كان قدره أن يغرق حتى الموت للمرة الثالثة بعد واحد وستين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام تحديدا. ذلك سيكون يوم أن يرى كوكب دري له ذيل ينحدر من السماء... لن يراه أحد غيره.. غرق للمرة الأولى عندما كان صبيا في التاسعة من عمره يوم اصطحب رفاقه للسباحة في النهر... يومها ابتعد عن الشاطئ حتى سقط في هوة ليجد الماء يغمره حتى أعلى رأسه.
نظر إلى أعلى فوجد النهر مقلوبا فوق رأسه وأطبق صمت لم يعد يسمع أصداء صياح أصدقائه اللاهيين أدرك أن للنهر صوتا آخر وإن كان صوته يتأتى من الصمت، سمع ضحكات السمكات الشامتة ورآها تهزأ به وتضربه بأذيالها في نزق، رأى غرقى آخرين معلقين بين قاع النهر وسطحه فاتحين أعينهم ينظرون إليه وكأنهم في حلم منهم أطفال مثله تبدو من العالم الآخر يتراشقون بفراشات مصنوعة من الورق تتحول إلى طيور مائية وتنطلق هائمة في فضاء مائي، رأى آباء يحملون قصبات وسنانير لصيد السمك وأمهات بعيون عطوفة يطفن بعرض الماء ينظرن إليه بعيون لا ترمش ويبتهلن.
عندما غرق للمرة الأولى وكما في المرة الثانية لم يكن مستعدا للموت بعد ولم يكن للموت أن ينال منه وهو ليس براغب فيه . لذلك كان قراره في المرة الأولى كما في الثانية أن يدفع بأرجله ويرفرف بأجنحته وينطلق إلى سطح الماء القريب وتشق رأسه سطح الماء فيلده النهر ليتنفس شهيقا واحدا ويعود إلى القاع من جديد متأهبا لجولة أخرى من النضال ومساعدا النهر ليلده من جديد ويلفظه إلى الشاطئ الطيني مختلطا بالأعشاب الخضراء والضفادع.
في المرة الثانية كان شابا في العشرين من عمره.. يومها قرر أن يسير على سطح البحر كالصديقين، شيئا داخله أكد له أن بإمكانه السير على الماء، ولم لا ألم يحلق في الفضاء ويرتفع عن الأرض قدمين أمام أصدقائه المشدوهين بحالة التجلي اللامعقول.
عندما حاول السير على سطح البحر حدث ما لم يكن ينتظره فقد بدأ يسير على قاع البحر ويتوغل إلى أعماقه مترجلا، أوغل في التقدم وهو ينظر إلى البحر المقلوب فوقه إلى الأعلى وبدأ الضوء يختلف، والصمت أعلى من الضجيج.. ضجيج قلب البحر وتضوعت رائحة انبعثت من أصابع أقدام البحر.. تغير الضوء إلى ظلام والظلال إلى نور أخضر منبعث من كائنات بحرية مضيئة وشعاع أحمر يتأتى من عين عروس بحر يرصد شبابا وفتيات عراة في حالة غرام وعناق وتنهدات كأنهم في حفل ماجن يتماحكون ويتضاحكون في فجور وتنفجر من أجسادهم نطف من مني وبويضات شرهة تتقافز في محيط مائي مضاء بألوان الزهور. عندها وجد سلحفاة ضخمة تسبح إلى الأعلى امتطى صهوتها لتصعد به إلى السطح لينجو من جديد.
شهاب مارق..... هذا هو ما رآه عندما كان في السبعين من عمره كان ذلك على الشاطئ عندما قرر أن يسبح قليلا ليبرد جسده من قيظ فترة الظهيرة في شهر يونيو، سبح في سلام ناظرا إلى القاع ليجد الغواصين بملابسهم السوداء وفقاقيع الهواء تتعالى فوق رؤوسهم في طريقها الحثيث إلى سطح الماء، انشغل بمراقبتهم وأخذ يغطس محاولا اللحاق بهم ومتابعة ما يفعلون غاص في الأعماق مثلما إخطبوط بضربات وئيدة منسلة من ذراعيه.. كان يحاول إبقاء الغواصين في مجال رؤيته شيئا فشيئا غادر البحر والنور المألوف وولج بحر الموتى.... يطوفون بلا حراك وجوههم إلى الأعلى... رأى زوجته وقد صارت روحا منسية وعادت شابة أصغر خمسين عاما ولكنها هي وكأجمل ما تكون...... قرر أن لا يقول لأحد شيئا عما رأى.... لا ينبغي للناس أن يطلعوا على هذه الأمور ستختل الموازين إذا عرف أحد أن هناك قرى وبيوت بيضاء وملايين الأزهار في قاع المحيط.
قرر أن يعود ويكتفي بما رأى ولكنه تبين ما يحدث إذ أن رجالا زناة ونساء كاذبات يجرجرون رجلا أحمق ويصفعونه على قفاه ويدفعون به إلى مقصلة إعدام وهم يسبونه ويكيلون له الضربات الموجعة كأنه هو وحده المذنب وهم بلا خطيئة..... كل ذلك وسط عاصفة من الضحك والشماتة أحدثتها ملايين الأسماك التي جاءت لتنتقم من بني الإنسان بعد أن تقادم عليهم الذل والهوان.
عند ذلك لم يجد في نفسه رغبة في الحياة واستسلم لتغير اتجاه تيار الماء وانضم إلى قافلة الموتى الجدد إلى حياة أفضل... أوسع نطاقا, ليست مليئة بالظواهر البلهاء كالحب والهضم والانتقام غادر عالم الحياة العاقلة الخاطئ والعبثي... انتفت الحاجة إلى حضوره العضوي وراقب نفسه في مرايا العالم الآخر كتجربة فجائية لرجل آخر يمثل جثة هامدة وغاص في سيوله ليل رحم أم....... رحم أمه الأخيرة. وفي ركن المحيط بدت سفينة نوح... محطمة مائلة على جانبها تنتظر أن يؤذن لها بالنشور لتعود وتشق عباب البحر لتنقذ من كل زوجين اثنين.
واقرأ أيضا :
وباء النسيان / الشبح / زوار العنكبوت / نافذة ذات زجاج ازرق