الساعة الآن العاشرة ليلا.. أحسست بارتخاء في أعضائي، مددت يدي فأطفأت نور الغاز –قارورة الغاز– ثم مددت رجلي تحت الفراش، شعرت برعشة في أوصالي لبرودة الجو. كان صوت أم كلثوم يخترق صمت الغرفة... الآلات ترن وتطن إنها سهرة ممتازة تعودْنا عليها في إذاعة طنجة الدولية، إذاعة الموسيقى العذبة. الله الله على الموسيقى!. على الأنغام العذبة وأغلقت عيني ببطء، تذكرت المدير حين قال لي اسمع يا ولدي، ستدرس في حجرة قديمة.. ريثما يبنون المدرسة قريبا.. وسيبنون حتى سكن المعلم.
مجرد وعود.. ووعودهم تطول.. وقد طالت ثماني سنوات. ثم انتابني ضحك خفيف وأنا مغمض العينين.. لقد تذكرت اليوم الأول.. حيث اصطف التلاميذ أمام القسم، أقصد المبنى القديم، ثم أمرتهم "دخْـلوا"، فتسمروا في مكانهم. أعدت الأمر وأنا أنظر إلى الذي في الأمام، فردّد عليهّم "دخْـلوا"!! ساعتها علمت أنهم لا يفهمون اللهجة الدارجة، فتحت عيني ببطء، كانت "فكّروني" تنسج خيوطا شفافة من اللحن الجميل، فجأة سمعت خشخشة... رفعت رأسي قليلا.. أصخْـت السمع.. خفضت صوت الجهاز أتأكد لكن لا شيء! عدت فوضعت رأسي وشرعت أحرك رأسي تجاوبا مع النغم.. هنا تحركت آنية، خشخشة أخرى؟؟؟
قمت بحذر، بانفعال، اتجهت نحو مصدر الخشخشة، المصباح اليدوي بيد وفردة حذاء بأخرى! تجمدت قرب المصدر، ارتفعت تصفيقات الجمهور! ضحكت، تساءلت على من يصفقون؟ عليّ أنا؟ أم على هذا الملعون الذي يبدو أنه شعر بحضوري فاخْـتفى؟! آه! لعله يكون تسلل من تحت الباب الخشبي! ربما هو الآن في فناء الدار وسط أعواد الحطب يضحك عليّ..! يحكي سخريته بي لحبيبته! صرخت، سترى يا كلب.. يا وغد!
عدت إلى السرير، تمددت من جديد في استرخاء مطلق.. أطلقت زفرة، تأففت.. تأملت الحظ الذي رماني كسهم إلى هذه الجبال.. الكلاب تنبح في الخارج، وأم كلثوم في سكون الليل تذكرني بذكرياتي، بأحلامي، ثم.. ارتفع صوت خشخشة ثاني! خشخشة أقوى من الأولى! همست في حنق... تالله لأجاهدنّ فيك الليلة، أتفسد علي متعتي!؟ أحلامي حتى أنت يا..
رميت الغطاء جانبا، تسللت ببطء على ركبتي.. ارتفع صوت الراحلة فجأة، دوى تصفيق الجمهور، انتبهت، عدت فاستقمت في حذر، ثم تقدمت في صمت وسمعت الخشخشة إنه هناك، في ذلك الوعاء الكارتوني..! تقدمت قليلا، أنرت مصباح اليد، فاجأته ينظر إلي برأسه الصغيرة الطويلة.. تلقفت الوعاء وأغلقته، ثم استدرت إلى الجهاز وصحت أسكتي يا أم كلثوم، وأنتم يا جماهير صفقوا! هذا العدو بين يديّ الآن! لقد أ لقيت عليه القبض!!! أضأت نور الغاز.. أخذت الوعاء ووضعته على الطاولة. دوى التصفيق بحرارة.. العدو يخرْمش في جدران الوعاء! مددت يدي من فتحة.. بحثت عن جسده النحيل.
أمسكت ذنبه، بطنه، أحسست بوخزة مخالبه الحادة، بسرعة، أخذت أضغط بشدة.. أعصر بقوة. تعالى التصفيق مرة أخرى، التفتّ إلى الوعاء باهتمام، فتحته، أخرجت الجثة الهامدة، طويتها في خرقة، ثم قمت وألقيت بها وسط الأعواد مخاطبا إياه إحكي الآن لحبيبتك! قل لها من الذي ضحك على الآخر! إحكي. إحكي... تفو... خزيت!.
دخلت الغرفة وأطفأت النور، فوق السرير تذكرت الدم، قمت أتلمّس الأشياء حتى عثرت على إناء الماء، فغسلت يدي في الظلام، ثم سرْتُ الهُـَوْينى وسط تصفيقات الجماهير إلى الفراش، أغمضت عينيّ على نباح بعض الكلاب البعيدة.. أطلقت آهة طويلة.. ثم.. ثم أخذت أذوب في الموسيقى;.. مع الصوت العذب واللحن الجميل....
واقرأ أيضا:
خـرج ولـــم يـــعــد / تجربة / قنبلة موقوتة / أيام سوداء / ركلة العمر / بـيـن نـاريـن