لكي نتصور التغير الذي حدث في صورة الذات لدى المصريين نحتاج أن نعرف الصورة التي سبقت الثورة, والتي نتلمسها في بعض الكتابات والملاحظات, فقد ذكر أحد المحللين الأجانب قبل 25 يناير 2011م أنه يستطيع معرفة المصريين من بين سائر الجنسيات بما يلحظه عليهم من انحناء وانطفاء وانكسار يميزهم بشكل واضح عن غيرهم. وفي قصيدة "ازاي" التي كتبها الشاعر نصرالدين ناجي وغناها محمد منير قبل الثورة مباشرة (ومنعت من التلفزيون المصري الحكومي آنذاك ثم أصبحت بعد ذلك من أشهر أغاني الثورة), يقول: إزاي ترضيلي حبيبتي ؟
أتمعشق إسمك وانتى عماله تزيدي في حيرتي ..... وما انتيش حاسه بطيبتى إزاي !
مش لاقي في حبك دافع ............. ولا صدق في عشقك شافع
إزاي أنا رافع راسك وانتي بتحني في راسي إزاي!
أنا أقدم شارع فيكي ................... وآمالك م اللي باليكي .......... أنا طفل اتعلق بيكي في نص السكه وتوهتيه
أنا لو عاشقك متخير .................. كان قلبى زمانه اتغير ................. وحياتك لفضل أغير فيكي لحد ما ترضى عليّ
وتبدو في الأغنية نبرة الأسى والعتاب تجاه وطن يلفظ أبناءه ويتنكر لهم ويحني رؤسهم قهرا وذلا, ويبدو نوع من جرح الانتماء إذ يشعر أبناء الوطن بالجفاء والقسوة والجحود من رموز الوطن ولا يجدون مخرجا من الاستمرار في حب الوطن ومحاولة تغييره .
وقبل ذلك كتب هشام الجخ في قصيدته الشهيرة "جحا" يقول:
شعور سخيف .......... إنك تحس بإن وطنك شيء ضعيف............. صوتك ضعيف ............... رأيك ضعيف ............ إنك تبيع قلبك وجسمك......... وإنك تبيع قلمك وإسمك ............ ما يجيبوش حق الرغيف ........ ......... وشعور سخيف... إنك تكون رمز الشحاتة...... تبني مبنى للشحاتة ....... تعمل وزراة للشحاتة ...........
أنا اللي صاحب البيت عايش بدون لازمة ولما مرة شكيت إدوني بالجزمة ..........
مش لاقي تطفح اديك ......... هاتولنا وجبولنا وادونا ودولنا ........ هنجيب منين نديك؟
طافح يابلدي غدايا.......... ولوعتي غدايا ...........
أنا اللى زارعك دهب بتأكلينى سباخ ......... إن كان ده تقل ودلع بزيادة دلعك باخ
لا شفت فيكى هنا ولا شفت فيكى ترف ..... كل اللى فيكى قرف
كرامتنا متهانة............... واللقمة بإهانة................ بتخلفينا ليه لما انتي كارهانا
ده انا كل شبر في أرضك اتمرمغت فيه ............. وكل يوم عشتيه أنا اتعذبت بيه
بتكرهينى عيونك السودة وأيامى اللى فاتت .... مانتيش حبيبيتي من النهارده ........... حبيبتي ماتت
كل اللي بيقولك بحبك دول نفاق ............ أنا لما قلت لك بحبك كان نفاق
الحب يعني اتين بيدوا ...... مش ايد بتبني وستميت تيت تيت يهدو
الحب حالة .. الحب مش شعر وقوالة .... الحب يعنى براح فى قلب العاشقين للمعشوقين
يعنى الغلابة يناموا فى الليل دفيانين ..............
الحب يعنى جواب لكل المسجونين هما ليه بقوا مسجونين
يعني أعيش علشان هدف علشان رسالة ........
يعني احس بقيمتي فيكي .... إني مش عايش عوالة............
يعني لما اعرق تكافئينى بعدالة .... الحب حالة ..الحب مش شعر وقوالة ....
الحب حاجة ما تتوجدش في وسط ناس بتجيب غداها من صناديق الزبالة
وكتب الدكتور أحمد عكاشة في كتابه "ثقوب في الضمير" يصف الانهيار القيمي الذي أصاب الضمير العام في مصر, كما كتب الدكتور جلال أمين كتابا مهما تحت عنوان "ماذا حدث للمصريين" يصف فيه التحولات السلبية التي طرأت على سلوك المصريين, وكتب أيضا "مصر والمصريون في عصر مبارك" يصف فيه حالة الفساد والتآمر الذي وصل إليه نظام مبارك وتأثير ذلك على أحوال المصريين, كما وضع كاتب هذه السطور كتابا بعنوان "الشخصية المصرية" وفيه وصف لسلوكيات الفهلوة والعشوائية والسلبية والخضوع والخوف والتسيب واللامبالاة وأخلاق العبيد وغيرها من السلبيات التي تفشت بين المصريين في العقود الأخيرة.
إذن فقد كانت صورة الذات كما تعكسها آراء الكتّاب والشعراء وكما تتضح في السلوكيات اليومية صورة سلبية للغاية وصلت إلى درجة أن كره المصريون أنفسهم وكرهوا بعضهم البعض وتفشت حالة من ضعف الثقة وعدم تقدير الذات وضعف الثقة بين الناس, وتراجع مشاعر الحب, وتفشي الأنانية والذاتية والانتهازية, وتزايد معدلات العنف المجتمعي بشكل غير مسبوق، وبناءا على هذه الصورة السلبية للذات كنا نرى حالة من اللامبالاة والسلبية والضعف والتراخي والخضوع والاستسلام في الشخصية المصرية قبل الثورة حتى لقد يئس البعض من احتمالات التغيير...... أما بعد 25 يناير فقد اختلفت صورة الذات بشكل واضح ونلمح ذلك في كثير من الكتابات نختار منها كلمات من قصيدة الميدان التي كتبها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي أثناء الثورة وقبل تنحي مبارك وسقوط نظامه:
أيادي مصرية سمرا ليها في التمييز .................... ممددة وسط الزئير بتكسر البراويز
سطوع لصوت الجموع شوف مصر تحت الشمس .......... آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز
عواجيز شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكل............. ويشبهوا بعضهم نهم وخسة وشكل
طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع ........ وحققوا المعجزة صحوا القتيل من القتل
اقتلني قتلي ما هيعيد دولتك تاني............. بكتب بدمى حياة تانية لأوطاني
دمي ده ولا الربيع الاتنين بلون أخضر............وببتسم من سعادتي ولا أحزاني
................
لكن خلاص يا وطن
صحيت جموع الخلق قبضوا على الشمس بأيديهم
وقالوا لا من المستحيل يفرطوا عقد الوطن تاني
والكدب تاني محال يلبس قناع الحق........ بكل حب الحياة خوط في دم اخوك
قول أنت مين للي باعوا حلمنا وباعوك وأهانوك
وذلوك ولعبوا قمار بأحلامك.............. نيران هتافك تحرر صحبك الممسوك
يرجعلها صوتها مصر تعود ملامحها.............. تاخد مكانها القديم
………………….
صباح حقيقي ودرس جديد أوي في الرفض ............... أتارى للشمس صوت وأتاري للأرض نبض
تانى معاكم رجعنا نحب كلمة مصر................. تانى معاكم رجعنا نحب ضحكة بعض
...................
مش دول شاببنا اللي قالوا كرهوا أوطانهم............ ولبسنا توب الحداد وبعدنا أوي عنهم
هما اللي قاموا النهارده يشعلوا الثورة.............. ويصنفوا الخلق مين عنهم ومين خانهم
....................
لا الظلم هين يا ناس ولا الشباب قاصر............ مهما حاصرتوا الميدان عمروا ما يتحاصر
فكرتني يا الميدان بزمان وسحر زمان............... فكرتني بأغلى أيام في زمن ناصر
........................
أتاريك جميل يا وطن مازلت وهتبقى............... زال الضباب وانفجرت بأعلى صوت
لا حركتنا نبتسم ودفعت أنت الحساب............. وبنبتسم بس بسمة طالعة بمشقة
فينك يا صبح الكرامة لما البشر هانوا................ وأهل مصر الأصيلة اتخانوا واتهانوا
بنشتري العزة تاني والتمن غالي.............. فتح الوطن للجميع قلبوا وأحضانوا
الثورة فيض الأمل وغنوة الثوار.............. الليل إذا خانه لونه يتقلب لنهار
ضج الضجيج بالندا اصحى يا فجر الناس.......... فينك يا صوت الغلابة وضحكة الانفار
وتبدو بوضوح في الأبيات عودة للروح المصرية الأصيلة وللذات المصرية النقية التي كانت قد ضعفت وشحبت وتلوثت بفعل مبارك ونظامه على مدى ثلاثين عاما, وهاهي تعود نقية عفية خالصة نقية, تنفض عنها غبار السنين وطبقات القهر والذل والفساد والعفن, وتستقبل صبحا جديدا, وتصنع واقعا جديدا تميزه روح شابّة وثابة انتصرت على دولة العواجيز المتحجرة المتحللة القميئة العفنة .
وننتقل من جمال الشعر إلى واقعية وموضوعية العلم ومن خلالها نستطيع رصد التغيرات التالية في صورة الذات المصرية بعد الثورة ونرجو من المتخصصين في العلوم النفسية والإجتماعية عمل دراسات محكمة وموسعة حول هذا الموضوع الهام :
• شعر المصريون أنهم أصحاب حقوق في هذا الوطن وأنهم سادة وليسوا عبيدا , وأنهم مواطنين وليسوا رعايا
• علا صوتهم للمطالبة بالحرية وسائر حقهم في الحياة الكريمة ( وربما كان يعلو الصوت أكثر من اللازم في بعض الإحتجاجات الفئوية )
• لم تعد تخدعهم كلمات معسولة ووعود براقة كتلك التي لوّح بها أحمد شفيق إبان رئاسته للوزارة وخرجوا إلى الميدان يطالبون بإقالته ويصممون على ذلك لأنهم أدركوا بوعيهم عدم إخلاصه للثورة فقد جاء به مبارك وهو على صلة وثيقة برموز ومصالح النظام البائد (وقد تأكد ذلك في الأحداث التي تلت إسقاط حكومة شفيق)
• لم يعد لديهم ذلك الخوف من رجال الأمن, بل لقد كانت تحدث تجاوزات تجاه رجال الأمن بعد الثورة مما جعلهم يخافون هم من الناس ( وهذا مخالف تماما لما كان معهودا لدى المصريين من الخوف من الشرطة والسلطة عموما )
• أصبحوا أكثر تصميما على مطالبهم وكان سقف المطالب في تصاعد مستمر , وارتفع سقف طموحهم لأعلى مستوى (على الرغم مما كان معروفا عنهم قبل ذلك من أنهم يرضون بالقليل)
• أصروا على محاكمة الرئيس وأسرته وعصابته ورموز حزبه وضغطوا على الحكومة حتى تحقق ذلك (وكان ذلك مخالفا لما عهد عن المصريين من نسيانهم السريع للإساءة وقدرتهم على التسامح مهما كان الجرم)
• ساهموا بفاعلية غير معهودة وبأعداد هائلة في الإستفتاء على الدستور (وكان هذا مخالفا لما اعتدناه من عزوفهم عن التصويت ويأسهم من الانتخابات والاستفتاءات )
• أصبحوا يعترضون على أي شئ لا يعجبهم وبصوت مرتفع ويؤكدون حقهم في ذلك الاعتراض
• تجرأوا على القيادات الوظيفية ولم تعد ترهبهم المناصب العليا
• أصبحوا أكثر حرصا على تطبيق القانون وأكثر رفضا للرشوة
• لم يعودوا يقبلون أن يستغلهم أحد, ولم يعودوا قابلين للإيحاء أو الاستهواء أو الاستلاب (إلا في حدود ضيقة وفي فئات بعينها تنقصها مهارات العقل النقدي)
• لا يقبلون أن يتخطاهم أحد في الطابور
• أصبحوا أكثر إيجابية في نقد الأخطاء مهما كان مصدرها و وبالتالي أصبحوا أكثر قدرة على محاربة الظلم والفساد
• ازداد الفخر بالإنتماء المصري وأصبح شعارا في كثير من المناسبات "ارفع رأسك أنت مصري"
• ازدادت الثقة بالنفس وبالقدرة على التطور وملاحقة إيقاع العصر
• الشعور بالقدرة على العمل والإبتكار وتغيير نمط الحياة في المجتمع
• زيادة الرغبة في الإنجاز (على الرغم من أن ذلك لم يتحول إلى فعل حقيقي حتى الآن في مجالات كثيرة تستدعي الإنجاز)
• تراجع مشاعر الأنانية والفردية والإنتهازية مع تنامي الشعور بروح الجماعة والإهتمام بالشأن العام والمصالح العليا للوطن
• زيادة الوعي بالأهداف الشخصية والعامة
• عودة الحلم داخل حدود الوطن (خاصة للشباب الذي كان أهم أحلامه قبل الثورة أن يغادر أرض الوطن ليحقق أحلامه في أي مكان)
• عودة النشاط الإبداعي والرغبة في التجديد
• زيادة الشعور بالرضا
• زيادة الشعور بالسيطرة والتحكم فيما يجري من أمور
• تحسن حالة الثقة بالنفس
• الرغبة في التخطيط للمستقبل والمشاركة في صنعه
• اليقظة التامة لمحاولات سرقة الثورة أو الالتفاف عليها أو تحويلها عن مسارها (يتبدى هذا في المليونيات المتتالية في ميدان التحرير بعد سقوط النظام وكل منها تجدد مطالب الثورة وتؤكد للجميع بقاء اللياقة الثورية والقدرة على الحشد لدى الثوار)
• الشعور بأن الشعب أصبح أقوى من الحكومة ومن النظام (على الرغم من أن الشعب لم يتقلد الحكم بعد وإنما يحكم بالوكالة)
• الشعور بالمسئولية تجاه ما يحدث من تغيرات
• الشعور بالطمأنينة على الأبناء والأحفاد على اعتبار أن المستقبل سيكون أفضل
• الشعور بأن الإنتخابات القادمة ستكون حرة ونزيهة وستعكس إرادة المواطنين
• وجود مسحة عامة من التفاؤل (حتى ولو كان مشوبا ببعض الحذر والمخاوف)
• شعور إيجابي بالإنتصار على دولة الفساد التي استحكمت لمدة ثلاثين عاما
• شعور بالفخر الوطني خاصة مع التقدير الإيجابي للثورة المصرية من الكتّاب والمفكرين والزعماء والقادة على مستوى العالم
• الفرحة بالعودة إلى الريادة العربية والإسلامية التي افتقدتها مصر في عصر مبارك
• التفاؤل بتحسن الأحوال المعيشية في المستقبل (على الرغم من الصعوبات والمشكلات الحياتية الحالية)
• الاعتقاد بأن التقدم في الدراسة والعمل والمناصب سيكون مرهونا بالجهد والكفاءة وليس بالوساطة أو الرشوة أو المحسوبية
• الشعور بعودة الكرامة الوطنية واستقلال القرار السياسي بعيدا عن الغطرسة الإسرائيلية والأمريكية
وقد نرى تضخما للذات لدى بعض الأفراد والطوائف والمجموعات بعد الثورة وينتج عن ذلك ارتفاع نبرة المطالبات والاحتجاجات والاعتراضات أكثر من اللازم والذي كان يصل في بعض الأحيان إلى حالة من "التوحش الشعبي" يهدد الاستقرار في بعض الأحيات ويفتئت على السلطة القائمة, ولكن هذه الأشياء تعتبر أعراض جانبية للثورة يمكن تجاوزها مع الوقت طالما ظل التيار الشعبي العام في حالة من التوازن والإيجابية .
ويبقى في النهاية إدراك أهمية الوعي بهذا التغير في صورة الذات وتأثيره على الانتماء وإمكانية تحويل ذلك كله إلى طاقة تجد مسارات ومنظومات وطنية مناسبة لكي نحقق أهداف الثورة وتتحقق معها أهدافنا في التحرر والانطلاق إلى آفاق المستقبل الذي نتمناه لأنفسنا ولأبنائنا وأحفادنا .
واقرأ أيضًأ:
النظارة الشمسية السوداء / تحالف الميدان والبرلمان... الأمل المتبقي للثورة / عيد ميلاد الشعب المصري / مجلس الشعب بدون سلطة أبوية / الانشقاق العاطفي للإخوان / حكاوي القهاوي