التفتُ من حولي فلم أجد شيئاً غير كتاب مظهره بدا قديماً لي من كثرة الغبار عليه، يا له من مكان قذر مرّت عليه سنين دون أن تمسسه يّدُ إنسان، وها هي جدرانه تآكلت مع مرور الزمن وأثاث هذا المنزل يصرخ يريد الهروب فقد قتلته الأيام وقطعت أنفاسه الغبار، يريد أن يرمى بعيداً ولو على مرمىً للنفايات.... كنت في غاية التعب فعزمت على الرحيل ولكن أثارني فضولي واقتربت من الكتاب وإذا بي أغطُ في نوم عميق......
كان الشارع مليئاً بالضجيج، بائعون على أرصفة الطرقات، ونساءٌ يحمّلن أغراضّهن، وأولادٌ يشترون الكعك والترمس، أما أنا فقد كنت جالسةً على الرصيف فقط لأشاهد ماذا يجري من حولي. كنت في غاية الحزن والإحباط حينها، كنت كالتي تنادي بصوت مرتفع فلا يصل صوتها.... كنت كالتي ترفض واقعاً كان قد فرض عليها، كنت كالتي حسبت أنها تملك شطوراً عظيمةً من خارطة الحياة, وأدركت خذلان الحياة لها..... لا أريد هذه الحياة لا أريدها.. دعوني.. دعوني أبوح....
قال الله تعالى في كتابه العزيز: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)]. صدق الله العظيم. (سورة الذاريات).
رددتها بصوت عاجز يصيح، رددتّها وفي عيوني بحارٌ من الدموع، كلُ شيء تغيّر حتى القبور أصبحت خاليةً من الزائرين.... والكل منهمكٌ، لا وقت ليضيع، حتى الفطور تحوّلَ إلى كوب من العصير....
أين الناسكون؟ أين العابدون؟ أين المصّلون؟ أين الطاهرون؟ أين أمّة سيدنا محمد(صلى الله عليه وسلم)؟؟ أين ذهبت؟ أين ُفقدت؟ بالله أرشدوني... ضلّلنا عن طريقك يا حبيب لله... نسينا خطبة الوداع... وتهنا عن آخر آية من القرآن نزلت "وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" صدق الله العظيم.(سورة البقرة الآية 281).
ماذا عسانا أن نقول لك عندما نلقاك؟ كيف ستجرأُ أعيننا لنظر إليك؟...
أيهّا القارئ، أيتها القارئة، أعرفُ بأنكم حتى الآن تتساءلون عن ماذا أتكلم، ولكنكم إن نظرتم من حولكم وتأملتم قليلاً لعرفتم أن بطلة هذه القصة هي "الحياة" البطلة التي لم يقهرها أحدٌ حتى اليوم، البطلة التي تفوز دائماً وتجعلنا نخسر،البطلة التي تلعب أدواراً متعددة الوجوه، البطلة التي عشقها الجميع ولم تعشق أحداً منهم، التي خسرتّنا أشياء ولم تخسر شيئاً، التي تشعرنا بالظلم ونعجز عن الانتصار عليها، التي تضطرك لتغيير مبادئك لتسايرها، التي تدفعك للقيام بأدوار لا تناسبك، التي تجعلك تضع أجمل ما لديك تحت قدميك كي ترتفع عالياً وتصل إليها، التي تقودك لتتظاهر بما ليس في داخلك كي تحافظ على بقاء صورتك جميلة، التي تجعلك تصافح بحرارة أياديً تدرك مدى تلوثها، وتبتسم في وجه أناس تتمنى أن تبصق في وجوههم وتمضي، أن تعاشر أناساً فرضت عليك الحياة وجودهم في محيطك....
كل هذا الواقع المرير حيث بتنا نرى الأشياء من حولنا تتلوث ونتألم بصمت، ونغمض أعيننا على حلم جميل ونستيقظ على وهـم مؤلم، كل ذلك وأنت تشعر بأنك خسرت أشياء كثيرة لم يعد عمرك يسمح باسترجاعها.... تمر علي لحظات أتمنى التخلص فيها من ذاكرتي، وبُدت أجلس مع نفسي فلا أجدها، وأصبح اللذين من حولي غرباء عنّي لا أعرفهم، فهم من عالم غير عالمي، ولدنا معاً نعم.... هنا في نفس الحفرة... ولكنّي سلكت طريقاً فرقني عنهم...
لا وألف لا إنني لا أنتمي لهذه الحياة، إنني أنتمي لعالم آخر تحكمه الفضيلة والوقار، عالم يخاف الخالق الجبّار، عالم يهابُ الاعتراض، عالم طهرّته مخافة الله وأنقاه حب الله...
اعذروني يا سادة النفاق... ولا تحكموا عليَّ بالعدم، اعذروني فقد مللتُ عالمُكم المخيف، وقررتُ الرحيل بعيداً... إلى عالم الأبرياء... إلى عالم الصدق والوفاء... إلى عالم يرضاهُ الله.
اقرأ أيضا:
الذوق العام/ الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر