تمدد على عرشه بغرور وكبرياء تاركًا لجسده فرصة الحلول والذوبان على متنه، فتلاشت أعضاء جسده تنشد راحة واطمئنانا.
تنهد بعمق قائلا: آه يا عرشي الحبيب ياسندي ومكمن راحتي وسر شموخي ورهبتي
يا أنا يا أنت كلانا واحد لا ثالث لنا..
صمت برهة وأعرب عن نظرة حزينة ثم أردف قائلا: أيعقل أن يأتي زمن ترضى فيه بغيري جالسًا عليك وحاكمًا من فوقك وآمرًا لأنه محتمي بك،أترضى بغيري متمددًا على ضلوعك كما أتمدد أنا الآن ودائمًا..
لا لا أنا لا اشك في وفائك.. ولا في حبك.. إنها مجرد أوهام يا صديقي وأضغاث أحلام مؤكد أنني متعب.. وغفا على عرشه في زهو وتدلل.
ما هي دقائق تمر على نومه حتى داهمته كوابيس مزعجة مقنعة في ثوب أحلام، رأى فيما يرى الرائي أن جمعًا من الناس يطاردونه، كان يحمل عرشه على كتفه ويجري به محاولا التملص والنجاة لكن هيهات، فالجمع قد حاصره من كل جانب، وقف وسطهم وهو يحاول استرجاع أنفاسه الهاربة صرخ فيها وهو يلهث ويضم عرشه الذي طالما ضم جسده قائلا: من أنتم وماذا تريدون مني؟ ألا تعرفون من أكون؟مؤكد أنكم لا تعرفون..
تقدم الجمع شيخ كبير السن قائلا: ومن لا يعرفك يا هذا؟ لكن معرفتك ماعادت تهمنا سلمنا هذا العرش الذي احتكرته طوال هذه السنين ولك الأمان..
فقاطعه صاحب العرش يصيح كالمجنون: الأمان أي أمان ؟؟ وأنا أسلمكم عرشي، عرش أبي عن جدي، عرش جدي عن أبيه لا دخل لكم به أنا أحق به حتى أنني لم أتزوج ولم أخلف الولد إلا حبًا في هذا العرش وحبًا في امتلاكه، لن أسلمه حتى لولدي إن كان لي ولد فكيف أسلمه لكم، نجوم السماء أقرب لكم منه.
الشيخ: افطن لحالك يا هذا، لا أمان للرجال بالعرش، العرش صديق خائن، العرش صديق مؤقت وذئب ماكر..
هو مقاطعًا: توقف أيها الشيخ اللعين، أي ترهات ينطق بها لسانك الخبيث أتشك بوفاء عرشي لي، يا حراس أمسكوا بهذا الوغد وضعوه في غياهب السجون تأكل منه ما تبقى من جسده المتهرئ.
ضحك الشيخ بصوت مرتفع وقهقه من حوله:
أي حراس تنادي وتأمر، لقد خلا قصرك، وفنا مالك، وباعك عرشك، وانصرف عنك من هم حولك لا سلطة لك على أحد يا صاحب العرش، لقد انتهيت انكسرت وخارت قواك وذاب تمثالك الشمعي.
تمسك هو بعرشه، صارخًا مهددًا متوعدًا ووصل صراخه مسامع أهل القصر فالتموا حوله يوقضونه يحاولون تهدئته.
استيقظ وهو مصفر الوجه، مبعثر الملامح، محملقا في وجوههم كأنه جثة هاربة من قبرها.
تفقد عرشه من حوله وراح يصرخ من جديد عرشي.. عرشي..
تقرب منه خادمه الخاص يربت على كتفيه "لا أحد يجرؤ على لمس عرشك ولا لمس شعرة منك يا صاحب العرش".
أمسكه هو من عنقه يهدده قائلا: "أتسخر مني يا وضيع.. كلكم كلاب ماكرة ناكرة للجميل "وراح يطلقه ثم واصل كلامه:"لكن صبرًا، صبرًا جميلا لن تنعموا بعرشي ولو على جثتي".
صمت برهة ثم نادى خادمه من جديد قائلا: "أريدك أن تجمع كل حاجياتي الخاصة وتوقد نارًا وقودها أشيائي وعرشي العزيز هذا، أريدها نارًا كبيرة بساحة القصر واجمع كل الحشود الطامعة"
في هذه اللحظة تأكد الخادم من أن سيده قد جن لدرجة أنه لم يسمعه وهو يناديه: ّاذهب نفذ ما أمرتك به.
تفطن الخادم: سمعًا وطاعة يا مولاي وخرج لساحة القصر وأمر بدوره بتنفيذ أمر سيده.
وقف صاحب العرش يحمله بين يديه وهو يكلمه قائلا: "أنا لا أرضى لك بالعبودية ولا لنفسي، لذلك اخترت لنا مصيرًا مشتركًا حتى وإن كان منذري مجرد كابوس إلا أنني أراه رؤيا صادقة لعل الرب ينذرني من خلاله ويحذرني من هؤلاء الخونة، لن أقبل بقدوم زمن أذل فيه ويسلب مني عرشي وأعزل كأي إنسان عادي في حين يتمتع غيري بالجلوس عليك".
ورمى بعرشه للنيران ثم لحق به بعد أن توعد كل حاشيته وأهله بعدم منعه لأنه قراره.
وراحت النيران تتلذذ بالتهام وجبة سلطويه يدخل في تركيبها عرش وصاحبه وأنهت بذلك عهدته حرقًا.. وما هي إلا لحظات حتى ولد للعرش عروش لكن صاحب العرش لم يعثر له عن وريث شرعي.
واقرأ أيضاً:
أنا تشهد موتها / مأساة / المجنون / رجل بلا ظل / همـس قلبين