كعادته يجلس على كرسيه في وجوم وتفكير؛ ينظر في وجوه هؤلاء الأصحاب الذي هو منهم وإليهم؛ كأنما ناداهم القدر من عليائه بصوته المدوي الرهيب: اهبطوا فيها ملعونين؛ حيث حللتم تتبعكم اللعنة، تشقون فيها أنتم إلى الأبد!
ثم ختم القدر على تلك اللعنة فلا أمل في رفعها أبدًا!
وكيف لا يشقون إلى الأبد وهم قد صارت أرواحهم مسوخًا؟! تتردد في الريب والعذاب! لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!
إلى «هناك»: تهتف بهم العودة فيرعبهم غموض كالح وليل بهيم لا يدري المرء فيه مَن بجواره! ويستبد بهم الشوق فيكبتهم خوف من الفاقة والعوز في استقبالهم!
وحيث «هنا»: بيوت غير التي سكنوها وسكنتهم، بيوت لا يستطيعون أن يكونوا فيها أنفسهم، وهل يكون البيت بيتًا إلا إذا استطعت أن تكون فيه نفسك بعد طول تمثيل وافتعال؟! أن تكون فيه على حقيقتك لدقائق تفعل فيها ما تريد أنت لا ما يريده منك الناس؟! دقائق تعري فيها جسدك وروحك؟! أما تلك الحجرة الضيقة ذات العيون الست المتطلعة ومثلها من الآذان المرهفة.. فأنى لها أن تكون بيتًا وسكنًا؟!
أما الوجوه فهي باهتة ثقيلة لا أمل في أن يألفوها وإن عاشروها، الصاحب المواسي كالنبتة الندية في صحراء ملتهبة مغلولة اليد! نهارهم كدٌّ وشقاء وليلهم موت وفناء، غرباء الوجه واليد واللسان وليست حولهم من مغانِ!
لا.. ليست لعنة تلك التي أحلَّها عليهم القدر؛ بل هي لعنات!!
يُنظر إليهم «هنا» كأنهم من صفيح لا مشاعر به، ولو كانوا صفيحًا لكان خيرًا، ولكنهم ليسوا بصفيح ولا منه قُدُّوا، إنهم أسوأ من الصفيح؛ هم مسوخ قد تبخرت لديهم مشاعر الفرح والألفة والصفاء، بينما بقيت لهم مشاعر العوز الدائم والقلق والتمني الذي لا ينقطع! فأي تشوُّه أسوأ وأشد قساوة؟!
وينظر إليهم «هناك» على أنهم ما عادوا كما كانوا وأنهم قد استغنوا، وصدق هؤلاء وكذبوا! فما عادوا كما كانوا، وما بهم من غنىً، والحال أنهم كثور غُمَّ إلى ساقية، يدور ما شاء له صاحبه أن يدور، ثم هو أعجم يعيه الدوار وليس يستطيع أن يسأله الراحة، ليعود آخر الليل يبحث عن سريره بيديه!
يتذكر حين ركب كلُّ واحد منهم ذلك الطائر الضخم في شعور بين الفرح والقلق، وخلَّفوا وراءهم دورًا بها أعين تدمع وقلوب ترجف وألسنة لا تملُّ الدعاء.. ظنُّوا أن القدر قد تبسَّم لهم بعد عبوس، وحين وطئت أحذيتهم أرض الوطن الجديد رأوا الجنان مفتحة لهم الأبواب! وما دروا أن قد سخر منهم القدر فاشتد عبوسه! ولم يكد يمسهم بنفحة الأمل البارد حتى لفحهم بحميم من جحيم الواقع!
ما منهم من أحد إلا وقد ظنَّ للحظة أنه قد ملك قدره ورسم دربه، يراه «هناك» ما بين سنة أو اثنتين أو ثلاث، ولكنه في كل عام يجدُّ له «هناك» في وطنه ما يشدُّ وثاقه أكثر إلى ساقيته.. لا يجعله يبارح الغربة «هنا»!!
حين قرَّر التوقُّف عن الوجوم والتفكير وأن يعود إلى «هناك» هتف به صاحبه وهو يحاوره في آخر لحظة: ألن ترجع عن قرارك؟ ما أظنك انتهيت مما يؤهلك بعد للعودة!
لم يرد عليه جوابًا، وربما لم يسمعه! تقدِّم فأنهى إجراءاته في شبه ذهول، وأشار إلى صاحبه يودِّعه ودمعة في عينيه يحاول أن يحبسها فتتأبى!
بعد أن أقلعت الطائرة بقليل شعر بخفة في نفسه غريبة، وإحساس لم يعتده، نظر مدقِّقًا حواليه فوجده قد تحوَّل إلى مجرد مشاهد بعد طول تمثيل على خشبة ذلك المسرح المتهالكة، وجد الصاحب بالجنب يمسك بيد ابن السبيل، تلك اليد التي كانت يده؛ يجسُّ نبضها، ثم وضع يده على صفحة العنق الذي كان عنقه، واقترب بوجهه من أنفه، ثم همهمات تسري في المقاعد المجاورة، ومصمصات شفاه، وبكاء، وقائد الطائرة يخطو مهرولاً تعلو ملامحه الدهشة، ثم غطاء يُسحب، ووجوم يعلو الوجوه، ولعنة سوداء قاتمة ترفرف في الأفق!
واقرأ أيضًا :
شخير في غرفة مجاورة / نُخْبة! / يد غليظة تطرق الأبواب بعنف / بدر / كان جدي.. وكان / القَدَرُ المسكوب / حالة فردية!