دق جرس الهاتف بمنزلنا.
تسابقت الأيدي لالتقاط السماعة -كنت الفائز- صوت رقيق اخترق مسامعي، تساءلت:
- من أنت؟
نظرت للجالسين، تلوت عليها اسمي، انخراط متبادل في الصمت، خذلتني موسيقى انقطاع الخط -أكيد لست أنا المقصود- جادت علي نفسي بالكلمات تصبها داخلي، التفتْ أصابعي بسماعة الهاتف، احتضنتها احتضان طفل صغير، مارت الأسئلة بوجداني:
- من تكون؟
- ماذا تريد؟
كثرت إفرازات الأحرف، العلامات، دارت الرحى برأسي، ألقى عليّ الجالسون نفس السؤال، كانت منّي اللاإجابة بالصمت الطويل، لم يعبئوا بالأمر، عادوا إلى نقر الكلمات بعيدًا عن الحدث، عقلي رفض أن يكون بعيدًا، الرحى طحنت عظام الرأس بالفعل.
- من تكون؟
- ماذا تريد؟
توقفتْ الرحى لتأخذ قسطًا من الملل، هبط عقلي للجالسين، شاركهم نقر الكلمات، ازداد الاحتدام، اندمجت الأصوات، اخترق الجرس النبرات، هذه المرة جرس باب منزلنا الصغير، انتهى وقت الملل، عادت تدور، توحشت في الدوران، بدأت تهشم نتوءات الجمجمة، تسابقت الأيدي لفتح الباب، فاز أخي الصغير بالجولة، الكل يترقب.. إلا; اثنين من الجالسين اندمجا سويّا في نقر الكلمات، ألقيت بناظري على أعتاب الباب، أسمع صوت تهشم العظام برأسي:
- من يكون؟
- آه قد أخطأت السؤال أقصد:
- من تكون؟
- من تريد؟
نواظري ما زالت عند الأعتاب تنتظر الإجابة، انفتح الباب، هه، إنه بائع جوّال، لم أهتم بما يبيع قدر اهتمامي بالشعور الذي غرسته أمي داخلي تجاههم وأنا صغير، حتى هذا الشعور، مر عبر جسدي سريعًا، شكرته قبل الانصراف، ذكّرني بأمي -سامحه الله-. أعلمني انغلاق الباب ما قاله أخي للبائع، عاد ليأخذ حظه من نقر الكلمات، تعودت على صوت التروس الدائرة داخلي ونفس السؤال: من تكون؟ من تريد؟
خفتت الأصوات مع الأضواء، انزلاق بسيط نحو السكون، لحظات، بدأ يوم جديد غيّر مسار الانزلاق، كان أخي أول من قصّ شريط نقر الكلمات، تهافت الأشخاص. انتظرت الأماكن أصحابها على مأدبة الطعام، حان اللقاء، اختلطت الكلمات بصوت طحن الأسنان، رنين الأطباق يتطاير هنا، هناك، حتى ارتطم بجرس الهاتف، لم تتسابق الأيدي، الكل انشغل بالطعام، ففزتُ بالسّماعة بالتزكية، أمسكتها بيدي، أسندتها على راحة يدي الأخرى، صمتت قليلا، رفعتها نحو أذني، هتفت بعبارة استهلال المكالمات، إذ بصوتها قد عاد من جديد، لم تسألني من أنا بل رددت اسمي ملتهجة بالسؤال، أجبت وقد تعطبت الرحى، لم أعد أسمع صوت التروس للحظات، لكنها لم تعد لتأخذ قسطًا جديدًا من الملل.
- نعم أنا.
ضحكة خفيفة أطلقتها، أعقبت بالسؤال عن أحوالي، أخباري، فأسددت الأسئلة، هاجمتها بالسؤال: من أنت؟ ضحكتها الخفيفة أطلقتها ثانية، لم يصلني منها سوى ترجرج الأنفاس، ثم موسيقى التتر التليفونية تُنهي الاتصال. عاد السؤال: من تكون؟
التففت ناظرًا مأدبة الطعام، لم يعد أحد من الجالسين، الكل لم يعبأ بالأمر، غادروا كي يلحقوا بأماكنهم مجددًا في منظومة الطوابير، لكن السؤال جال وعادت التروس للدوران.
- من تكون؟
هي تعرف من أكون، فقد سألتني عن أحوالي كأنها تعرفني عن قرب، تساءلتْ باسمي كأنها اعتادت على النطق به، الأفكار صارعت الأفكار، وقضت الأفكار على غيرها من الأفكار، ودق الجرس، ليس جرس انتهاء جولة المصارعة كما تظنون، إنه جرس منبه أخي الكبير يداعبه قبل موعد الاستيقاظ، لم أره منذ أمس، سمعت باب غرفته يزاحم الهواء، أدلف إلى الصالة متلفعًا بمنشفته قابضًا بيده مبعثرًا بها ما تبقى من الكرى عن جفونه، بدأ هو بنقر الكلمات بعد أن انكشف الستار سألني باندهاش عن بقائي، تخلفي عن ركب منظومة الطوابير، نظرت; للهاتف، أسقطت الكلمات باللا كلمات، بعد انتظار سألني:
- هل سأل أحد عني أمس؟
- قلت: لا
- ولا اليوم؟
- قلت: لا
رفع كتفيه، أنزلهما، اتجه للداخل صوب دورة المياه، يجر خلفه صوت ارتطام نعله العتيق بأرض المنزل الخشبية، عاد السؤال:
- من تكون؟
تنهدت، ملأت رئتي بالهواء، اتجهت لغرفتي لالتقاط حقيبتي المملوءة بهموم الناس، أسرعت كي لا أتخلف عن الركب المنشود، عاد طابور الأجراس يشق جدران غرفتنا المستطيلة، اتجهت حيث تقبع الأصوات تحت الوسادة، هاتف أخي الخلوي كاد أن يمزقها بنغماته، لم أهتم بالأرقام الظاهرة، أنا ممن يكرهون لغة الأرقام، حملت الهاتف إليه، انتفض في يدي كالطير الذبيح، صوت زخات المياه تتقابل معي، اندمجت الأصوات مع صوت أخي المبلل بالمياه:
- رد على التليفون.
بحثت عن زر الاستقبال، رفعت الهاتف نحو أذني، قبل التساؤل صدمني الصوت، صوتها، نفس النبرات، نفس اللهجة، دارت الحرب داخلي بين الشك واليقين، ارتمت في الحديث ظنّا منها أنني صاحب الهاتف، لم أسمع ما تقول، طغى صوت المعركة على الكلام، أخبرتها بأنني لست المقصود كما تظن، فكانت نفس الضحكة، سمعت صوت تحطم الآلات في عقلي، تحرك لساني بالسؤال:
- أنت؟!
أجابت بضحكتها التي ملأت أجواء الحديث:
- نعم أنا، ألا تعرفني؟
حركت رأسي المثقلة بصمت النفي، فألقت بالإجابة كي تغلق الآلات من زر التشغيل، كأنها رأت تحرك رأسي المنهك.
- أناااا
تفتحت جميع المسام، اتسعت الحدقات، سمعت ضحكات أعضاء جسدي، وقد سخرت من العقل المتخم بالأجراس، الأصوات، هموم الناس، أطلق اللسان سهم التعجب:
- مَنْ؟ أختي كوثر؟!!!
- تهبط موسيقى التتر.
واقرأ أيضا:
قل:..كما..،،/ نظام جديد للكبح! / أدبٌ لم يكنْ لهُ...؟ / مشروع قتل!/ الآخِرْ / ثَمَـنٌ!! / مرافعةٌ أولى: / يا التي منك... / أي ماءٍ؟؟؟/ حاؤه ..وباؤهُ .... / وَهَنيئًـا ! وَمَـريئــًا...