سبق الحديث مع الشعب «صاحب السيادة» من قبل، في مقال بهذا العنوان، نشرته ((الشروق)) يوم 9 من يناير 2011، ونستكمله اليوم بعد تسارع مذهل نشهده في أحداث ومكونات المشهد الثوري التاريخي، أعادت وتعيد –شئنا أم أبينا- تشكل البانوراما المعقدة والديناميكيات في هذا المشهد، على نحو يتأبى على الاستقرار –الآن-، وإن كان لا يستعصي علي الاستقراء والاستشراف أو في الأقل لا يستعصي على المحاولة الشريفة الجادة للرؤية المبكرة أو المتصورة لباكر الأيام العشرة الدقيقة القادمة، وأحسبها حاسمة في أوضاع الثورة وشرعيتها وتشكيل معالم المستقبل الدستوري لمصر بما يقتضيه إقامة وبنيان المشروع القومي الذي طال غيابه؛ لكفالة تحقيق مستقبل الإصلاح السياسي والدستوري والقانوني المُمكّن من النهوض الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، واستعادة مصر لدورها الوطني، والإقليمي، العربي والإفريقي والإسلامي والمشاركة في تخليق جديد لنظام عالمي جديد.
وغني عن البيان، أن المشهد الثوري والتاريخي الذي نعيش داخله، ونشارك في صنعه، هو مشهد مُربك بطبيعة الأمور، وبسبب ما يفرزه كل يوم بل كل ساعة من تناقضات، وما يتخلق عنه من التباسات، وما يطرحه بقوة من إشكاليات استثنائية يحض عليهما النشاط المفاجئ الذي هبت فيه الحياة في جنبات روح الجموع المكونة لصاحب السيادة.
فقد أدركت فجأة ولأول مرة منذ عقود امتدت طويلاً أن المشاركة السياسية الفعالة والمنتجة لآثار ملموسة تكاد تكون فورية، قد أصبحت أمرًا ممكنًا وحقيقيًا.
وينضاف كل يوم شركاء جُدد إلى هذه الديناميكية الثورية المنعشة والمُربكة في آن معًا، بل يُضيفون بمشاركاتهم -المفاجئة والمرحب بها- تفرقًا وتشتتًا طبيعيًا يقتضي مزيدًا من التنبه إلى ضرورات التبكير في محاولات الاستقراء والاستشراف للمشهد في الأيام العشر الدقيقة القادمة.
فتلك أيام بزخمها الذاتي وتعدد وجهات النظر، لا يجوز أن تسبقنا فيها الأحداث وتتجمد المواقف فنفاجئ بها مُتحكمة في المشهد ومُعقدة لقسماته بغير مقتضٍ وبلا لزومٍ حتمي، فتبدو الشئون والأوضاع وكأنها بحكم البادي من سطحها الهادئ، وكأنها أمور مسلمة، بدائلها تحددت ابتداءً، بينما اليم الثوري تحتها لم يكتشف صاحب السيادة أبعاده الحقيقية الكاملة أو الكامنة كيما يُتعامل معها بالحنكة والكفاءة والحكمة الواجبة مبكرًا وبمرونة تقتضيها سنن الثورات، كما أن على الربان والقائم منه على الشأن الثوري أن يسبر أغواره تحسبًا لمفاجآت قد ترتج لها السفينة بعد حين، أو -لا قدر الله- بعد الأوان.
واليوم نعاود الحوار والنظر مع جموع صاحب السيادة والربان في أمور عاجلة ومتسارعة قد تعين على تحديد معالم وضمانات المستقبل الدستوري واستقرار الشرعية الثورية، مع دعوة إلى وضع الاستراتيجيات واختيار المنهج وصياغة المشروع القومي الذي طال غيابه.
وهذا الحوار يجيء وقد أعلن صاحب السيادة غضبة ثورته الكبرى وأكد انعقاد إرادته وعزمه، والحياة فوق القمم، وحيث يتدفق الآن الحوار الوطني بين دوائر المجتمع المدني والأهلي، وأحزابه التي بدأت في استعادة عافيتها ونقاباته ومنظماته وشبابه وأطياف الشعب حول مسودات التعديلات الدستورية التي كان قد استدعاها الرئيس السابق في رد فعل مُتراخٍ إلا أنه كان مُدبرًا فور سقوط دستور 1971 بقيام ثورة 25 يناير ضده وضد نظامه وضد الدستور، وقد فاقم من الحوار كون الاقتراح بالتعديلات نفذ في ظل حكومة سقطت هي الأخرى استجابة للإرادة المُعلنة لصاحب السيادة.
أما حواري اليوم فتستدعيه أطروحات لإشكاليات مُلحة يفرضها الاستفتاء المطروح الآن والذي تحدد 19/3/2011 يومًا له، وهو استفتاء يجيء في سياق التطورات المتسارعة، والمستجدات التابعة، منذ صدور الإعلان الدستوري الأول يوم 15/2/2011 وإلى يومنا هذا 14/3/2011، وقد انقضت أسابيع عددًا كالسنين تسارعت فيها خطى الثورة وتغير ظرفها، تجاوزت بها كلها الهدف الذي ارتآه ذلك الإعلان الدستوري ساعتئذ من تلك التعديلات، خاصة وأنه قد أسفر الاستبيان الذي أجراه مجلس الوزراء يوم 19/3/2011 عن نسبة 59% من جموع صاحب السيادة ترفض تلك التعديلات وتتصاعد مع كل يوم نسبة الرافضين.
ولما كانت هذه الإشكاليات المُلحة بأطروحاتها تستوجب حسمًا مبكرًا، فقد حرصنا أن نشترك في النظر فيها لنستنطقها للحفاظ الدائم على وشائج الشرعية الثورية التي تربط بين صاحب السيادة الأصيل والدائم، ومن كلفهم تكليفًا مقدسًا وإن كان موقوتًا، بحمل مسئولية وأمانة سياسة المجتمع وشئونه، وهم المستجيبون لصوته وإرادته وتطلعاته إلى الإصلاحات السياسية والدستورية والقانونية وما يصبوا إليه في إعداد وإقامة نظامه الدستوري الجديد، فنبدأ بأولى هذه الأطروحات وإشكالياتها ثم نوالي النظر فيما يليها:
* هل التعديلات الدستورية الجزئية ((بغض النظر عن اختلاف الآراء في شأنها)) تستجيب لمطالب وتطلعات الثورة في اللحظة الراهنة...؟
* هل الإصرار على إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية الجزئية، من شأنه ترسيخ الاستقرار والسلم الوطني...؟ بالرغم من أنه لم يُعقد الحوار القومي حولها للنظر في مضمونها، ومن ثَمَّ لم تُتح الفرصة الحقيقية لمناقشتها والحوار الوطني بشأنها كما سبق الوعد...؟
* خاصة أنه بالنظر إلى الأحداث الثورية المتسارعة من 25 يناير إلى 11 من مارس 2011، فإن الراجح في الفقه هو سقوط، وليس تعطيل الدستور السابق 1971 [على تفصيل]، حيث كُلِفَّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد، وخلا منصب رئيس الجمهورية وصدر بعد ذلك البيان رقم (5) في يوم 15/2/2011 من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، المُسمى بـ«البيان الدستوري» بتعطيل الدستور، وبحل مجلسي الشعب والشورى ضمن عدد آخر محدود من المبادئ الدستورية العامة المُنظمة للوظائف التشريعية... إلخ، وقبول الشعب عندئذ بذلك الإعلان الدستوري الجزئي بالمقارنة بالإعلانات الدستورية الأكثر شمولاً التي كانت قد صدرت تباعًا إبان فترة بداية ثورة 1952.
وذلك دون أن يفوتنا أن إجراء الاستفتاء على هذه التعديلات الجزئية –حسبما هي عليه الآن- من شأنه أن يفتح الباب مرة أخرى على مصراعيه لمن يُنتخب لرئاسة الجمهورية أن يستحضر النظام القديم بذات الطغيان والاستبداد، في غياب ضمان دستوري يكفل إلزام رئيس الجمهورية المنتخب بالقيام بإجراءات إعادة توصيف سلطاته دستوريًا والحد منها. وبعبارة أخرى: إذًا لماذا نفرض على أنفسنا الآن قبول تأجيل إعادة توصيف سلطات رئيس الجمهورية قبل انتخاب الرئيس الجديد...؟ وهل من المعقول أن نؤجل ذلك إلى مرحلة متأخرة بعد انتخاب الرئيس الجديد فنأتي -بعد أن منحته نصوص دستور 1971 والتي كان يجب تعديلها ابتداءً- لنطالبه بإعادة توصيف السلطات والحد منها ثم العودة إلى إجراء استفتاء جديد على تلك التعديلات الدستورية المتأخرة...؟ وهذا أمر قد يقبله الرئيس المنتخب وقد لا يقبله. هذا فضلاً عن التكلفة المادية الباهظة التي تترتب على إجراء استفتاء ثانٍ تتكبدها خزانة الدولة التي تستدعي الدعم القوي الآن.
* فهل يجوز لنا القبول بالمخاطرة الجسيمة الماثلة أم يتعين علينا الاستباق بطلب تأجيل موعد الاستفتاء أو إلغائه أو العدول عنه، ثم إعادة النظر في موضوعه ومشموله...؟
وعلى ذلك فإن الإشكالية التي تطرح نفسها بقوة، هي: الآن، وفي ظل تسارع الظروف التي أفرزتها وتفرزها الثورة، وتجاوزت بها الأوضاع التي اُقتُرِحت في ظلها تلك التعديلات والمقاصد التي دفعت إلى اقتراحها من قِبَل الرئيس السابق،... أليس الأوْلى اليوم والأجدر بنا:
- أولاً: تأجيل موعد الاستفتاء أو إلغائه أو العدول عنه وإعادة النظر في موضوعه ومشموله.
- ثم ثانيًا: استصدار إعلان دستوري شامل للأحكام الدستورية العامة اللازمة لحكم البلاد في هذه الظروف وخلال الفترة الانتقالية التي تُعد فيها وثيقة الدستور الجديد...؟ بحيث يستجيب الإعلان الدستوري الثاني للمتطلبات والإرادة الواعية للشعب في الوقت الراهن.
- ثالثًا: ينبغي أن يكون مطلب صاحب السيادة في صدد هذا الإعلان الدستوري الشامل مصحوبًا بإعلان من جانب الحكومة بعقد مؤتمر للحوار القومي بشأن: إما مضمون التعديلات الدستورية المقترحة وضوابطها الفلسفية مع إضافة التعديلات الدستورية الأخرى اللازمة، وعلى وجه الخصوص التعديلات بشأن تحديد سلطات رئيس الجمهورية بما يتفق مع النظام الدستوري البرلماني، وإما -وهو الأولى بصاحب السيادة- أن يفتح حوار في إطار مؤتمر قومي بشأن اقتراح وثيقة دستور جديد معبرة عن خلاصة ما تتوصل إليه جموع صاحب السيادة وإذا ما تحقق التوافق حولها، يطرح للاستفتاء.
* علمًا بأنه إذا ما نجح الاتجاه المتزايد والمتصاعد اليوم في الحوار الدائر بين أطياف الشعب المصري في فرض التصويت برفض التعديلات الدستورية الجزئية، وهو أمر مُرجح حدوثه، فإن المرجح أن يترتب عليه تكريس الفراغ الدستوري القائم فضلاً عن تداعياته السلبية الأخرى. وهذا مما يقتضي من صاحب السيادة المسارعة إلى التعبير عن حرصه على قيام المكلفين بأمانة سياسة المجتمع وأمنه باتخاذ ما يلزم بكل وضوح وحزم لتفادي ذلك، درءًا للمحاولات المعادية للثورة المستهدفة زعزعة الثقة وإثارة الشكوك حول مدى الالتزام بالشرعية الثورية.
* ولا يجوز أن يفوتنا الانتباه في هذا المقام أن التطورات المُتلاحقة التالية لقيام ثورة تونس ومصر وليبيا وباقي دول المشرق والمغرب العربيين، وما استنهضته هذه الثورة بين الشعوب العربية من شوق إلى التغيير والإصلاح السياسي والدستوري الشامل، ما أعلنه العاهل المغربي الملك محمد السادس في 9/3/2011 عن وجوب مراجعة دستورية شاملة في المملكة المغربية تستهدف تعزيز التعددية السياسية والحريات الفردية واستقلالية القضاء وتقليص سلطات الملك لصالح السلطة التنفيذية، ووضع السلطة التشريعية في الصدارة بين السلطات، فضلاً عن توسعة صلاحيات رئيس الوزراء وانتخابه بحيث يصبح رئيس السلطة التنفيذية الفعلية، كل ذلك على أن يتم صياغة الدستور الجديد في مدة ثلاثة شهور تنتهي في يونيو 2011.
* نقول: إن مشروع الإصلاح الدستوري في المغرب قد رفع سقف تطلعات الإصلاحات الدستورية واجبة الاستحقاق لدى الشعوب العربية في الدول العربية الملكية فضلاً عن الجمهوريات.
* وفي هذا الإطار المستجد هل سيكون مقبولاً في مصر إجراء استفتاء على تعديلات دستورية جزئية...؟ أم سيُصر الشعب المصري في ثورته على إعادة توصيف استحقاقاته الدستورية والقانونية فيما يتطلبه ويصبوا إليه في إعداد نظامه الدستوري الجديد مُتسقًا وملاحقًا للنسق العربي المستجد وسقفه الأعلى الذي ظهر في آفق الإصلاح الدستوري مؤخرًا؟
أحسبني في نهاية قولي هذا لا أغادر المعقول، ولا تذهل عن قولي الحكمة إذا ما تصورت أن ثورة 25 يناير تطالب بإجراءات مُستجيبة لإرادة الشعب لتحقيق الإصلاح السياسي والدستوري والقانوني ولوضع الإستراتيجية العامة للمشروع القومي المصري على النسق التالي.
أولاً: عدم جواز، ومن ثم وجوب إلغاء الاستفتاء على مشروع التعديلات المُقترحة على دستور 1971 الذي سقط بقيام ثورة 25 يناير ضده وضد النظام السابق الذي أفرزه
ثانياً: إصدار إعلان دستوري شامل وواف لمتطلبات المرحلة الانتقالية.
ثالثًا: وجوب عقد الحكومة مؤتمرًا قوميًا للإصلاح السياسي والدستوري والقانوني.
رابعًا: وجوب عقد الحكومة مؤتمرًا قوميًا معاصرًا وموازيًا لوضع الإستراتيجية العامة والمشروع القومي للنهوض التعليمي والاجتماعي والاقتصادي والإستراتيجي المصري.
أدعو إلى التفكر يا صاحب السيادة أقصد يا جموع صاحب السيادة، وأدعو إلى الحوار وإلى الاختيار بعد ذلك، وأنتم على بينة من أمركم.
واقرأ أيضاً:
علاج الاستبداد/ دروس الانتصار/ كنت في التحرير.. لستُ أمّك!!/ صحيح مبارك كان كابوس وانزاح/ ملفات أمن الدولة وتوثيق الذكريات