منذ حوالي تسع سنوات كتبت في هذه الصحيفة، الوفد الغراء، 30 مايو 2002 مقالا بعنوان: "ديمقراطية : كى. جي. تو!".
المفروض أن ينتقل الطفل من سنة أولى روضة، إلى سنة تانية روضة، لكن يبدو أنني بعد كل هذه السنين اكتشفت أنني - مع من مثلي- مازلنا في سنة أولى روضة "كى جي وَن"؟
حين عشت تجربة السبت الماضي سبت الاستفتاء العظيم، وقبل إعلان النتيجة المهمة التي سأعود لمناقشتها لاحقا، رحت أجمع ما كتبت طوال ما يقرب من ثلاثين عاما عن الانتخابات عامة، وعن الديمقراطية بوجه خاص، فوجدت أنني لم أكف عن إعادة تحذيري من الاستسلام لأية شعارات مختزِلة مثل تلك التي تزعم أن "الشيء الفلاني"، أو "المبدأ الفلاني"، أو حتى اسم هذا الدين الرباني، هو الحل!!
استعمال هذه الشعارات هو استعمال شائع عبر التاريخ وفي كل مكان، وهو يمتد حتى إلى المناهج العلمية، الرصينة المغلقة، هذا الاختزال الحاسم كذا: "هو الحل" لا يقدم حلاَّ كما يلوح لأول وهلة، وإنما هو يدل على فرط الجمود، وإلغاء أي احتمال آخر، كما يدل على التعصب والكسل العقلي، أشهر هذه الشعارات في عالم السياسة عندنا هو: "الإسلام هو الحل" ثم يليه في ذلك "الديمقراطية هي الحل".. هذا الصنم الجميل المستورد غالبا.
منذ سنة 1984 وأنا أكتب هنا في الوفد بوجه خاص، ولم أتردد في أي من هذه الكتابات وغيرها من إعلان أنني لست ديمقراطيا إلا رغم أنفي، وقد حاول شيخي نجيب محفوظ أن يعالجني من "فقر الديمقراطية" بإلحاح النطاسي البارع المؤمن الصبور، لكنني لم أشْفَ تماما وإن كنت قد اضطررت للوعد بتعاطى حبوب الديمقراطية في الضرورة القصوى، بعض الوقت، باعتبارها "أحسن الأسوأ" حتى نجد الأحسن، كنت دائما أشك في قدرة الوعي العام أن يستوعب مصلحته من خلال عقله الظاهر فحسب، لكن شيخي ظل يقرص أذني بحنان بالغ وهو يعلمني أن جُمّاع الناس يشمل تشغيل مستويات العقول الأخرى التي أخشى نسيانها أو تناسيها، وبصراحة تحسنت قليلا حتى صغت ذلك الذي علمني إياه شيخي شعرا في عيد ميلاده الثاني والتسعين (الأهرام 15-12- 2003) قائلا:
صالحْتَـِني شيخي على ناسي، وكنُت أشكُّ في بــَلَهِ الجماعة يُخْدعُونَ لغير ما هُـْم.
صالحتـني شيخي على زخم الجموِع فَخِفْتُ أكثر أن أضيع بظلِّ غيري.
ثم هأنذا أعيش هذه الأيام هذا البعث الثوري الذي أطلقه شباب 25 يناير من داخلنا في ميدان التحرير، وإذا بي أقترب من واقع جديد يحيي أملا جديدا ليشجعني أن أتعاطى نوعاً أقدم من الديمقراطية، غير "ديمقراطية الإنابة"، بدت لي ديمقراطية ميدان التحرير أٌقرب إلى الديمقراطية المباشرة التي كانت تمارس في أثينا منذ أكثر من ألفي عام، وبرغم فرحتي بهذا الاكتشاف حين يشترك كل الناس، ما أمكن ذلك، في اتخاذ القرار، وهم يتحملون (المفروض يعني) مسئوليته، راودتني مخاوف كثيرة مع مرور الأيام، حتى عاودتني الشكوك في سطحية العقل الجمعي واحتمال انحرافه، فجموع الناس قد تحكم على الطاغية بنفس السهولة التي تحكم بها على النبي الجديد، أو الصوفي، أو العبقري، وهذه الجموع أيضا التي قد تجتمع على صواب، وتقصي أو حتى تعدم الظالم، قد يختلط فيها الحابل بالنابل تلقائيا، أو بفعل فاعل، ظاهرٍ أو خفي، لتنقلب إلى غوغائية القطيع، وهكذا وجدتني طول الوقت في لجة من الفرح المحاط بقنوات من الخوف والحذر، ويحضرني تاريخ محمل بتخبط الجماهير وانسياقها وراء أي إعلام خبيث، أو كاريزما لامعة فارغة، أو تهييج شبه ديني عشوائي، واسمع أمير الشعراء أحمد شوقي في رائعتة مسرحية (مصرع كيلوباترا) وهو يحذر من مثل هذا الاحتمال "مارك أنطوني ديون" قائلا:
اسمع الشعب (ديون) كيف يوحون إليه
ياله من ببغاء عقله في أذنيه
ويحضرني أيضا صلاح عبد الصبور في نهاية مأساة الحلاج والقاضي يلقن العامة حكم الإعدام قائلا:
"ما رَأْيكُمُو يا أهْلَ الإسلامْ؟
.......
والآن امْضُوا ، وامْشوا في الأسْواقْ
طوفُوا بالسَّاحَاتِ وبالحَانَاتْ
وَقِفُوا في مُنْعَطَفاتِ الطُرقاتْ
لتقولوا ما شَهِدَتْ أَعيْنكُم
قّدْ كَانَ حَدِيثَ الحلاَّج عَن الفَقْرِ قنِاعاً يُخْفي فَقْره
لكنَّ الشِّبْلي صِاحبهَ قد كَشَّفَ سِرَّهْ
........
الدَّولةُ لمْ تَحَكُمْ
بَلْ نَحنْ قُضَاةَ الدَّولْةِ لِمْ نَحْكُمْ"
أنْتُم . . .
حُكِّمْتمُ فَحَكَمْتُمْ
فامضوا قولوا للعامَّهْ
العامَّةُ قَدْ حَاكَمتِ الحَلاْج
طوال الأسابيع السبعة السابقة، وحتى ليلة الدعاية لتعديلات الدستور (17الجاري)، وأنا أترجح بين فرحتي بـ "الشعب يريد... كذا كذا" وبين "الشعب يعمى عن كيت وكيت"
في مقالي الباكر السابق الإشارة إليه بعنوان "يوميات ناخب حزين" 7-6-1984 جاء ما يلي:
...... "راودني أمل عنيد أني إنسان محترم، أعيش في بلد محترم، وأني أستطيع لذلك -وبذلك- أن أقول رأيي فيمن يحكمني، بل أن أصدر قرار تعيينه، وأن أخطئ في ذلك أو أصيب، وأن يصححني رأي الآخرين، وحساب ضميري، ومتابعة اجتهادي، وتوفيق ربي، كان ذلك بمناسبة عودة حزب الوفد بحكم قضائي ليحيا العدل، ولست وفديا".
وفي مقال تال بعد ثمانية عشر عاما،30 مايو 2002 بعنوان: "ديمقراطية : كى. جي. تو!!"، بدأت أتحفظ على ما يسمى ديمقراطية أكثر فأكثر فجاء في هذا المقال ما يلي:
.... "إنها الديمقراطية، تلك الخدعة العصرية الضرورية الملتبِسة. إنها ليست مرادفة للحرية، ولا هي مبرّأة من كونها قد صارت مخلبا في يد أصحاب أموال غير نظيفة، وإعلام غير عادل، وسلطات غير شريفة. على الرغم من كل ذلك فما زالت هي أحسن الأسوأ".
وفي20/6/2002 في الوفد أيضا كتبت بعنوان: "واحد ديمقراطية، وصلّحها"، زاد نقدي للديمقراطية حتى قلت:
...... لو أن كل واحد سأل نفسه تفصيلا عن مفهومه الحقيقي للديمقراطية، وعن مدى استعداده لتحمّل مسئولية تطبيق ما يقول، إذن لتبين أغلب المتحمسين أنهم يريدون ديمقراطية خصوصية، ديمقراطية "تفصيل"، ديمقراطية قابلة للتعديل حسب الظروف والنيّـة ورضا الوالدين، و"من يكسب المليون".
ثم فجأة – هذه الأيام - وبفضل هؤلاء الشباب وكل من ساندهم، وجدت نفسي أدخل مدرسة أكثر مصداقية وألزم تعليما وهي "مدرسة ديمقراطية 25 يناير"، وجاء يوم افتتاح الدراسة يوم السبت 19/3/2011، فعشت خبرة جديدة تماما، وحتى أتحدث عن هذه الخبرة الأسبوع القادم، وربما بعده، دعونا نقرأ معاً ما أنهيت، مقالي الباكر جدا
........
الأربعاء: وأعلنت النتائج 1984:
...."ياساتر يارب!! ماذا حدث؟ وما فائدة صوتي إذن؟ وأين الأمل؟ هل وفعلوها بالجهود الذاتية؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ الويل لمن يحرمنا الأمل، الويل لمن يضطرنا إلى ما لا نحب، يارب سترك.
الخميس 1984:
أقرأ رائعة جابرييل ماركيزا، مائة عام من العزله: ..كان عدد الأوراق الزرق والحمر متساويا تقريبا لكن الرقيب لم يدع منها الا عشرة وأكمل الفرق بأوراق زرق.. قال اوريليانو سوف يحارب الأحرار فيرد عليه ممثل السلطة أنهم لن يعلنو الحرب من أجل تبديل أوراق الاقتراع - ولكن الحرب تعلن، وبعد ثلاثين صفحة يقول أحد الثوار المحاربين معترضا أصلا على محاولة التغيير بالأسلوب الديمقراطي (مادام الأمر كذلك).... إننا نضيع وقتنا، وسنظل نضيعه ما دام أوباش الحزب (يعني حزبه الثائر) لا ينقطعون عن شراء مقعد في الكونجرس (ما يقابل مجلس الشعب!!) وأسأل نفسي أليس هذا بالضبط ما تدفعنا إليه هذه الحكومة، أو حزب الحكومة، أو حرص وغباء المنتفعين بالحكومة؟
الجمعة 1984:
أفظع ما سمعت وأبأسه ليس مقتل نائبة شجاعة، ولا خطف مندوب مناضل، ولا تسويد يتم ببعض رجال الجامعة، كل هذا له من يحقق فيه وليس عندي ما يحيطني بكل أبعاده، الأفظع - لوصدق - هو حكايات بطاقات زوجات رجال القوات المسلحة التي استخرجت في غير الميعاد والتي سود بعضها بغير حضور، إذ لو صح هذا فهو افتراض ضمني أن القوات المسلحة توجَّه لتأييد حزب معين، وأدعو الله ولتدعوه معي ألا يصح في قليل أو كثير، يا رب سترك.
السبت 1984:
ولو...، يا سيدي رئيس الدولة: انهم يصرون على أن نيأس إذ يفشلونك، فتنبه لما يفعله عمالك، لأننا جميعا سوف ندفع ثمنه، وأنت أولنا وليتحمل مثلي الحزن ما شاء ولكن دون أن يفقد عناد التفاؤل حتى بعد الذي كان، لأن اليأس، سيدي، هو بداية الخراب بكل معنى وسلاح.
والى الجولة القادمة مهما طال الزمن.
(انتهى المقال)
وبعد:
وجاءت الجولة بعد ثلاثين عاما إلا أربعة
وهذا ما سوف أتناوله في الأسابيع القادمة.
ويتبع >>>>>>>: في روضة أطفال الديمقراطية: كى جي ون (2 من 3)
واقرأ أيضاً:
سيكولوجية الأمن في جمهورية الخوف (مصر ـ سابقاً)/ المستقبل الدستوري لصاحب السيادة/ ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء/ حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء/ باستيل مصر