهم لمصلحة الإسلام بعقلانيته وتحرر هو ديمقراطيته، وكل جوانب التألق والعظمة فيه!!
المسلم المعاصر يفتقر إلى برامج حقيقية للإعمار النفسي والاجتماعي والثقافي.
إنني أتطلع حولي فتدهشني أن نفوس وعقول البعض هي محض خرائب، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويقطنون بيوتا يزخرفونها بدلا من إعمار باطنهم، وهو مفتقد!!
أنا لا أتحدث عن أخطاء عابرة، ولو تكررت، إنما أقصد، إنما أقصد تلك الاحترافية والإصرار على تحري سفاسف الأمور، وعورات الناس، والعيب والطعن والغيبة والنميمة والكذب والتجسس والتلصص، والخوض في الأعراض، وإهدار الوقت في ذلك وأمثاله، وهي حياة الكثيرين منا!!
تذكرت قول الشاعر:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
تخيلت جماعات فمن يعرضون عن الخراب ونشره يسمعون قول القائل:"إنهم يبنون".. فيقولون لأنفسهم: ونحن أيضا!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: الإيمان؛ قصة ومناظر/ على باب الله: هدم جدار، وبناء حائط!!