فيما كانت الحافلة تعبر الطريق صباح أول أيام رمضان لاحظت حركة مريبة بالشارع........ الكناسون يدعون أدواتهم.. ويلقون مكانسهم ويهرعون خلف السيارة الشبح السوداء التي وقفت على جانب الطريق، بينما كان المحصل; الجالس على كرسيه المجاور لباب الحافلة الخلفي يتبادل عبارات ملغزة مع سائق الحافلة الذي كان يختلس إليه نظرات خاطفه متسائلة... كان يبدو أن كليهما يدرك بشكل ما تلك المظاهر المريبة التي احتار لها جميع الركاب... كان الكمسري يهتف للسائق بعبارات إشارية ترتفع لها حواجب الركاب دهشة..... شفرات غريبة كمثل... قشطة يا طاقة القدر... فيخطف السائق نظرة مستهزئة إلى محدثه ويرد مندهشا هينوبنا من الحب جانب...
يوقف الحافلة فيهبط المحصل قبل إن تتوقف تماما وهو يركض جوار الحافلة كمحترف لينخرط وسط المتسابقين تجاه العربة الشبح التي بدأ ت تسير علي مهل تراوغ... تتوقف لحظات حتى يبلغها أسرع المتسابقين ولا تلبث إن تنطلق في بطء وقور وتصدح في الأجواء قهقهة قبيحة.
أخذت أتابع المشهد الغريب بينما كنت أسير في طريقي وتبينت بين المسابقين عسكري المرور والكناسين وموزعي الجرائد وطائفة من عمال المعمار العاطلين الذين تجدهم يفترشون أرصفة الشوارع عند طلعة النهار في انتظار مقاول أو أحد البهوات ليسند إليهم أي من الأعمال الشاقة آملين إن يعودوا إلى جحورهم آخر النهار وجيوبهم دافئة باليومية... فيغتسلوا ويتناولون إفطارهم مع المرأة والعيال... .تلهيت بالفرجة على هذا السباق فتعثرت أكثر من مره بالأدوات التي هجرها أصحابها على الرصيف والتي ميزت بعضها واحترت في أمر البعض الآخر..... مكانس، أكوام من الصحف، كوريك، فئوس، قصعات، خوازيق حديدية مضمومة في حزم، شواكيش، ومطارق ثقيلة متعددة الأحجام، وعصى شرطي المرور البيضاء، وصناديق ماسحي الأحذية، وعكازي الشحاذ الذي لا يفارق زاوية الرصيف.
كان الزحام يشتد والوجوه الصائمة تبدو وقد تخلصت من القرف الذي كان ينبع من الاطعمه الفقيرة في معييهم. استقرت الشبح في منتصف الطريق وكان المحصل هو أسرع المتسابقين مد يده اليمنى داخل نافذة العربة الأمامية فانطلق قائد الشبح بسيارته عامدا ليطير الكمسري في الهواء كريشة في مهب الريح قبل أن يسقط لنسمع كأكأة عظامه على قارعة الطريق بينما صاحب الشبح يقهقه بصوت مجلجل طروب.
ومن مكاني على الطوار استطعت إن أشاهد ذلك الرجل الذي كان يرتدي ملابس بابا نويل المميزة ...الطرطور الأحمر ذي الزر الأبيض المستدير والعباءة الحمراء ذات الحواف البيض. وفيما كنت مندهشا لهيئته الغريبة فوجئت به يسدد إلى نظرات فاحصه... مبتدئا بالنظر إلى حذائي البالي المتسخ ثم حلتي التي اشتريتها يوم شاهدت العرض الأول لفيلم حمى ليلة; السبت بسينما مترو ومنتهيا بتفحص الصورة المزرية التي بدا عليها وجهي والتي ضاعف من بؤسها السنتان الأماميتان المكسورتان واللتان فقدتهما أثناء إخلائي للجرحى في حرب أكتوبر... جمدتني نظراته الوقحة وتملكني الحرج والارتباك.... خرج من السيارة واتجه صوبي... تراجعت... أسرع تجاهي... استدرت وأخذت اركض محاولا الفرار... سمعت خطواته يجري خلفي ويقترب... أدركت أني واقع في قبضته لا محالة.. توقفت وواجهته ..توقف عن الجري وتقدم في بطء وثبات ناظرا إلى كتابي وسماعتي الطبية اللتين احتضنتهما وصنعت منهما سدا ليحول بينه وبيني.... أزاح الكتاب والسماعة وأخذ يحشو جيوبي بأوراق نقدية كثيرة... بنكنوت جديد يطقطق وأنا أحاول إزاحته.. أجاهد بكل طاقتي بيد أنه كان قويا كالثور... كنت أختنق تحت وطأة السحر والإهانة...
أصرخ في وجهه أن يذهب عني فأنا لست متسولا واشتد بي الغضب حين سمعت الكمسري يقول وهو يغمز بعينه ويزوي جانب فمه ويعض على شفته السفلى بوقاحة.. خذ.... خذ...... منه ثم أعطني ما أعطاك... كان الصراع محتدما بيني وبينه... أزحت وجهه بيدي بقوة فسقط طرطوره الأحمر فبدا لي وجهه وصلعته التي تحاكي الشمامة في طولها ولونها وداخلني شعور أني عرفت هذا الوجه من قبل...... ولما انتهى من حشو كل جيوبي بالمال دون إرادتي تركني انتفض من قسوة المهانة والتدني.............
صباح يوم لاحق كنت أستقل سيارتي الجديدة في طريقي إلى المستشفى وكانت هيأتي وهندامي قد تبدلا تماما بعد أن وضعت أسنان صناعية ومنظار طبيا ثمينا وارتديت حلة فرنسية رائعة وزوج من الأحذية الجميلة...... وحين ظهر الشبح في نفس التوقيت لم يكن المهرج وحدة هذه المرة بل كانت معه فتاة تجلس بجواره..... وتكرر المشهد السابق وانضم متسابقون جدد.... أوقفت السيارة وأخذت أعدو صوب الشبح وعندما اقتربت ورأيت الرجل والفتاة قفزت إلى رأسي ذكريات بعيدة....... أيمكن أن يكون هذا الرجل هو برهام المكوجي وهذه الفتاة هي ابنته بيسة واللذان كانا يستأجران المحل الصغير في بيت جدي القديم... هو هو برهام الذي يعلم كل أهل الحي الشعبي الحادثة الشهيرة عندما كوى مؤخره ابنته بيسة بالمكواة الحديدية بعد أن ضبطها راقدة تحت سمارة العجلاتي في ظلمة مدخل بيت جدي.. انتابتني موجة من الضحك وأنا أعدو مع الجموع المحتشدة وطاحت سمعتي أرضا لتختلط بالأدوات الأخرى... أخذت أجري وأضحك عندما أيقنت حقيقة أنه لا سبيل إلى التأكد من هوية الرجل وكونه فعلا برهام المكوجي إلا بعد إجراء الكشف عن مؤخرة الفتاة......... وسقط كتابي أيضا في هذه الأثناء وسط أكوام المكانس والفئوس وصناديق مسح الأحذية وعكازي شحاذ.
واقرأ أيضا :
وباء النسيان / الغريق / زوار العنكبوت / نافذة ذات زجاج ازرق