خيّم الحزن وتكبدت الألم وجلست ندى على سرير والدها الذي توفي منذ ثلاثة أيام، هو يمثل لها الأب والأم والصديق؛ معه لعبت، معه كبرت وتفتحت زهرتها على يداه، حيث توفيت أم ندى ولم تبلغ ندى الثالثة من عمرها بعد ولم يتزوج الأب وتفرّغ لرعاية ندى وأخويها، فكان لهم الأب والأم معاً حتى وصل الولدان إلى بر الأمان وتزوّج الأخ الأكبر -ويدعى (مجدي)- وأصبحت حياته المستقلة، وسافر (أيمن) -الأخ الثاني- إلى إحدى الدول العربية. واستمر الأب في رعاية ندى يمدها بالحب والدفئ ويلفها بالحنان والعطف ويحتويها، فكان يعلّمها مع كل مرحلة سنية للفتاة ما يجب أن تتعلمه حتى دقائق الأمور، حتى بلغت ندى كمثيلاتها في سن المراهقة، وحاول الأب تهيئة الجو لهذا السن فهو يعرف خطورة هذه المرحلة على فتاة فتقدت أمها، فكان دائماً يرشدها ويلفت نظرها ويعلّمها متطلبات هذه المرحلة والتغيّرات النفسية والجسدية والتقلبات المزاجية، وكيف أن الفتاة في مثل هذه المرحلة ترغب في لفت نظر الشباب كما ترغب في الحب تبحث عنه دون دراية بحقيقة الأمور ودون تعقّل. فلو تحركت مشاعر فتاة تجاه أي شاب لوقعت في حبه دون تعقّل لعواقب الأمر، فهذه من سمات مرحلة المراهقة. ولذا كانت ندى فتاة تعقل كلام ونصائح أبوها فكان دائماً يقول لها: "اوعي يا ندى تحبي لمجرد أن شاب قال لك كلمة غزل أو أشعرك بجمالك وأنوثتك".
وكانت ندى تتمتع بروح عالية ومرحة ووجه يملؤه البراءة وملامح تطغى عليها الصفاء. فما وجدت ندى في أي تجمع إلا لفتت أنظار الجميع ورغّب الكل في الحديث معها. تجذبهم على غير مقصد منها بابتسامتها الرقيقة وحديثها العذب وصوتها الخلاب وضحكتها الرنانة وعقلها الراجح.. هكذا كان يقول عنها الجميع. إنها شخصية ذات حضور أي إذا وجدت خطفت الأنظار وجذبت الأرواح وإذا غابت تظل روحها معلقة بالمكان الذي كانت فيه. كبرت ندى ولم تنتهي بعد من إتمام دراستها الجامعية وعلى فجأة وبدون أي مقدمات تفي الأب وراح الصديق وهكذا أصبحت ندى بدون صديق، بلا أب، بلا مرشد.
ما أصعب هذه الحياة التي تفقد فيها الصديق والمعلم والمرشد والحبيب، حياة عارية بلا احتواء.. وعاد أيمن من سفره وقرر أن يتزوج في نفس الشقة التي تسكن فيها ندى حيث لم يكن لديه استطاعة أن يستأجر شقة أخرى، وأصبحت ندى تمثل عبئا ثقيلاً على أخويها يرغبان التخلص منها هذا ما شعرت به ندى، فعلى الرّغم من تمتعها بخفة الظل إلا أنها كانت تشعر أنها ثقيلة على أخويها مما جعلها توافق على حسام الذي سبق وتقدم في حياة والدها ولم يرفض وتم تأجيل الموضوع لانتهاء ندى من دراستها، فلم يكن هناك حل أمامها للتخلص من وحدتها وإحساسها بأنها عبءٌ يرغب أخويها في التخلص منها سوى الزواج من حسام الذي تزوجته وانتقلت معه إلى إحدى محافظات الصعيد -المنيا-؛
وعاشت ندى مع حسام جسد بلا روح وأنجبت طارق، ففرحت به فرحاً شديداً حيث كان شغلها الشاغل كثيراً ما تلعب معه، تجالسه، تبني معه البيوت من المكعبات، وتعلّمه الرسم والتلوين، وكبر طارق وبلغ 4 سنوات والتحق بحضانة، ومنذ هذا الوقت أصبح لطارق فريق من الأصدقاء في نفس سنه فكان يفضل اللعب معهم عن اللعب مع أمه وكان ينزل للشارع يلعب مع الجيران، وكانت ندى تتابعه من الشباك خوفاً عليه حتى اعتاد طارق اللعب مع أقرانه وتعوّدت هي على بعده.
أما الزوج فكان منهمك في عمله صباحاً، مشغول في دراسته بعد الظهر، والمذاكرة ليلاً، فهو شاب طموح لم يكتفي بإتمام الدراسة الجامعية فقط بل أخذ يتدرج في سلم الدراسات العليا، دبلوما ثم ثلاث ماجستير وهو الآن مشغول في تحضير الدكتوراة.. وهكذا كتبت على ندى الوحدة، عاشتها مضطرة ولكنها كثيراً ما حاولت التخلص منها، كانت تتصل بأخويها وتزورهما رغبةً منها في أن تشعر أن لها أهل تسأل عنهم ويسألون عنها ولكن لم يكتمل إحساسها بذلك، فكانت هي التي تمد حبل الوصال تزورهم كثيراً ويزورونها قليلاً، تفرح بهما بعدما تفترق عنهم وتظل تعيش وهم الارتباط ولكنهم ينسونها بمجرد ما يرحلون عنها حتى أنها لم تجدهم في أصعب المواقف في حياتها، حينما ذهبت لتضع طفلها الأول لم يكن معها سوى زوجها وأبوه وجارتها التي قابلتها عند الدكتور بالصدفة؛
أمّا أقرب الناس إليها –أخواها- فلم تبلغهم على الرغم من أنّ لديهم علم بموعد ولادتها ولكنها لم تستدعهم، إنها تعلم أنها لو اتصلت بهم وأخبرتهم لما اهتموا فهذا أمر ليس ذا أهمية لديهم، ففضلت أن تشعر نفسها أن أخويها لم يكونا يعلمان بدلاً من أن تشعر أنهما علما ولم يحضرا لعدم الاهتمام بها وتأكد لديها شعورها حينما جاءوا يباركون لها بالمولود، كلٌّ مع زوجته ولم يكلّف أحدهم خاطره أن يترك زوجته تساعد ندى في أيامها الأولى بعد الولادة فهي شديدة الاحتياج لمن يقوم بمساعدتها، واعتذرت كلاهما بعدم استطاعتها المكث بجوار ندى بحجة لظروف الحياة..
عدّى الموقف كما عدّت مواقف كثيرة ولم تترك في نفس ندى سوى المزيد من الوحدة مما جعلها تلجأ إلى أحلام اليقظة وتهرب من الوحدة إلى عالم الخيال لعلّها تجد فيه الاحتواء والحب والحنان والدفئ الذي ترغب في أن تعيشه ولم تجده في عالمها، وتسلل الملل ذات يوم إلى ندى ووقفت في شباك حجرتها تارةً تنظر للمارة؛ هذا يرتدي "جلبان" وأخر "ترنج" وأخرى فستان.. وتارة أخرى ترفع رأسها إلى السماء تتأمل غيومها، ثم قررت الخروج واستعدت لزيارة إحدى صديقاتها بعدما رفعت سماعه الهاتف وتأكدت من وجودها بالمنزل ورحّبت الأخرى بزيارة ندى.
هناك على الأريكة تجاذبت ندى وصديقتها أطراف الحديث حول الحياة وما فيها من وقت فراغ، فما كان من الصديقة إلا ان نصحتها بالانترنت! نعم قنبلة هذا العصر الموقوتة، وبالفعل اشترت ندى حاسوباً وتعلّمت استخدام الانترنت وكوّنت لها أصدقاء على "الشات" تتحدث إليهم ويتحدثون إليها، على تلك الشاشة التي لا يتبادل فيها المتحدثون سوى كلمات وعبارات ترسل وجدت ندى خطاً جديداً يشعرها بالسعادة شيئاً ما.
كانت ترمي نفسها في عالم النت، تعرّفت على الكثير من الشباب والبنات ممن التقتهم روحياً، أحبتهم وأحبوها وكثيراً ما كانوا يرغبون في إلقاء مشاكلهم لديها حيث استطاعت بما لديها من خفة الظل وحلاوة الروح أن تكون صديقة لهم، كما تبادلت مع الكثير منهم أرقام "الموبايلات" حتى تكون بينهم رنّات! فرنّات الموبايل كانت علامة وجود هؤلاء الأصدقاء على النت أو بمعنى أخر إشارة استدعاء للتقابل على الانترنت، وأصبحت ندى لهؤلاء الأصدقاء كالوعاء يفرغون فيه شحنة غيظهم إذا ما كانت لديهم مشاكل ويرغبون في التنفس عنها، وغاصت ندى في هذا العالم بين المنتديات الفكرية والثقافية والشات، ولم يمثل النت في حياة ندى سوى وسيلة لقتل الوقت تعيش فيه ساعات تشعر فيها أنها ذات قيمة حيث أنها تقدم لمن تعرفهم من الشباب حل لمشاكلهم أو تشاركهم فرحهم وأحزانهم ومشاعرهم، وفي إحدى المرات التي كانت تجلس فيها على الانترنت استقبلت رسالة تعارف من شاب فلسطيني.
- ممكن نتعرّف.
- لا مانع لدي، من حضرتك؟.
- أنا عماد من فلسطين.
- وأنا ندى من مصر .
- ماذا تعملين؟.
- ربة بيت، وأنت؟.
- ضابط.
- ضابط! يا خبر وماذا تفعل على النت؟.
- عادي، أنا أحب التعرف على الناس، وجدت نفسي ضجراً فقلت أدخل لعلي أجد أحدهم أكلمه فوجدتك أنت.
- أهلاً بك.. ولم الضجر؟ ألست متزوجاً؟.
- لا.
- كم عمرك؟.
- 30، وأنت؟.
- 27 سنة، ومتزوجة وعندي ولد.
- ربنا يخليه.
- ربنا يرزقك ببنت الحلال التي تسعدك.
- ليس هناك من إشارة.
- ولم التشاؤم، أنت ضابط و30 سنة ويبدو أنك محترم، يا شيخ اضحك للدنيا تضحك لك!.
- ليس عندي من رغبة في الضحك، أنا ضجر ومختنق.
- طيّب، وأنا مستعدة لإخراجك من حالة الملل والاخنتاق هذه.
- كيف؟.
- كم تدفع؟ هههههههههه .
- بما تأمري.
- على العموم أنا مضطرة للذهاب الآن لأني سأحضر الغداء لزوجي وابني، وسأقابلك الليلة وسآخذك في نزهة ليست أي نزهة!.
- تأخذيني في نزهة؟! كيف؟ هل ستطلبين مجيئي لمصر عندكم؟.
- تأتي إلى مصر؟! لا، سأنزهك وأنت في مكانك، لكن الليلة.
- لم أفهم؟.
- حين نتقابل سأفهمك، الآن إلى اللقاء.
وأغلقت ندى الحاسوب وانهمكت في تحضير الغداء. حين حلّ الليل وحان موعد "النزهات" التي وعدت بها عماد بعثت له برنّة كما جاءتها منه رنّة ليتقابلا سوياً عبر شبكة الانترنت.
- مساء الخير.
- مساء الفلّ.
- جاهز يا حضرة الضابط للنزهة.
- ولو أني لا أفهم لكنّي جاهز!.
- إسمع يا سيدي، أنا سآخدك من يديك وأتمشّى معك في النت بين المنتديات، أم أنك تخجل أن يراك أحد بصبحة امرأة في شوارع النت؟.
- هههههههههه، دمّك كالعسل.
- هيا تفضّل، اركب السيارة يا حضرة الضابط؛ ولو أنها لا تليق بمقامك، أم تفضّل أن نجهّز لحضرتك البكس؟.
- هههههههههه، دمك خفيف، حسنٌ، لقد ركبت.
- قُد بنا أيها السائق إلى منتدى يلا يا شباب يلا فرفشة حارة، أسمعنا ضحكتك.
وأعطت ندى "اللينك" الخاص بالمنتدى لـ(عماد)، صديق جديد على النت استطاعت بروحها أن تجذبه إليها واحتوته بأفكارها وذكائها، فكلما تقابلا سوياً أخذته وذهبت به إلى بعض المواضيع والقصص ثم يعلّقان عليه، وهكذا كانت ندى تفتح لأصدقائها مجالاً للحديث تشعرهم فيه أنها تستحق الاحترام وأنها جديرة بأن تكون في قائمة "إميلاتهم"، وتوطدت العلاقة بينها وبينهم حتى أنهم عرضوا لها صورهم لتعرفهم عن قرب، وكانوا يلحّون عليها أن تعرض هي الأخرى صورتها فكانت تأبى ذلك ولا تهتم بهذا الأمر مقتنعةً أن العلاقة على النت علاقة أرواح تتقابل سوياً وليست علاقة أشخاص يتقابلون بالجسد. وذات ليلة وكما هو المعتاد الزوج منهمك في المذاكرة و(طارق) ابنها أمام التليفزيون يشاهد برامج الأطفال وهي أمام جهاز الكمبيوتر تنتظر أصدقاءها على الشات، انتظرت كثيراً ولم يدخل سوى محمد الذي دعاها أن تدخل إلى الشات العام في أحد المواقع واستجابت لدعوته ودخلت الشات العام وهناك تعرّفت إلى عمرو.
- ممكن أن نتعرف.
- لا مانع.
- ما اسمك؟.
– ندى، وأنت؟.
- عمرو.
وتعرّفت ندى على عمرو؛ مهندس عمره 30 عاماً، أعزب من محافظة الفيوم، وتبادلا "الموبيلات" و"الإميلات" الخاصة بلكل منهما وبدأت العلاقة بينهما مثل أي علاقة كونتها لم تقصد من ورائها سوى في الصداقة، كما لم يرغب عمرو في التعرّف على ندى سوى الحصول على المزيد من الأصدقاء. كانا يتقابلان كثيراً على النت وكالمعتاد وعن غير قصد منها جذبته بخفة الظلال وحلاوة الروح، كما انجذبت هي الأخرى إليه بشكل لم يختلف كثيراً عن باقي أصدقائها، ولكن اختلافاً فيما بعد حينما التقت روحاهما التقاء من نوع خاص.
بالرغم من بعد المسافات بينهما إلا أنهما كانا يشعران بقرب شديد بين الأرواح؛ فكانا يشتركان في صفات كثيرة جعلت ندى تحس بموجة عارمة من المشاعر تجاه عمرو، كما أحسها هو الآخر ولم يفصح كل منهما للآخر عن هذه المشاعر، فهو يعلم أنها متزوجة وأم لطفل كما كانت ندى تشجعه أن يبدأ في مشروع الزواج ولابد أن يبحث عن فتاة مناسبة، وفعلاً بدأ عمرو يبحث عن الفتاة ليرتبط بها كزوجة، وكانت ندى تتابع أخباره بشغف تماماً كما يقص عليها هو الآخر أخباره بالحمية ذاتها حتى أصبحا صديقين مرتبطين برباط أشعر ندى بما كانت تبحث عنه من مشاعر تملؤ عليها حياتها.. إنها مشاعر الاحتواء. ذات لقاء سأل عمرو ندى:
- ما عيوبك يا ندى؟.
- هههههههه، أتدري؟ لم يوجه لي أحد سؤالاً كهذا من قبل يا عمرو!.
- طيّب، مارأيك لو أن كلينا حاولنا التعرّف إلى عيوبنا ومميزاتنا وقلناها لبعضنا البعض.
واتفق الصديقان على هذا وراحا يبحثان في نفسيهما ليخبر الآخر، وسألت ندى زوجها:
- ما عيوبي يا حسام؟.
- عيوبك كثيرة يا حبيبتي.
- قلها لي ولن أغضب.
- أول العيوب أنّك حلوة، وثانيها أنّك رقيقة، وثالثها أن دمّك خفيف!.
- حسام، أنا جادّة فيما أقول.
- حبيبتي، أنا مشغول وعندي مذاكرة، ليس لدي الوقت لهذا.
لم تكن ندى محرومة من كلمات الحب والغرام التي يلقيها عليها زوجها بل كانت محرومة من مشاعر أخرى؛ مشاعر الاحتواء التي وجدتها عند عمرو. وتقابل الصديقان وأفرغ كل منهما نتيجة بحثه عن عيوبه ومميزاته، فقالت ندى لعمرو تمازحه ما قاله لها زوجها أنها حلوة ورقيقة ودمها خفيف، فما كان من عمرو إلا أن يطلب أن يرى صورتها، ولم يكن لديها صورة على الجهاز ولم يكن لديها اهتمام بوضع صورتها وعرضها على الآخرين، لكن الأمر تغيّر حينما طلب عمرو الصورة وظلّ يلحّ عليها في ذلك، مما جعلها تتحدث إلى زوجها حديثاً ماكراً تجس فيه نبض موافقته على وضع صورتها وعرضها للصديقات دون الأصدقاء لكنه رفض وأحست أنها لو فعلت ذلك لتسببت في مشكلة هي في غنىً عنها، لكن إلحاح عمرو ورغبته في ألا ترفض طلبه جعلها تعده أن تتصور وتعرض صورتها له، فطلبت من ابن أخيها أن يضع لها صورة على الجهاز لكنه اعتذر لعدم وجود صورتها لديه، وذات زيارة إلى أخيها بالقاهرة خرجت مع ابن أخيها ليحضرا زفاف ابنة خالتها، وفي طريق عودتهما وقفت أمام إحدى محلات التصوير وطلبت من ابن أخيها أن تتصور حتى يستطيع أن يضع صورتها على الجهاز، وملأتها الفرحة في أنها ستعرض صورتها لعمرو وألحت على ابن أخيها أن يسرع في هذا الأمر ووعدها أن يرسلها إليها على "الإميل" الخاص بها. في صباح اليوم التالي عادت ندى إلى المنيا تنتظر صورتها لترسلها إلى عمرو ومع إلحاحها الشديد اضطر ابن اخوها أن يرسل لها صورة مركبة عبر "الإميل"،
- ما رأيك يا عمتي في هذه الصورة؟.
- صورة من هذه يا فريد؟.
- صورتك يا عمتي.
- وهل أنا حلوة هكذا؟! .
- أنت أحلى طبعاً! .
- أين صورتي يا ولد؟.
- بصراحة ياعمتي، لم أعملها ولن أعملها.
- لم يا فريد؟!.
- لأن هذا الموضوع سيسبب لك مشاكل، ولو عرف زوجك لن يدعها تمرّ بسهولة، ولو وقعت في يد شاب سيء قد يسبب لك بها فضيحة.
- فضيحة!، يا ساتر يارب.
وظلّ فريد يقنعها أن وضع الصورة سيتسبب في خراب بيتها، وأمام إلحاحها حاول إقناعها بأن تعرض هذه الصورة المركبة فلن يختلف الأمر كثيراً، فهي صورة والسلام! واضطرت أن تقبل الصورة المركبة وتساءلت مع نفسها هل تعرض هذه الصورة المركبة لعمرو على أنها صورتها الحقيقية؟ فكانت الإجابة لا أفعل هذا، ولكن مع إلحاح عمرو...
- أين صورتك يا ندى؟ لقد قلت أنّك تصورتي وأنّ ابن أخاك سيعملها لك!.
- نعم والله، لكن...
- ما بك؟.
- لقد...
- أتسخرين مني؟ أنت لم تتصوري، تقولين أن لي معزّة خاصة، أين هي هذه المعزّة الخاصة؟.
- يعلم الله ياعمرو أنني فعلاً أعزّك، لكن أرجوك لأجل خاطري دعك من موضوع الصورة هذا.
- على راحتك، أنت حرّة... سلام .
- عمرو...أين أنت ذاهب؟.
- عمرو...عمرو...
وباتت ندى ليلتها في حيرة من أمرها، ماذا تفعل؟ إن وضعت صورتها الحقيقية تسببت في مشكلة بينها وبين زوجها قد ينتج عنها حرمانها من النت، وإن عرضت صورتها المركبة ستصبح غشّاشة، وظلّت تتجاذب الحديث بينها وبين نفسها.
نفسها: ماذا تريدين من عمرو؟ .
ندى: لا أعرف!.
نفسها: حاذري من أن تحبيه..
ندى: لا أدري، لكن لا أنكر أني أكون سعيدة جداً وأنا أكلمه وأنني لا أرغب في الخروج من النت.
- حسن، وما معنى هذا؟.
- أحس أنه أخ.. صديق.. أحس أنّه أقرب إنسان لي؛ يفهمني، يشعر بي، ورغم ضحكي وتهريجي معه لكنه الوحيد الذي أحس بي من الداخل، قال لي: لم أنت حزينة؟ أشعر مع كل من أعرفهم على النت بالفرح وهم كذلك أيضاً لأني أنسيهم همومهم وأشاركهم مشاعرهم، لكن أحد لم يشعر بي من الداخل غير عمرو.. وأنا معه أحس أني وجدت المشاعر التي أبحث عنها، مشاعر الاحتواء.
- طيّب، وهل يحبك هو؟.
- هو أيضاً يكون سعيداً يكون معي.
- هو أراك صورته.
- لا، فأنا لم أطلبها منه، لا يهمني شكله فالمهم عندي روحه، لكن هو يريد أن يرى صورتي وقد غضب مني ظنّاً منه أن لا أعير الأمر اهتماماً.
- إذن أره الصورة المركبة ولو كان يحب الروح منك فإن ذلك سيظهر وإن لم يكن فسيظهر ذلك أيضاً.
وفتحت ندى جهاز الكمبيوتر وظلّت تحملق في الصورة المركبة، كم كانت الصورة جميلة حاول فيها فريد طمس المعالم للصورة الحقيقية قدر المستطاع ولكن بطريقة أظهرت للصورة جمالاً فائقاً ولم تكن ندى قليلة الجمال بل تتمتع هي الأخرى بالجمال، صحيح ليس بنفس جمال الصورة المركبة ولكنها تعد من ضمن الجميلات التي تخطف ملامحها أنظار كل من يتعامل معها، لكن ظلّت ندى تحملق في الصورة وتحاول أن تصل إلى قرار نهائي هل تعرضها على أنها صورتها أم لا؟، ولم تصل إلى قرار بعد وظلّت هكذا حتى الصباح وفي المساء ذهبت تنتظر عمرو على النت حيث الموعد المعتاد للقاء ولكنه لم يدخل فكانت تتحدث مع باقي الأصدقاء على الشات دون رغبة منها، فهي في حالة من الزهق والضيق لعدم دخول عمرو وكانت تتحدث مع هذا وهذه على أمل أن يدخل، وفي آخر الليل دخل عمرو وظهر "إميله" لديها فانتابتها موجة عارمة من المشاعر جعلت قلبها يكاد يخرج من صدرها، ودون انتظار أن يلقي عليها السلام كالمعتاد بادرته هي بالحديث:
- عمرو، أين أنت؟ لم تأخرت؟.
- على أساس أنك بانتظاري!!!!!.
- أفّ لك يا عمرو، والله أني فعلاً في انتظارك .
- كيف حالك؟.
- جيدة.
- ما أخبارك؟.
- الحمد لله.
وساد الصمت بينهما وكل منهما ينتظر حديث الآخر وعادت هي:
- عمرو أين أنت؟.
- هنا.
- لم لا تتكلم؟.
- وماذا تريدن مني أن أقول؟ .
- أي حاجة.
- أين الصورة؟ أريد رؤيتها.
- أرجوك يا عمرو...
- لقد قلت أنك تصوّرت خصيصاً لأجلي، فأين الصورة إذن؟.
لم تجد ندى أمامها غير أن تعرض الصورة المركبة على مضض:
- هل هذي صورتك يا ندى؟.
- كلا، بل صورة ابن الجيران...!
- لكنك جد حلوة!.
- أرجوك، كن مهذباً.
- لم كنت رافضة أن تريني إياها؟.
- ها قد رأيتها..
- طيّب ابعثي بها لي.
- أووه، ألم ترها؟ ألا يكفي هذا؟
- قلت لك ابعثيها...
وأحست ندى بالمأزق، لكنها كانت قد وقعت فيه فعلاً؛ إن لم ترسلها سيشك في الأمر، وان أرسلتها فلن يغيّر من الأمر شيء، فقد رأى الصورة على أنها صورتها، فأرسلتها واحتفظ بها عمرو لديه على جهازه وتعلّق بها. لم تتخيل ندى أن تصل العلاقة بينها وعمرو إلى ما وصلت إليه، فهي لم ترغب إلا في الاحتواء وهذا ما شعرت به معه ولم تكن تتوقع هذا التدفق للمشاعر التي تحرّكت داخلها تجاه عمرو الذي لم تر صورته، لم تتطلب رؤية صورته إلا مؤخراً فهي لم تحب فيه الشكل أو الهيئة بل أحبّت وتعلّقت بالروح، أمّا هو وعلى غير قصد منه هو الآخر أحبّها وتعلّق بروحها ولكنه مثل أي شاب إذا ما تعلق بروح فتاة سعد عند لقاء الأرواح فما بالكم إذا تعلق بالروح والشكل نعم أحبت ندى روح عمرو وتعلّق هو بها تعلقاً شديداً جعله لا يستطيع كتم مشاعره أكثر من هذا فباح لها وأفصح عما بداخله:
- أنا أحبك يا ندى.
- ماذا تقول؟ نحن أصدقاء وفقط.
- وأنا غير قادر على إخفاء الحقيقة أو ألا أعبّر عن نفسي.
- أرجوك، يا عمرو لا تقل كلاماً كهذا.
- أنا أسف.
- لا أريدك أن تغضب مني، أرجوك قدّر موقفي.
- لست غاضباً أو أي شيء.
وبسؤال ندى عن شغل عمرو غيّرت مجرى الحديث.
- ما أخبارك في الشغل؟.
وظلّ الصديقان أو الحبيبان يتبادلان حديثاً ويحاول كل منهما أن يبتعد عن مشاعره دون جدوى منهما فقد دخلا سوياً عالم الروح، وذلك العالم الغريب أعماقه كأعماق البحر إذا ما سقطت فيه أبت روحك أن تخرج منه وتمنت أن تعيش دوماً فيه، ولم يكتفيا بالمحادثات على النت بل كان "للموبيل" والاتصالات الهاتفية دور آخر مما أضعف قدرة عمرو على تحمّل كتمان مشاعره التي تعرفها ندى أكثر من ذلك ولم يخلو حديثهما من كلمات يفصح فيها عمرو عن مشاعره:
- اشتقت لك يا ندى.
- عمرو، "بلا اشتقت إليك" تلك لو سمحت..
- حسنٌ، لن أقول اشتقت لك مرة أخرى، لكن سأقول شيئاً آخر..
- وماذا ستقول؟
- أحبك... أحبك... أحبك.
- أرجوك تهذّب....
- أعشقك... أعشقك... أعشقك.
- أرجوك..
- - حرام عليك يا شيخة، تحرمينني من السمع فلا تحرميني من أن أقول.
- ألم نقل أننا مجرد أصدقاء.
- يعني أموت وأكتم ما في نفسي إذن.
- أنا خائفة من هذا الكلام.
- يعني أنك لا تشعرين بذلك يا ندى.
- عمرو أرجوك.
وكانت ندى تحاول أن تصمد أمام هذه الكلمات وتحاول إقناعه أنها ليست مشاعر حب بل صداقة وعليه أن يفكّر أكثر في خطيبته، وكان عمرو يحاول أن يقنع نفسه أن ندى لم تحبّه لكن إحساسه يؤكد له أنها تحبه.. نعم أحبّته ندى كما أحبّها عمرو ولكن اختلف كلٌّ منهما في طريقة حبه للآخر أحبّت ندى روح عمرو الذي كثيراً ما احتوته، أحبت ندى عمرو حباً نادر الوجود، وأحبّ عمرو ندى حب الشاب للفتاة الذي يتمنّى جسدها كزوجة وروحها كصديقة وقلبها كحبيبة، أمّا ندى فأحبت عمرو حبّاً من نوع خاص، حبّاً نادراً، حبّاً لا يعرفه سوى فصيلة نادرة من البشر، حب الاحتواء.. حب يغلب فيه العطاء على الأخذ، حب دون مقابل، حب إذا أعطى فيه الحبيب إعطاء خطّاء يسمى العطاء المر، وإذا أخذ يسمى أخذه الأخذ المر.
وذات مرة تحدّثت ندى مع إحدى أصدقائها على النت:
- ما بك يا ندى، لا أفهم ما تودين قوله.
- يا ابنتي أنا ضجرة وخائفة.
- غريبة! أنت يا ندى من يقول ذلك! طيّب وممَّ أنت خائفة؟
- خائفة من أن أفرح.
- نعم؟؟وهل الفرح مخيف هذه الأيام.
- نعم، أنا بالذات أخاف من الفرح.
- مالك يا ندى، احكي لي.
- أنا كنت كالتائهة، أبحث عن نفسي ووجدتها، وخائفة أن أفرح بها.. لم أفرح يوماً بشيء إلا وضاع مني.
- نصيحتي، عيشي اللحظة ولا تفكّري بما يأتي بعدها.
وعلقت هذه النصيحة برأس ندى "عيشي اللحظة"، وأخذت تفكر في الذي بينها وبين عمرو وما يجلبه لها من سعادة حين تحادثه، ولم يقطع حبل أفكارها سوى رنات الموبايل... فإذا به عمرو:
- ألو عمرو، كيف حالك؟.
- كيف حالك أنت يا ندى؟ ما أخبارك؟
- جيدة .
- صوتك فيه شيء، ما بك؟
- لا أبداً، لا شيء.
- كيف ذلك، ألا أعرف صوتك، إنه متغيّر.
- خائفة يا عمرو.
- ممَّ؟.
- لا أدري؛ منّي، منّك.. لا أعرف أنا مشوشة.
- أنا شاعر بك يا ندى وأعرف ما تقصدين، لكن صدّقيني أنت تتعبي نفسك وتري الموضوع أكبر مما هو.. ندى أنا متأكد أنك تحبينني كما أحبك.
- أحبك كأخي.
- كلا، تحبينني كما أحبك، لا تخبئي مشاعرك.
ومرّت برهة من الصمت تاهت فيها ندى كما تاه الرد، فلم تكن تعرف بماذا تجيب لأنها أصبحت في حيرة من حقيقة مشاعرها، هل هي فعلاً تحبه كما يحبها؟ أم أحبت فيه روح الصديق وحنان الأخ المفقود؟. وجاءها صوت عمرو يهزها من تلك الحيرة:
- ندى لم سكت؟.
- لا أدري ماذا أقول!
- قولي ما تشعري به الآن.
وهنا انفجرت دموع ندى وعلا صوت بكائها وجاءها صوت عمرو:
- لم تبكين يا حبيبتي.
قالت وهى تبكي:
- لقد تعبت تعبت.
- حبيبتي أرجوك اهدأي ،لا يمكنني تحمّل دموعك.
- سأغلق السمّاعة الآن..
- لا، لن أستطيع تركك وأنت بهذه الحال، يجب أن تتكلمي، يجب أن تخرجي ما بداخلك.
- ما في داخلي حزن، فراغ.. أنا كالتائهة لا أجد صدراً حنوناً أرمي نفسي في أحضانه.
- لم يا روحي، وأنا أين ذهبت؟
- أرجوك، أنا أدري أنك إنسان طيب .
- إنسان طيب فقط!.
ولم تجب، فأجاب هو:
- أنا حبيبك وأخوك وسأبقى إلى جانبك. تعالي يا ندى وارتمي في حضني أنا، لا تخافي.
وأحسّت ندى بتيّار عارم من المشاعر والأحاسيس ما استطاعت أن تقاومها وعبّرت عنها بمزيد من البكاء مما جعل عمرو يقول:
- ندى لا يمكنني تحمل هذه الدموع، ندى أرجوك تخلّصي من هذه العقد، ندى نحن لا نعرف بعضنا إلا من خلال النت ولم نر بعضنا ولن نرى بعضنا... عيشي اللحظة ولا تخافي منها.
"عيشي اللحظة" وللمرة الثانية تتردد هذه العبارة على مسامع ندى، كلمات أتاحت لها الفرصة لتنجرف في ذلك التيار، تيار يدمر النفس ويأخذها للهلاك، ولكن هيهات..
وأغلق الحبيبان "الموبيلات" بعدما اتفقا على اللقاء ليلاً على النت، وأخذت الخواطر والأفكار تأخذ بعقل ندى حتى ذهبت إلى صحراء شاسعة لا يوجد فيها سواهما وسيارته "الجيب"، هناك في تلك الصحراء والتي لم تكن إلا في خيال ندى، قال عمرو:
- اعملي ما تريدين..
- فظلّت ندى تجري كالأطفال.. كانت تتخيل أنها تفرد ذراعيها وتلفهما حول نفسها. وتارة تتخيل أنهما يتسابقان وكلٌّ منهما يحاول الإمساك بالآخر حتى لا يسبق أحدهما الآخر، وظل الخيال يأخذها حتى وصل بها إلى صخرة تطل على بحر في وسط الصحراء! فنادت،
- عمرو، أنا ذاهبة لتسلق هذي الصخرة.
قالتها وهي تجري نحو الصخرة فرفع عمرو صوته مجيباً:
- روحي، لكن حاذري من الوقوع.
وتسلّقت ندى الصخرة حتى وصلت إلى القمة ثم نادت بأعلى صوتها:
- عمـــــــــــــــــــــــــرو!
وجاءها الرد:
- نــــــــــــــــــــــــــدى.
ثم تعود مرة أخرى لتطلق ضحكة تملأ المكان الواسع وتفتح ذراعيها وتلف حول نفسها وتنادي:
- عمرو.. عمرو.. عمرو.
وكان عمرو يجلس بعيداً يرتكز بظهره على سيّارته ينظر إلى ندى وكأنّه ينظر إلى طفلة مثل العصفورة الحبيسة حينما فتح لها باب العش، ماذا كان منها؟ هكذا كانت ندى.. فهذا ما كانت تريده ندى وهذا الذي لم يفهمه عمرو، فكانت ندى تعيش أحلام اليقظة بمفردها لا يشاركها أحد فيها حتى ظهر عمرو في حياة ندى.. تسلل إلى تلك الأحلام فشاركها فيها، كما كانت هي الأخرى بطلة أحلام عمرو مع الفرق الشاسع بين أحلامهما، كان كلاهما يجد في أحلامه أشباع لما ينقصه من احتياجات في عالمه الخاص، فكان ينقص ندى الصديق الذي يفهمها ويشعر بها، والأخ الذي يحنو عليها. أما عمرو فمثله كباقي الشباب إذا ما تحركت مشاعره بصدق تجاه إنسانة أحس بصدق مشاعرها، بالطبع ستتقابل تلك المشاعر وترتبط ويختلط الأمر عليه من أي نوع هذه المشاعر والأحاسيس، كما أنه أعزب لم يتزوج بعد.. يا له من تلاحم للأرواح غريب.. وغاصت ندى في ذلك الحلم الجميل الذي ملأ عليها يومها سعادة جعلتها تبدو كالزهرة التي ارتوت بالماء ففاح عبيرها.. وبينما هي كذلك إذ بحسام يناديها:
- ندى، أين أنت؟
وانتبهت ندى من حلمها وجرت إلى حسام وارتمت بين ذراعيه فأخذها في أحضانه مما جعله يسأل:
- مالك يا حبيبتي؟ ما بك؟
- اشتقت لك، اشتقت لك، اشتقت لك...
- ما كل هذا؟!
- أحبك... أحبك.. أحبك.
وتعجّب حسام فلم تكن ندى بمثل هذه الروح من ذي قبل، ولكنه لم يظهر لها هذا التعجب وبدأ يتجاوب معها حيث انتهى هذا التجاوب هناك في غرفة نومهما..
وطلبت ندى من حسام أن تذهب معه في نزهة:
- حسام أريد أن تأخذني في نزهة.
- حاضر يا حبيبتي.
- أتمنى أن أمشي معك وأمسك بيدك يدي تغوص في يدك.
- حاضر من عيوني.
- متى يا حسام؟.
- متى ما أنهيت الدكتوراة... أنت تعلمين كم أنا مشغول بها.
وتنهدت ندى ثم همست بلا صوت:
- حتى تنهي الدكتوراة!!. موت يا حمار...
وجاء الليل وانهمك الزوج في المذاكرة والابن في لعبه .وندى على النت كالمعتاد تتبادل الحديث مع الأصدقاء، ثم دخل عمرو:
- مساء الخير يا ندى.
- مساء النور يا عمرو.
- اشتقت لك.
- ما أخبارك؟
- قلت اشتقت لك..
- طيّب.
- يا ساتر عليك بنت ....
- هل رأيت العروسة؟
- نعم، ذهبت ورأيتها.
- وما الأخبار؟
- عسولة جداً، ودمها خفيف .
- طيّب جميل، يعني أعجبتك.
- نعم، الحمدالله أنا ارتحت لها جداً.
- هل اتفقتم على شيء.
- ليس بعد، يريدون بضعة أيام قبل الرد.
- إن شاء الله بالتوفيق، وماذا فعلت في شغلك؟
- تشاجرت مع المدير.
- ولم؟!
وقصّ عمرو أخبار شغله كما قصّت هي الأخرى عن يومها وما كان فيه من أعمال حتى وصلت إلى:
- تخيّلتك اليوم..
- أحقا؟ ماذاً تخيلتي؟
- حكت ندى لعمرو ما تخيّلته وكم جلب عليها هذا التخيّل المزيد من السعادة ثم سألها:
- ولم أصعد للصخرة من ورائك.
- كلا، ولم ستصعد؟.
- وماذا عساي كنت أفعل، فأنا لا ارى أي دور لي في هذا!!
- كيف لك أن تقول ذلك، يكفي أن روحك كانت معي.
- أتدرين، لو كنت هناك ما كنت سأدعك تتسلقين الصخرة وحدك.
- أكنت ستصعد معي يا عمرو؟.
- طبعاً، وكنت سألقي بك في البحر.
- أيهون عليك أن تلقي بي في البحر؟.
- كنت سألقفك في حضني لحظة وقوعك يا عزيزتي.
- ما الذي تقوله يا عمرو؟ توقف أرجوك وإلا غضبت منك.
- ياساتر، أنت دائماً هكذا تحاولين إسكاتي، حسن سأسكت.
- هذا جيد.
وعادت تسأله عن عروسه واستعداداته وعن سفره الذي يستعد له، وظلّ هكذا حتى نادى حسام
- هيا يا ندى لننام.
واستأذنت ندى عمرو وأغلقت النت وذهبت إلى فراشها بجوار حسام زوجها بعد ما اطمأنت على ابنها في سريره الخاص به. وتتالت الأيام وسرت بلا جديد حتى ذات صباح رنّ "موبيل" ندى فردّت قائلة:
- أهلاً عمرو، كيف حالك؟
- كيف حالك أنت؟.
- ما بصوتك، هل من مشكلة؟
- قلق بعض الشيء.
- وما سبب؟
- اتصل بي أخو العروس وطلب مقابلتي.
- وهل يستدعي ذلك القلق؟.
- أول مرة أتعرّض لموقف كهذا!.
- استرخ ولا تقلق، هو أمر عاديّ.
- لا أعلم عليّ قوله له.
- حدّثه عن نفسك وعن شغلك وإمكانياتك وموضوع سفرك...
- هذا ما سأفعله، لكن لا أدري كيف!
- طيّب، اعتبرني أخ العروسة وتفضّل بالكلام.
- يعني كتجربة تحضيرية
- نعم.
وتحدّث عمرو بما سيتحدث به إلى أخ عروسه وكلما وجدت ندى مالا يناسب من كلامه أرشدته إليه، وكان يستمع إلى نصائح ندى وكانت سعيدة بما دار بينهما فقد جلب عليها إحساساً بالاحتواء تبحث هي عنه، فبالرغم من أنها تهتم بالجميع وتشعر بهم وتحمل بين طيّاتها حناناً لهم إلا أنهم لم يبادلوها عطاؤها بما كانت تبحث عنه إلا عمرو؛ أعطاها كما أخذ منها، أعطاها مشاعر الاحتواء كما أعطته هي الأخرى مشاعر الاحتواء، وكانت ندى سعيدة لأن عمرو ستصبح له زوجة وبيت وأولاد وحياة مستقرة، بينما عمرو سلبت منه هذه المشاعر لم تكن تملأه فرحة الشاب المقبل على الزواج، فقد توجهت مشاعره نحو ندى وحاول كثيراً إيقاف سيل هذه المشاعر لأنه يعرف أنه من المستحيل أن تكتمل سعادته بمشاعره لندى، فهي متزوجة.
حاول أن يوجّه مشاعره إلى بنت الحلال ولكن هيهات... لو يعلم الإنسان أن مشاعر الحب والحنان نعمة من الله وصانها حق صيانتها وأرسلها في الاتجاه الصحيح أو صبر حتى يأتي الموعد المناسب لها!!!... وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة من عمرو أن يفرح بعروسه ويشعر بها إلا أن كل هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل، فكان إذا استيقظ من نومه فتح جهاز الكمبيوتر لينظر الى صورة ندى وكأنه يلقي عليها الصباح!.. وكان كثيراً ما يحلم بها.. وهكذا ملأت ندى خياله، لكنه كان مجرد خيال.. خيال، إذا أراد الإنسان الخروج منه لم يستطع الخروج كما دخله، فحينما دخله دخله سليم القلب وسيخرج منه جريحه.. منكسراً حزيناً.
وانتهت المحادثة الهاتفية التي علمت منها ندى أن عمرو سيقابل أخا العروس الساعة السادسة مساء اليوم، راحت ندى تنتظر لقاءها مع عمرو حتى تعرف الأخبار، وجاءت الرنات وفتحت النت:
- عمرو، ماذا حصل؟
- الحمدالله كانت جلسة ممتعة.
- خبّريني بالتفصيل الممل.
- تقابلنا في مقهى وتعارفنا، بدأت أنا الكلام عرّفته على نفسي وشغلي وموضوع سفري..
- جميل، إيّاك أن تكون قد ضحكت وهرّجت كعادتك.
- بالعكس، كنت جاداً جداً وهو من كان يضحك.
- ولم كان يضحك؟
- لقد كان هو الشخص المحرج ولست أنا!
- ههههههههههههه.
- كنت عاقلاً جداً كما قلت لي، لقد زال توتري وقلقي تمتماً بعد محادثتنا في الصباح.
- طيّب، متى ستزورهم في المنزل؟
- قال لي أنّه سيتصل بي بعد يومين وليحدد لي موعد زيارتي لهم في البيت.
- عندهم في البيت... مبروك إذن، طالما قال لك البيت فهذا يعني أنك مقبول.
- يا سلام، وكيف عرفت؟
- مادام قال لك أنهم سيستضيفونك في بيتهم فمعنى ذلك أهم موافقون والباقي رسميات شكلية.
- معقول!!!!.
- طبعاً، والله مبروك يا أحلى عريس.
- من العريس؟ أنا؟!.
- نعم، وسيد العرسان أيضاً.
- ندى، لا أريد أن أفرح الآن فقد لا تسير الأمور كما يجب ويرفضونني!
- من هذا الذي يرفضك؟ أنت عريس ولا كل العرسان.
- أنت دائماً ترفعين معنوياتي.
- لا، أنت فعلاً إنسان ممتاز، يا حظها.
- ولم كل هذا؟
- يكفي حنانك.
- ولم لا اشعر أني حنون؟؟
- كيف لك ان تقول ذلك؟
- لا أدري، لكني متضايق من نفسي جداً، أشعر أني إنسان سيء.
- لا تكن مضحكاً!.. إن كنت سيئاً كما تقول من أين لروحك كل الحنان الذي تفيض به؟!.
- أنا اتعامل بروحي معك أنت فقط.. أنت وحدك التي استطعت فهمي والإحساس بي، معك أصب مشاعري وفرحي وحزني.
- وما الذي يمنعك من أن تعيش بروحك مع الكل؟.
- ما يمنعك؛ أنت لا تجدين من يفهمك ويحس بك.
- فعلاً يا عمرو، أن تجد من يفهمك ويحس بك ويحتويك أمر يصعب وجوده.
- أخشى أن العروسه ما تقدرش تفهمني زيك ولا تحس بيا
- اسمع يا عمرو، أنت من سيشكلها، احتويها وأحبها من قلبك، لفّها بحنانك، قرّبها منك، عندها ستكون ما تريد لها أن تكون، لا تفعل كما فعل زوجي حسام؛ هو يحبّني لكن أشعر أن حبه لي كأي شيء يملكه يحبه ولا يريد له أن يضيع من يده لأني من كماليات حياته.
- ألمس من كلامك يا ندى أن حساماً ليس حنوناً معك.
- كنت أتمنى لو أن حسام كل شيء في حياتي؛ الزوج والحبيب والصديق، لكن للأسف هو مشغول عني دائماً، طموحاته وأحلامه لا تدع لي مكاناً في عقله وقلبه.
- طيّب، لمَ لم تحاولي أن تقرّبيه إليك؟
- حاولت كثيراً، لكنك لا تتحكم بهذه المشاعر يالأزرار فتشغّلها حين تنطفئ! أنا أيضاً محتاجة لأن أشعر أنه يحس بي ويفهمني، كنت أتمنى أن أجد فيه الصديق، كنت أتمنى أن أجد عنده الصدر الحنون الذي أرتمي فيه.
- ندى، أنت إنسانة طيبة جدّاً!
- ربنا يحفظك يا عمرو.
- تعالي نذهب لموقع جميل جداً.
- وما هو هذا الموقع؟.
- موقع للنوادر والفكاهة، تعالي نمرح ونضحك قليلاً.
ودخلا الموقع معاً وظلا يضحكان كلما قرأ نادرة أو مرّا بصورة كاريكتير مضحك، وانتهت الليلة كما انتهت غيرها ولم يكن هناك أمر يؤرق سعادة ندى إلا شيئاً واحداً (الصورة المركبة)، كان يخالجها الخوف من عمرو أن تجعل هذه الكذبة حاجزاً بينهما فلا يصدّقها في شيء بعد ذلك، بل خشيت عليه أن يصدم في تلك الروح التي ملأت عليه حياته هو الآخر فينقلب الحال لكره بدل الحب وتحرم ندى شعور الاحتواء التي طالمت بحثت عنه. وذات لقاء بينهما:
- مساء الخير يا أعز صديقة ويا أحن أخت لي.
- ما كل هذا؟ فرّحني معك .
- العروس عسل ودمها خفيف.
- احكي لي.
- ذهبت لزيارتهم وأخذت شيكولاته كما أوصيت، وأمي كانت معي ولبست الطقم الجديد الذي اشتريته لها الأسبوع الفائت والذي أخبرتك عنه.
- نعم أخبرتني، وماذا بعد، أكمل..
- لقد عملت تماماً كما قلت لي؛ أكلمها بطبيعية وأحاول أن أفتح معها مواضيع.
- هي تكلمت معك؟
- نعم واندمجنا جداًَ، لكن كانت تضحك!!
- ولم كانت تضحك؟
- كانت مبتسمة، يعني لم تكن تضحك تضحك.
- كانت خجلة إذن؟.
- نعم.
- جميل، أخبار حلوة.
- أنا سعيد جداً.
- وأنا سعيدة لأنك سعيد.
- أتدري يا ندى، مذ عرفتك وأنت تدفعينني للأمام.
- أنت تستحق كل خير يا عمرو .
- على فكرة، عندي لك مفاجأة.
- خير إن شاء الله.
- أولاً، أي شيء تفضلين أن أهديك؟
- هدية؟، لي أنا، لماذا؟.
- عندي مأمورية عندكم في المنيا لمدة 3 أيام، فوجدتها فرصة أقابلك فيها واقعاً وأهديك ما أعبّر به لك عن كم عزيزة عليّ أنت.
وسقطت المفاجأة على قلب ندى كالسهم المدبب جعلها تضرب،
- تقابلني؟! أنا؟ لا، لا أستطيع القيام بذلك.
- لماذا؟!
- لا استطيع.
- طيّب، لماذا؟
- لا لا، لا استطيع وحسب.
- يا عزيزتي، تظاهري بأنك قابلتني صدفة أثناء شراء لبعض الحاجيات.
- أرجوك يا عمرو، إن كان لي شأن عندك انسي أمر مقابلتي.
- يا ندى أتمنى أن أراك وهذه المأمورية هي فرصتي.
- قلت لا، ولا تكلمني في هذا الأمر ثانية.
- حسن، أنا آسف، والله ما قصدت شيئاً إلا رؤية الإنسانة التي استطاعت أن تحتويني بروحها، لكن ما باليد حيلة، على راحتك.
وباتت ندى والخوف يتحسس طريق علاقتها بعمرو ويهددها بالانهيار مما جعلها تعيد حساباتها مرات ومرات، هل تصارحه بحقيقة الصورة أم ماذا؟ ولكن خوف المواجهة بالحقيقة ملأها فقررت أن تصارحه، ولكن ليس الآن بل حين تتاح لها الفرصة وتتجمع لديها الشجاعة الكافية، ولكن هيهات لو علمت ما سيحدث لكانت أخبرته الحقيقة.. وفي اللقاء التالي:
- ما أخبارك؟ ألا زلت متعبة.
- الحمدالله صرت أفضل.
- لكنك على غير طبيعتك!.
- بلى، اشتقت لإخوتي، يحزّ في نفسي أنهم لا يتقدون أخباري ولو بمكالمة هاتفية.
- ألم نتفق أن تنسي الأمر.
- لا أستطيع أن أنسى أن لي إخوة.
- أنا لا أقول أن تنسي أن لك إخوة، بل أن تتغاضي زتنسي أنهم لا يسلألون عنك.
- وماذا بعد؟
- يا بنتي، كل الناس هكذا، كل واحد يقول نفسي.. ثم ألم نتفق أننا أخوة؟!.
- فليحفظك الله يا عمرو.
- وليحفظك يا أحنّ أخت في الدنيا.
- أفرح جداً حين تناديني "أختي".
- طيّب، هيا بنا يا أختي تعالي معي.
- إلى أين؟
- إلى موقع للألغاز والمسابقات، تعالي نذهب إلى هناك.
- حسن.
بينما عمرو يبحث بين المنتدايات إذ بالمفاجأة... يرى أصل الصورة المركبة التي تم تعديلها لتصبح صورة ندى:
- ندى... ندى.
- نعم يا عمرو، أنتظر أن تبعث لي الرابط الخاص بالموقع.
- ندى هل من شيء تخفينه عني؟.
وشعرت ندى بخوف ملأها وظلّت تسقط في خوف أربكها وجعلها تفكر: أتراه أدراك موضوع الصورة أم ماذا يقصد؟ فكانت تكتب كلمات ثم تمسحها فارتبكها جعلها تخطئ التصرف:
- ندى أجيبي، هل تخفي عني شيئاً؟
- أنا؟!
وبكل ارتباك قالت:
- لا.
كانت تحاول أن تتمسك بطرف حبل العلاقة التي شعرت أنها تتدلى به إلى الهاوية، ولم يكن من عمرو إلا أن أرسل لها الرابط ففتحته فإذا بأصل الصورة أمامها، شعرت بأنها النهاية فحاولت أن تهرب من المواجهة ومن الحقيقة ظنّاً منها أنها تتمسك بالعلاقة خوفاً من أن تفقدها:
- لم فعلت ذلك يا ندى؟
- عمرو، لا أدري ماذا أقول؟.. لقد..
- تلكمي، لم لعبت بي...أنا مخطئ لأني عرفت واحدة مثلك... آسف على كل لحظة ضيّعتها معك.
- عمرو أرجوك..
- سلام.
وأغلق عمرو النت وما استطاعت ندى أن تفعل شيئاً، باتت ليلتها دون أن يغمض لها جفن أو تجف لها دمعة، أحسّت وكأن سكيناً غرس في العمق، حاولت النوم من أجل الهروب ولكن هيهات فقد ضاع الحلم الجميل وضاع الصديق والأخ الذي كان بحنانه يحتويها. وفي الصباح قررت ترفع سماعة الهاتف لتحدثه فلم تجد لديها رصيد ولم يكن لديها نقود ولم يكن زوجها موجوداً لتأخذ منه، ولكن تريد أن تحدثه وتشرح له الحقيقة لعله يعذرها أو يتفهّم موقفها، ولم تجد أمامها غير أن تبيع خاتماً ذهبياً لا تملك غيره حتى تشتري بطاقة وتتحدث إلى عمرو، وفعلاً باعت الخاتم وشحنت "الموبيل" وتحدثت إلى عمرو:
- عمرو أرجوك اسمعني.
- ماذا تريدين؟
- أنا آسفة لاتصالي بك، لكن حاولت أن أرنّ على هاتفك و أنت لا تفتح الحاسوب.
- لا، أنا كنت نائماً والآن فقط سمعت رنين الهاتف.
- أنا آسفة يا عمر، أريد التكلم إليك.
- لم يعد للكلام لزوماً.
- لا أرجوك..
- طيّب، أنا سأشرب قهوتي وأدخل على النت.
- طيّب سأكون في انتظارك.
ودخلا النت وتحدّثت إليه بكل صدق عن الصورة ورغبتها في وضع الصورة الحقيقية وما كان من ابن أخيها وخوفها من حسام:
- لم لم تصارحيني بالحقيقة قبلاً؟
- كنت خائفة،؛ أعجبتك الصورة وارتبطت بها فخفت أن أنزع عنك فرحتك وترفض تستمر معي.
- أنت تعلمين أنني أحببت روحك قبل رؤيتي للصورة وارتبطت بك لهذه الروح.
- إلحاحك دفعني للموافقة على عرض الصورة المركبة.
- فتغشيني وتتلاعبي بمشاعري؟!
- أنا آسفة، أنا إنسانة مجرمة، لكن والله لم أقصد اللعب بمشاعرك.
- وإلى متى كنت ستستمرين في إخفائها عني؟
- كنت أود أن أخبرك لكن كنت خائفة أن تضيع مني... حقك عليّ.
- حسن يا ندى، حصل خير.
- ليتك تقدّر موقفي.
- أنا لم أنم طوال الليل أحاول أن أجد لك عذراً لكن لم أجد.
- والآن بعد أن قلت لك الحقيقة عذرتني أم لا.
- نعم، عذرتك.
- يعني سامحتني.
- من يحب يجب أن يسامح يا ندى، وأنا فعلاً أحببتك ولذلك أنا أسامحك.
وظلّت ندى تبكي وشعر بها عمرو:
- لا تبكي يا ندى، أنا أحس بك .
- لا أدري ماذا أقول، أنا محرجة، لا أدري ماذا أقول لك...
- لا تقولي شيئاً.
- أنا أحبك جداً يا عمرو.
- الله، أول مرة تقوليها لي.
- أنا فعلاً أحبك، أحب فيك حنانك وقلبك الكبير دائماً تحتويني وتحس بي، أنا آسفة، آسفة، آسفة.
- إنسي الموضوع يا ندى الآن.
- حاضر.
- هيا امسحي دموعك أم تفضلين أن آتي وأمسحا بنفسي.
- ربنا يحفظك لي لا يحرمني منك أبداً.
وأغلق كلاهما النت وأحس عمرو بتيار جارف من الحزن ملأ قلبه فهو كان معلق بين الروح والصورة، أحس بالروح وأعجب بالصورة فكان لديه انطباع شبه مكتمل لتلك الإنسانة التي أحبها وارتاح معها، ولكن ارتباطه بالروح هو الأغلب على الرّغم من أنه كان شديد الإعجاب بالشكل، أما ندى فأحست بارتياح لما وصل إليه الأمر فهي كانت صادقة معه إلا في موضوع الصورة أما عمرو فراحت نفسه تتنازعها روح ندى وشكلها الذي أصبح كالسر الحربي هذا ما قاله لها في إحدى المحادثات:
- صفي لي شكلك هذا السر الحربي.
- ههههههههههههه
- تخيّلني كما تريد أن تتخيلني؛ بيضاء، سمراء.. أي حاجة .
- لا أنا فعلاً أحاول تخيلك.
- يا عمرو أتعرف؛ رغم أني رأيت صورتك إلا أني لست مرتبطة بها أبدأً، بل في خيالي أنا أتخيلك بصورة أخرى ولا أريد لصورتك أن تحل محل خيالي.
- لكني لست مثلك، أنا فعلاً أرغب في رؤيتك.
- كيف؟
- هل سأقابلك حين قدومي للمأمرية عندكم؟.
ولم تر ندى وعاد عمرو :
- لم لا تردين؟
- لا أرى ضرورة لتلك المقابلة!
- هناك شيء ما تخفيه عني.
- لا والله، وماذا سأخفي بعد؟!. لست جميلة وأخشى إن رأيتني أن تقول لا أريد أن أراك على النت ثانية!.
- ههههههههههه، لا، لست مهتماً بالجمال أني فعلاً متعلق بروحك وأتمنى مقابلة صاحبة هذه الرّوح.
- لا أدري ماذا اقول!
- أرجوك، لعشر دقائق فقط.
وخافت ندى مرة أخرى أن تخسر عمرو فاضطرت على مضض منها أن تقبل هذا اللقاء:
- حسن يا عمرو، حين تأتي المأمورية إن شاء الله نتقابل.
- طيّب، صفي لي شكلك.
- يا عمرو، ألن تراني حينها؟.
- لا لا، صفيه.
- ماذا تريد أن تعرف.
- سمراء، بيضاء، طويلة، قصيرة....
- ههههههههههه، أنا سوداء وعيوني غائرة للداخل وأنفي طويل وشفاهي عريضة .
- هههههههه، قلبي يقول أنك تكذبين وأنك تحاولين أن تجعلي من نفسك قبيحة، أنا أمتأكد أنك أجمل من ذلك.
- هههههههههه، يا عم، حين تراني ستكتشف أنني أخبرتك بالحقيقة وأنت حرٌّ بعد ذلك.
- لا، أظن وجهك دائري، بيضاء، وملامحك بريئة.
وكانت ندى تحاول إخفاء ملامحها الأصلية وتعرف أن موضوع المقابلة هذا خطأ، وكانت تحاول أن تتفادى الموقف بأي طريقة ففكرت أن ترسم صورة في خيال عمرو إذا ما علم أن لصاحبة هذه الروح تلك الملامح تراجع عن رؤيتها، لكن إصرار عمرو على أن يرى ندى على حقيقتها كان يخيف ندى فهي لم تكن تحمل الملامح التي تحاول إقناعه بها بل كانت على قدر كبير من الجمال وأحست أن لو رآها عمرو لن تكون مقابلة واحدة بل ستصبح مقابلات وهي لا ترغب في ذلك، فهي تكتفي بالمقابلات الروحية على النت ولا تريد المزيد.
وبات عمرو يتخيل شكل ندى وظل يمنّي نفسه بها وينتظر اللقاء، كما كانت هي الأخرى تنتظر اللقاء وتتمنى ألا يتم خوفاً على حياتها الزوجية وكما أنها لا تريد كسر المبادئ التي تربت عليها.. أن تتعرف فتاة أو سيدة على شاب من خلال النت يكون بينها علاقة يشعر فيها كليهما بالأخوة ليس هذا من كسر المبادئ، إنما أن تقابله؟! تراه ويراها فهذا ليس من مبادئ ندى ولا تحب أن تفعله، وعاد الخوف من الاستجابة لرغبة عمرو في اللقاء يملأ قلبها..... لقاء ينتظره عمرو بشغف وتنتظره ندى بخوف وقلق. وفي إحدى اللقاءات على النت كانت المفاجأة حيث دار بينهما الحديث التالي:
- فرِح أنا لأني سأراك وأقابلك.
- أنا خائفة من هذه المقابلة وقلقة.
- هذا قلق طبيعي، إنها مشاعر طبيعية.
- أو لست قلقاً؟!.
- لا، أنا فرحان لدرجة أني أنام وأحلم بك.
- تحلم بي؟ أرأيتني؟
- طبعاً، رأيتك في الحلم جميلة كالقمر.
- قمر؟! على رسلك يا أخي.
- حلمت أنك جئتي عندنا وكنت تلبسين "درل" تحته قميص أبيض .
- ها، وماذا بعد؟.
- أخذتك في حضني وقبلتك.
- عمرو، ماذا تقول؟
- هذا ما رأيت في منامي.
- أنت مؤكد جننت.
- أجننت لأني حلمت بك؟، لم يكن خياري، ثم انت من أتاني في الحلم!.
- لا يجوز لك أن تقول لي ذلك.
- يا ندى افهميني، أنا أحبك أحبك أحبك، ولا تقولي حباً أخويّاً، أنا لا أستطيع إخفاء ذلك أكثر.. أنا أحلم بك ليلاً نهاراً، لذلك أريد رؤيتك لأكمل الشخصية التي أحلم بها.. يا ندى أنا تعبان..
- لم لم تقل ذلك من قبل؟
- لأني أعرف بل ومتأكد أنك تحبينني كما أحبك، لكن أنت متزوجة ولا يمكنك التكلم بصراحة.
- والحل؟!.
- أخشى أن أراك وأخشى ألا أراك.
- لم فعلت ذلك بنفسك.
- أنا أحببتك وتعلّقت بك لكن من داخلي أصرخ.
- وأنا أيضاً تعلّقت بك لكن ليس كما تقول.
- لا تقولي كأخ.
- حرام عليك، أنا فعلاً مرتبطة بك كالصديق والأخ؛ أحببت فيك حنانك الذي حرمني منه إخوتي، أحببت فيك احتواءك لي الذي لم يتمكن حسام من منحه لي، أنتظر سؤالك عني الذي لم أجده عند أي صديقة أو صديق.
وأحست ندى بخفقان في قلبها وكأن روحها تسحب منها، وكأن القلب يرغب في أن ينهي نبضاته..
وتماسكت ثم سألته:
- ما الحل؟
هي لم تسأل لأنها تجهله، بل تسأل لعل لديه حل آخر غير الفراق ولكن هيهات هكذا ندى دائماً تعيش ألم الفراق كلما أحبت شئياً فارقته ولم تفوز بأي شيء سوى الوحدة، أما عمرو فكان أشجع منها
- يجب أن نفترق.
أطلق عمرو حروف كلمات الحل وكأن سهام الدنيا توجهت إلى قلب ندى:
- كما تريد يا عمرو.
بات عمرو على فراشه يتقلّب لا يعرف النوم لعينيه طريق ودار هذا الحديث بينه وبين نفسه
- ما الذي فعلته؟
- كان يجب ان أفعل ذلك.
- أنا فعلاً أحببت ندى ولو كنت قابلتها كنت سأتعب أكثر.
- لن يحصل شيء لو رأيتها مرة.
- كلا، سيحصل شيء وأنا خائف عليها وعلى بيتها.. نفترق الآن ونحن لا نعرف بعضنا أفضل من أن نفترق ونحن نعرف بعضنا.
ولم يختلف حال ندى عن عمرو كثيراً؛ هي أيضاً باتت تفكر فيما جنته من النت غير مزيد من الآلام ومرارة تجرية عاشتها بالروح والقلب والعقل، ولكن أكثر ما كان يضايق ندى أن عمرو كان يظن بها أنها أحبته حب العشق وليس هذا حق، هي أحبته حباً نادر الوجود لا يشعر به إلا ندى ، وقررت ندى قراراً لا تعرف أخطأ أم صواب، قررت أن تهدي عمرو هدية تثبت له أنها لن تحب فيه الشخص ولا الشكل إنما الروح وليس شيئا ً آخر ولم تكن ترغب فيه كما ظن هو أو كما كان يرغب هو..
ونزلت ندى تبحث عن هدية مناسبة لذلك الحبيب الذي لم تعرفه، فاشترت له طقم أقلام حتى إذا كتب به يوماً ذكره القلم أن الروح أهم من الشكل، اشترت راديو حتى إذا ما سمع أصواته المختلفة ذكرته هذه الأصوات التي تجعله يتخيّل ما يتحدثون به أن الروح أهم من الشكل، ولم تنس ندى عروس عمرو فاشترت لها هي الأخرى ساعة رقيقة، ولكن دار السؤال في عقل ندى كيف أرسل هذه الهدية إلى عمرو وهي لا تعلم أي شيء عنه غير بلده الفيوم ورقم موبياله فقط؟!
قررت ونفذت قرارها فعلاً حيث استقلت السيارة المتجهة إلى الفيوم وحينما وصلت ظلّت تبحث عن مكان تترك فيه لعمرو الهدية وفعلاً تركتها في إحدى المحلات في إحدى الشوارع المشهورة في الفيوم ثم استقلت السيارة إلى المنيا مرة أخرى وأثناء عودتها أرسلت إلى عمرو رسالة على "الموبيل" تقول له:
- هديتك موجودة بشارع الميدان لدى الأستاذ عدلي العوضي في محل "ميديا جرب".
واقرأ أيضًا :
كلماتٌ على مِقْصلة الحلم: / لستُ أنـا ! / فَـداحَـهْ ! / بَعْدُ وَبَعْدُ... / فِـقْـهُ الرَّغْـبَةِ ! / وجوهٌ شتى !! / عسى..يا عَسى! / سببٌ مَبْـحُـوح ! / عجبٌ / بكائيةٌ لا تعرفُ الضحك الجديد