يتقافز الصغار.. يصرخون.. بينما ينهمك في إناخة الجمال رجال سُمر من غير هذه الأنحاء، ذوو أيادٍ نحيلة، ووجوه محترقة، تزيدها حبات العرق المالحة اشتعالاً، أبدًا لا يتكلمون.. ولا يلتفتون إلى ما يدور من حولهم، يضربون الجمال على أرجلها بخيزرانات صفراء طويلة في أيديهم، تتمايل الجمال في بطء ناحية الأرض.. ينزِلون أحمال الأرز المضموم من فوق ظهورها..
ما إن ينتهي الرجال من إنزال الأرز حتى يستصرخوا جمالهم بأصوات مبهمة، فتهب واقفة بطريقتها الدرامية التي تشعل الحماس في الأطفال، فيشيعونها صارخين كأن بينهم وبينها ثأر قديم: جمل أبو عِزة.. «كلت» ولا لسه؟! تتلفت الجمال ناحيتهم بمآقٍ جاحظة ذات نظرة باردة تسري لها قشعريرة في أجسادهم الهزيلة؛ يسمعون من بعضهم ومن الكبار أنها لا تنسى الإيذاء وأنها يومًا ما لابد أن تنتقم!
يتناسون الجمال حين تروح، ويعودون سراعًا ناحية قش الأرز الذي بسطته النساء وفرقته هنا وهناك حتى يجف، يتقافزون فوقه، كأنما امتداده البسيط ملك الدنيا وسعتها، يقفزون على رؤوسهم بحماس جيئة وذهوبًا، بينما تتعبق أنوفهم برائحته الحميمة المختلطة برطوبة.
حين تنفصم تلك الرحم التي بين القش وحبات الأرز، وتنفصل عنه تلك الحبات الذهبية، تنقله النساء وقد غاصت فيه رؤوسهن في قطار متتابع فوق أسطح الدور، مكوَّمًا قد افتقد رونقه، كأن لم يكن قبل دقائق مرتعًا وملاذًا!
في «شونة» الأرز يتحول دور الصغار إلى المشاهدة، يتحلقون وهم يتهامسون في شبه صمت، مشدوهين يشيرون إلى حركات الرجال والنساء بأيديهم وهم يغربلون الأرز وينقونه من الشوائب.. العرب! هكذا كنَّا نسمي هؤلاء البدو الذين كانوا ينزلون إلى بلادنا في موسم الأرز، لكنهم منذ زمان لا يأتون!
حين ينتهي موسم الأرز وينفض المولد؛ تحيط الكآبة جموع الصغار ويعلو وجوههم سأم، ينظرون إلى بعضهم في صمت حين يتقابلون، لكنهم لا يعدمون حيلة؛ يعودون إلى ألعاب أخرى كانوا قد تناسوها لفترة؛ يخرج «البلي» الزجاجي الملوَّن المعبأ في فردة جورب بالية، أو غطاءات البيبسي المخزنة في صفائح العسل الأسود الصدئة البالية!
هكذا كنَّا صغارًا.. نتجاوز المواسم ونتغلب على الأيام!
واقرأ أيضًا :
احتياجات خاصة / طفولة مذعورة / قطار آخر الليل / و. م. و. ز / الضيف / شخير في غرفة مجاورة / نُخْبة!