كانت أكثر الهتافات سخونة وحدة في كل المظاهرات في القاهرة والمدن المصرية هتاف: "الشعب يريد إسقاط النظام".... وبعد أيام قليلة من بداية مظاهرات 25 يناير 2011 بدأ هذا الهتاف يتناوب مع هتاف آخر وهو "ارحل ارحل يا مبارك السعودية في انتظارك".. ثم تطور إلى "ارحل ارحل يا مبارك تل أبيب في انتظارك". ومن الواضح زياة حدة الهتافات وما تحمله من دلالات الغضب والرفض، على الرغم من أن المجتمع المصري ما يزال مجتمعا أبويا (على الأقل في أغلبه) ويسامح ويغفر بسهولة، وقد غفر لعبد الناصر نكسة 67 بكل بشاعتها وغفر له استبداده ودكتاتوريته وتعذيبه لمعارضيه في السجون وخرج 4 ملايين من المصريين يشيعون جنازته، فما الذي جعل المصريون يختلفون هذه المرة ويأخذون هذا الموقف الصارم نحو ضرورة رحيل الرئيس، والمظاهرات تحترم في كل مكان على الرغم من بعض الخطوات نحو تعديل الدستور وتغيير الوزارة (جزئيا) وإبعاد بعض الوجوه المكروهة في الحزب الوطني، كل هذا لم يكن كافيا في نظر المتظاهرين لأنهم يريدون إسقاط النظام وإسقاط الرئيس، ويبدو أن الوعي الجمعي لدى المصريين يدرك أن النظام هو الرئيس والرئيس هو النظام، وهم يحملون الرئيس كل خطايا النظام.
وكلما حاول أحد تذكير الهاتفين بسقوط الرئيس بأن له تاريخ في حرب أكتوبر وأنه فعل كذا وكذا من أجل وطنه، تجد الرافضين له وقد اشتد غضبهم واستنكروا أن يكون له أي انجازات أو يعتبرون أخطاءه لا تغتفر وتغطي على أي إنجازات.
فما هو يا ترى السر الدفين وراء هذا الرفض الذي يصل إلى الكراهية؟
إن التفرقة بين الأبناء... بمعنى أن مبارك الرئيس يعتبره الناس بحكم التكوين الثقافي أبا لهم، ولكنهم اكتشفوا أنه فضل بعض أبنائه عليهم فأعطى ابنه جمال فرصة التصرف في مصر بطولها وعرضها، وليس فقط جمال دائما أيضا أصدقاء جمال من رجال الأعمال الذين ترك لهم الحبل على الغارب يمرحون ويرتعون في المال العام في حين عاش بقية أبنائه من المصريين تحت خط الفقر بل تحت خط الإبادة، وهم ينظرون إلى أصحاب الحظوة والسطوة من أصدقاء "جيمي" يستولون على الأموال والأراضي بضراوة شديدة، وإذا شكوا أو احتجوا أو ناموا على رصيف مجلس الشعب أو الشورى خرج لهم عساكر الأمن المركزي بهراواتهم الغليظة. ولم يكن الفقيرين فقط الذين يشعرون بالغبن من مبارك وابنه وأصدقاء ابنه ولكن أيضا المحامون والأطباء والمدرسون والمثقفون وموظفو الضرائب العقارية وعمال المصانع التي بيعت للهنود والإسرائيليين.... وهكذا اتسعت دوائر المظلومين والمقهورين والمغبونين وهم جميعا يستغيثون بالأب والرئيس مبارك ولكنه لم يكن ليسمع أو يستجيب، فقد هجر مصر والمصريين وعاش في منتجعه الهادئ في شرم الشيخ وترك البلاد لمن ينهبها ويقهر أهلها ويذلهم.
إذن فالشعب المصري يعتبره مسئولا عن كل ما اقترفه أباطرة الحزب الوطني ولجنة السياسات وباشاوات الداخلية بحق الشعب المصري. لقد وثق مبارك أكثر من اللازم ببطانته (صفوت الشريف وزكريا عزمي وفتحي سرور) وبابنه وأصدقائه وعلى رأسهم أحمد عز، فكانت النتيجة أن تورطت هذه البطانة في حماقات أورثت المصريين بغضا شديدا للنظام ورمز النظام. وكان المصريون على عادتهم القديمة صابرون خانعون خائفون صامتون، ولذلك واصلت البطانة ظلمها وسلبها ونهبها وقهرها، وواصل مبارك تجاهله وإنكاره والإغلاق عينيه وأذنه وقلبه عن صرخات المعذبين وأنات الجائعين وآهات المقهورين واستمر الحال سنوات طويلة تراكمت فيها المشاعر السلبية في النفوس.
وحين هبت رياح ثورة 25 يناير 2011 استيقظ وعي المصريين وخرجت مشاعرهم المتراكمة من تحت الرماد واكتشفوا الظلم البين الذي وقع عليهم جميعا فانفجروا تظاهرا وسخطا ورفضا للنظام ورموزه، وخاصة الرمز الأكبر مبارك ولم يستطيعوا أن يغفروا له ما فعله بهم ولم يستطيعوا أن ينسوا أنه تركهم بين فكي بطانة شرسة مزقت لحمهم ومصت دمهم وأنهكت قواهم وأهدرت كرامتهم لذلك لا نستغرب هذا التمسك العنيد برحيل مبارك واعتبار ذلك الرحيل هو العلامة المؤكدة لنجاح الثورة في تحقيق أهدافها، وأن بدون هذا الرحيل تكون الثورة قد دفعت ثمنا غاليا ممثلا في ثلاثمائة شهيد وخمسة آلاف جريح دون أن تحقق شيئا.
وهذه هي المعضلة الآن فالمتظاهرون يرون أن أهم هدف لهم هو رحيل مبارك، ومبارك عنيد لا يريد أن يرحل عنوة، وهو قد تمترس بالمؤسسة العسكرية، والأخيرة في حرج ولا تقبل إهانة أحد أبنائها وقادتها، وتريد أن تهيئ له خروجا كريما، ولكن الوقت يمر وكل طرف مصر على موقفه ولا أحد يعرف ماذا ستأتي به الأيام.
وبعض العقلاء يقترح أن يتبرأ مبارك من كل الخطايا التي ارتكبت بحق المصريين في عهده وأن يحاسب المسئولين عنها حسابا عسيرا لأنهم أولا آذوا الشعب المصري وثانيا أهالوا على تاريخ مبارك التراب ووضعوه في هذا الوضع الحرج في نهايات حياته ونهايات حكمه وجعلوه يخرج من الحكم بعد ثلاثين سنة بهذه الطريقة التي لا يرضاها لنفسه، ولم يكن ليرضاها أحد لولا أن الجرح عميق.
أما إذا لم يفعل ذلك، وبالتأكيد هو لن يفعل، فإن ذلك يحمل توقعات كارثية نتيجة غضب الجماهير الهادر وصرخاتهم المدوية: "الشعب يريد إسقاط الرئيس" "ارحل ارحل يا مبارك"، والقاعدة المعروفة هي: "إذا الشعب يوما أراد الرحيل فلا بد أن يستجيب القدر".