(1)
قال الشاب لأخته: لقد كرهت كل هذه القبلات، لم أعد أطيقها. قالت أخته: أحسن، وقاية من أنفلونزا الطيور. قال: أنا لا أمزح، كلما رأيت هؤلاء الرجال يقبلون بعضهم بعضا في الصحف أو في التليفزيون يصيبني الغثيان. قالت: أرح نفسك ولا تشاهدهم يا أخي، قال: أنا أتكلم جدا، الكل الآن يقبل الكل وقد رسموا على وجوههم تلك البسمات المتجمدة من بقايا منصهر زجاجات البلاستيك التي يجمعونها من صناديق القمامة.
قالت الفتاة: يا نهارك أسود، ما كل هذا القرف؟ قلتُ لك أرح نفسك ولا تشاهدهم. قال الشاب: إذن أشاهد ماذا؟ وهل بقى للمشاهدة غير هذا الكذب، ويا ليت الأمر اقتصر على الرؤساء، بل إن العدوى انتقلت إلى رجال الدين، حتى وصلت بيتنا؟ قالت: بيتنا!!؟ قال: هل رأيت عمى عبد التواب وهو يقبل أبى وهو ممسك بأوراق الحجز على قراريطنا الخمسة خلف ظهره؟ قالت: نعم، ولكن والدي قبـّله بشوق وصدق، قال: لأنه المدين، قالت: أنت تجعلني أشك في كل أنواع القبلات، فكيف أقبّـل أصحابي وصاحباتي بعد ذلك؟ قال الشاب، ماذا تقولين؟ صاحباتك، يعنى!، ولكن ما علاقة القبلات بأصحابك؟ قالت الفتاة: هل أنا قلت أصحابي؟ قال: نعم، قالت: أبدا والله العظيم، قال: وتحلفين؟ قالت: يجوز! لا أذكر.
(2)
قال الشاب: قل لي يا أبي: ما هي حكاية "قبول الآخر" هذه التي يصدعوننا بها ليل نهار؟ قال الرجل: لقد ضجرت من أسئلتك هذه يا ولد، وإن لم تتوقف عنها فقد أتجنب الحديث معك من أصله، قال الشاب: آسف، ولكنني لا أطلب إجابة حقيقية، أنا أعرف أنك تشاركني رأيي في كذب هذه الخطب وتلك الأحضان، و"ما في القلب في القلب"، أنت تشاركني يا أبي حتى دون أن تتكلم، قال الرجل: أشاركك ماذا؟ قال: تشاركني رفض كل هذا النفاق المغلف بالقُبَـل، قال الرجل: قـُُبل ماذا؟ ونفاق من؟ أنا لا أرفض شيئا، أنا ليس عندي وقت للرفض، ولا للتفكير أصلا، قال الشاب: وهل المسألة تحتاج تفرغا لنفكر فيما يقتحموننا به كل لحظة؟ إنها تحدث غصبا عنا. قال الرجل: أية مسألة وأي غصب يا جدع أنت!! أنا مهموم بتدبير أجر المدرسين الخصوصيين لإخوتك، وبتدبير ثمن الفول المدمس يوميا، إن أي تفكير آخر هو خطر وقلة أدب. قال الشاب فزعا: التفكير خطر وقلة أدب يا أبى؟ قال الرجل: أنا قلت التفكير خطر وقلة أدب!!!؟؟ قال الشاب: نعم، قال الرجل: أبدا والله العظيم، قال الشاب: لا تقسم يا أبى؟، قال الرجل: يجوز، لا أذكر.
(3)
فوجئت أمه بمن يلثم خدها بحنان دافئ، لم تبذل جهدا في أن تستبعد أنه زوجها، لم تسارع بالالتفات حتى تستوعب رائحة هذه القبلة الرائعة المفاجئة معا، "من؟" أدارت وجهها بهدوء فوجدت الشاب واقفا، فكادت تحتضنه وتقبل رأسه، ثم زاد الموقف عذوبة والشاب ينحني على يدها يقبلها. دفعته برقة وهى ما زالت تتعجب: "ماذا؟ فيه ماذا؟ ماذا جرى لك يا ابني؟". قال: أنا ذاهب يا أمي، قالت: اذهب يا حبيبي، رافقتك السلامة، إلى أين؟ قال: ربنا يخليكِ، ادع لي أكثر، فأنا ذاهب بعيدا إلى حيث أولاد خالتي، لقد أرسلوا لي "الفيزا"، قالت: أطاليا؟ اسم النبي حارسك وضامنك، ربنا معك، إنهم يحضرون معهم في كل أجازة شيئا وشويات، قال: أهذا ما يهمك يا أمي؟ قالت: لا أقصد، ولكنك ستشترى الشقة، وأنت تعرف أن بنت خالك تنتظر.
قال الشاب: ولكنني أفكر في البلد، قالت: أية بلد؟ صحيح البنت تقيم في "البلد" لكنها مستعدة أن تتبعك أينما كنت. قال: يا أمي، البلد أعني مصر, أنا سأعود لفتح مصر. قالت: ماذا؟ فتْح ماذا؟ قال: السفر يفتح المخ، والمخ يفتح الدنيا، ومصر أم الدنيا. قالت ماذا جرى لك؟ تسافر لتفتح مخك، ومخك يفتح مصر، ما هذا ؟ قال الشاب: لا أريد أن أصبح مثل أبي الذي تجمد خوفا في محله حتى أصبح يرتجف إذا هم بالتفكير. أليس السفر من أيام الهجرة للمدينة المنورة هو الذي مهد لفتح مكة؟ قالت: أولاد خالتك في الأجازة لا يذكرون أبدا أن مكة في أطاليا، هل نقلوا العمرة إلى هناك!!؟ قال الشاب: أستغفر الله العظيم، ماذا تقولين يا أمي، العمرة في إيطاليا؟؟؟!!! قالت: أنا قلت العمرة في أطاليا؟ قال الشاب: نعم، قالت: أبدا والله العظيم، قال الشاب: لا تحلفي يا أمي لو سمحت؟، قالت المرأة : يجوز، لا أذكر.
(4)
فتح الشاب التليفزيون أثناء مروره بالصالة وكأنه يريد أن يتأكد أنه على حق، فرأى ما توقع، فصاح وهو يغلقه على الفور:
الله يخرب بيوتكم!!!
واقرأ أيضا:
تعتعة: التغابي حيث لا داعي للتحايل!/ تعتعة سياسية حتى لو أجهضوها ألف عام!/ استحالة الممكن وحتمية المستحيل/ أدنى من النمل الأبيض!!!/ يا هنود العالم الحُمْر، اغضبوا أو انقرضوا..!