القمر يستفزني... فلا أجد سوى ورق من حزن وحبرا من ذاكرة.... وأنا لا أعرف لك عنوانا... فما حيلة المشتاق... سوى البوح ولو للريح..!
تتحرش بي ذاكرتي... ياللذاكرة ما أثقلها... تحمل كل التفاصيل ولا يسقط منها شيء للنسيان يقتات عليه... حتى الأشياء التي نخال أننا نسيناها، تباغتنا بها الذاكرة.. كعصفور مختبئ بين الأغصان.. فإذا ألقي حجر فتح جناحيه.. ليقول لنا لم أبرح غصني.. كنت انتظر حجرا يستفزني... يموت النسيان من الجوع، والذاكرة موبوءة بالتخمة الموجعة.
يشتهيني الحزن هذه الليلة... وما أضعفنا أمام سطوة الحزن وشبقه ورغباته.. فالحزن دوما كان له معنا موعد... لم نجتمع يوما إلا وكان الحزن ثالثنا..
لم نقرأ قصيدة إلا وجلس ينتظرنا على سفح القافية... لم نستمع لأغنية إلا وتسرب كوتر خفي شارد من الألحان إلى أعماق روحينا.. رباه..... من أين يأتي الحزن..؟؟
هذا الضوء الخفي...هذه الذرات... هذه الذبذبات التي تتغلغل في مفاصل الروح..
تتلبسنا... فيعترينا الوجوم وتصبح أرواحنا كالمنازل المهجورة...التي تطوف بها الريح..فتصطك أبوابها والشبابيك... أو كالأشجار حين يلقي عليها الليل سدله...
يا الله.... ما أحزن الأشجار عند المساء.... هل يأتي عبر الأثير من الأماكن القصية وغياهب العتمة... أم يأتي من خلف التلال يتسلل عبر السكون... فيباغت كل حصوننا... قلاعنا... وخنادقنا... التي ننفق العمر نعدها كي تحمينا من هذا المقاتل الذي لا يموت... ما أسذجنا.. نعتقد أننا إذا تركنا الحـزن.. سوف يتركنا..!
هل الحزن ورث آباءنا الأولين وتركتهم لنا.. زرعوه كي نأكله..كما زرعه آباءهم فأكلوه... هل الحزن تركة البشرية التي لا تنقضي..؟
أم تراه... فينا منذ الزمن الأول عبر الأزل... يسكن النفس ويفترش القلب... وفي الليالي المقمرة يتفجر... يستحيل ذئبا... كما في الأسطورة... هل القمر كبر متواطئا مع الحزن عبر المدى..؟
لا أعرف يا سيدتي... لكنني مازلت كما أنا... أبحث عن السلوى في الروايات والأشعار... ومن تضيق به الدروب يجد في الكلمات شرفة ونسمات... حتى تباغته رياح الحزن ذات قمراء.
مازلت كما أنا... ناحلاً كأقلام الرصاص... شاحباً كرسالة عاشق قديمة تكالبت عليها السنون.. ومازلت عصياً على الشكوى... ولو تعلمين كم أحلم بليلة شكوى ويحلم العشاق بالشموع والورود.. بالهدايا وبطاقات المعايدة... وأحلم بليلة شكوى... أرأيت مازال الحزن ثالثنا...
يا امرأة يأبى النسيان أن يطوقها... وتولد من رحم الغياب فتية جامحة كفرس برية تقفز سياج الذاكرة كلما تشاء وحين تشاء..... عندما يتوحد الحزن بي في الليالي المقمرة... تمطر في عيني الأسئلة... لعلي صرت منسيا لديك.... كغيمة في الريح... نازلة إلى المغرب لو تعلمين... كيف يجلدني الندم... وأتجرع الحسرة غصة إثر غصة، على كل الأشياء التي لم أقلها... وما أغباني من عاشق... يندم العشاق على ما يقولون وأندم على الكلمات الصغيرة التي حبستها في صدري، وكأنني أحتفظ بها للحزن... ثالثنا..
اعذريني... فلم أقل لك كم أنت جميلة... أجمل من كل الكلمات والأشعار التي أحفظ... ما أسعد الشعراء... وكم أحسدهم حين أراك...!
اعذريني... فلم أبح لك... على أطراف أناملك تتوالد الآمال والأحلام.. ومن رعشتهما تثبت الأشياء على رفوف روحي...
اعذريني... لم أقسم لك... كم أتمنى في عينيك رحلات ورحلات... وأنني في حضرتهما كرحالة يبحث عن الذهب في نهر عسلي.
اعذريني... لم أتوسل لك يوما... أحبيني... أحبيني... كأنني أرحل غدا... لأنني أحبك...أحبك كأن لم يخلق سواك...
تذبل الكلمات إن نحن لم نزرعها في أرض من بذرت له... وأكثر الحقائق ألما ووجعا هي التي نتعلمها بعد فوات الأوان... لا جدوى الآن صارت الكلمات كالتماثيل والتحف الجميلة التي تعتلي رفا من العتمة... في شقة الفرح المهجورة... نقضي العمر... نبحث عن من نحب... وحين نلقاه.. لا نحبه كما يستحق، وعند الغياب... نستكثر الحزن... يالفرط أنانيتنا...
اعذريني... لم تكوني تستحقين رحيلا كهذا... ولا وداعا كهذا... ولا أستحق أنا إلا حزنا باهظ الوجع كهذا... يليق بك.
ملحوظة: بعض القلوب إذا أصابها العشق عجزت إلا عنه... وما عادت تصلح إلا للحبيب الذي أعطبها..!
ومن هذه القلوب قلب من نور..!
واقرأ أيضاً:
مخاوف كانت صغيرة / عن الحزن..: / طفلة البحر / بين عقلي وبين جنوني شعرة / تذكرني! / اتركني!