كتب (توماس فريدمان) بصحيفة نيويورك تايمز يوم 17 من سبتمبر/أيلول الجاري: "لم أقلق قط على مستقبل (إسرائيل) مثلما أنا قلق عليه اليوم. فانهيار الدعائم الأساسية لأمن (إسرائيل) ـ السلام مع مصر، والاستقرار في سوريا، والصداقة مع تركيا والأردن ـ مع وجود حكومة هي أقل الحكومات حِنكة دبلوماسية وخبرة استراتيجية في تاريخ (إسرائيل)، قد وضعا (إسرائيل) في وضعية خطيرة للغاية".
وليس من ريب أن هذا تقييم دقيق للميزان الإستراتيجي المتبدل في المنطقة، بقلم رجل غير متهم في محبة (إسرائيل)، بل هو يُفاخر ـ في كتابه "من بيروت إلى القدس" ـ بأنه "عاشق (لإسرائيل) رغم مساوئها".
بيد أن الذين يسعون إلى الحصول على اعتراف من الأمم المتحدة بدولة فلسطين اليوم لا يبدو أنهم مدركون لهذا التبدل في الميزان الاستراتيجي لصالح قضية فلسطين! فرغم حُسن النيات وراء المبادرة الفلسطينية والعربية للحصول على هذا الاعتراف، فإن المبادرة تبدو لي في الزمان الخطأ تماماً، وهي تخدم بقاء الدولة الصهيونية أكثر مما تخدم القضية الفلسطينية التي أصبح الوقت في صالحها لأول مرة منذ نكبة 1948. فقد تكشف الربيع العربي عن تحوير للمحيط الاستراتيجي تحويراً عميقاً لصالح الفلسطينيين. وما على الفلسطينيين اليوم سوى الصبر بضع سنين أخرى ـ ستكون أخف وطأة من سابقاتها ـ لكي يرتفع عنهم الظلم التاريخي الذي حاق بهم.
إن بقاء (إسـرائيل) بتركيبتها الاسـتعماريـة الشـوفينيـة الحاليـة ارتكز على ركيزتين: الدعم الأمريكي الأعمى، وتواطؤ القادة المسـتبدين في الجوار العربي والإسـلامي، أو عدم فاعليتهم. بيد أن الربيع العربي قد وضع هذه المعادلة على أبواب التغيير الحتمي..!! فثمن (إسـرائيل) يتراكم يومياً على الكاهل الأمريكي، وسـيصل قريباً إلى مسـتوى لا يسـتطيع الأمريكيون أن ينوؤوا بـه. والمحيط الإقليمي قد بدأ تحولاً عميقاً يخدم القضية الفلسطينية ويسحب البساط من تحت العنجهية الإسرائيلية.
لقد فقدت (إسـرائيل) خلال الشـهور الماضيـة أهم ركائز دعمها الإقليمي. فقد طردت القيادةُ التركيـة السـفير الإسـرائيلي من أرضها بعد أن كانت تركيا أهم حليف اسـتراتيجي للدولـة اليهوديـة طيلـة نصف قرن، وطرد الشـعبُ المصري السـفيرَ الإسـرائيلي من أرضـه بعد ثلاثـة عقود من إخضاع مصر للأهواء الإسـرائيليـة، وهرب السـفير الإسـرائيلي من الأردن صاغراً وقد كان يصول في عمَّان صولـة الملوك...!!!
وحينما ينظر المؤرخون بأثر رجعي إلى هذه الأعوام بعد عقدين من الآن ـ حينما لا يكون في العالم دولة اسمها (إسرائيل) ـ فسيجدون أن الجشع الصهيوني الذي لا حدود له، والدعم الأمريكي الأعمى الذي لا رادع له، هما السببان في هلاك مشروع الدولة الصهيونية غير المأسوف عليها، وفي إنقاذ فلسطين من الضياع الأبدي. وكأني بأحد أولئك المؤرخين وقد كتب في حدود عام 2030 يقول: "لقد رفض المسـتعمرون اليهود بكل جشـع تقاسـم الأرض مع أهل الأرض حينما كان ذلك ممكناً، كما فعل إخوانهم في العنصريـة بجنوب أفريقيا، واسـتمرؤوا الظلم الفادح في وضح النهار، وأعانهم على ذلك ظهير دولي غربي أعماه الميراث الاسـتعماري والتحيّز ضد العرب، والحقد على الإسـلام. ثم جاء الربيع العربي مع مطلع عام 2011 فقلب المعادلات وبدَّل الموازين، فرفض الفلسـطينيون بعد ذلك تقاسـم الأرض أو قبول الذل، وكانت تلك نهايـة دولـة (إسـرائيل)". (انتهى الاستشهاد).
الحلول المتصورة للقضية الفلسطينية
إن الحلول المتصورة للقضية الفلسطينية تنحصر اليوم في خيارات أربعة:
أولها: خيار التقسيم الجغرافي لفلسطين، وهو حيف في حق الفلسطينيين والعرب، حيث سيحصلون على مناطق جرداء أو مكتظة تستحيل الحياة الكريمة فيها، وتحرمهم من مقدساتهم وآثارهم التاريخية، وتحرم ملايين اللاجئين منهم حق العودة إلى أرضهم. فغاية ما سيؤدي إليه هذا التقسيم هو بلدية فلسطينية (تتسمى باسم دولة) منزوعة السلاح، تدور في الفلك الصهيوني وتعيش في ظلال بطشه. فليس التقسيم الجغرافي لفلسطين خياراً مناسباً على الإطلاق.
ثانيها: خيار المصادمة، من خلال حرب عسكرية نظامية شاملة، وهذا غير ممكن في ظل اختلال ميزان القوة العسكرية، وامتلاك الدولة الصهيونية ترسانة نووية. فثمن هزيمة (إسرائيل) هزيمةً ماحقة ـ على افتراض إمكانه عملياً ـ سيؤدي إلى نشوب حرب نووية، وهو ما سيجعل ثمن تحرير فلسطين أكبر مما يمكن القبول به. فلا أحد يريد تحرير القدس أو حيفا بتدمير القاهرة أو دمشق أو طهران أو إستانبول.
ثالثها: خيار الاستنزاف من خلال حركة مقاومة شعبية صبورة، وهذا كان ممكناً في الماضي لمّا كانت روح حركات التحرر في عنفوانها منتصف القرن العشرين، وكانت الحاضنة الإقليمية والدولية مواتية. لكن تواطؤ بعض الحكام، وضعف آخرين، حال دون نجاح هذا الخيار في حينه. ولا يزال هذا الخيار مفيداً إذا جاء ضمن استراتيجية رحبة تشمل عناصر أخرى. فحروب الاسـتنزاف هي سـلاح الضعيف عسـكرياً، ووسـيلتـه في إضعاف ثقـة القوي بنفسـه وإزعاجـه حتى يقبل التنازل.
رابعها: خيار الامتصاص، والمقصود به امتصاص اليهود الراغبين في العيش في فلسطين ضمن دولة واحدة يتمتع فيها العرب واليهود بحقوق المواطنة المتساوية، ويرجع إليها كافة الفلسطينيين المشردين في أرجاء الدنيا معزَّزين مكرَّمين. وهذا هو الخيار الإستراتيجي الذي ينبغي التركيز عليه، وعدم القبول بغيره في اعتقادي. فهذا الحل ـ الذي يُشبه ما تم اعتماده لتفكيك دولة العنصرية في جنوب أفريقيا ـ سيكون أفضل الحلول على المدى البعيد، وأقربها إلى تحقيق المصلحة الفلسطينية، وأخفها ثمناً من الدماء.
أهم ميزات خيار الامتصاص
ولعل أهم ميزات حل الامتصاص هذا، هو الآتي:
أولاً: أنه يضمن للفلسطينيين العودة إلى أي مكان من فلسطين التاريخية، وإحياء رابطتهم بأرضهم التي ولدوا عليها أو ولد عليها آباؤهم. وهذا حل جذري لمشكلة ملايين اللاجئين الفلسطينيين.
ثانياً: أنه سيقلب المعادلة الديموغرافية لصالح الفلسطينيين، وهو ما سيجعل الوجود البشري الصهيوني غير ذي خطر، بل سيضعه على طريق الاندماج في الثقافة العربية الإسلامية، كما اندمج فيها اليهود في سالف الأيام.
ثالثاً: أنه يجرِّد الصهاينة من قوتهم العسكرية المسلطة على رقاب أمتنا منذ ستين عاماً بكل عنجهية وابتزاز. وهذه مصلحة تتجاوز حدود فلسطين إلى الأمة العربية والإسلامية برمتها.
رابعاً: أنه سيُفجّر هجرة يهودية معاكسة من فلسطين. فالعديد من الإسرائيليين الذين يحمل العديد منهم جنسية مزدوجة سيُفضلون الهجرة إلى الغرب. وفي ذلك فرز مفيد بين اليهودي ذي الجذور الشرقية والآخر الآتي من وراء البحار.
قد يقول قائل: هذه مجرد أحلام شاعر، لن يرضى بها الإسرائيليون ولا ظهيرهم الدولي. وهي أحلام حقاً، لكنها أحلام تتأسس على قراءة واقعية للتحولات الاجتماعية والسياسية في المنطقة. لقد خلع الشباب العربي ربقة الخنوع، وأمسك الشعب العربي زمام أمره بيده، ولا تستطيع قوة أن تقف في وجه التحول التاريخي الذي ندعوه اليوم باسم الربيع العربي، وهو تحول سيُغير المنطق الاستراتيجي برمته في المنطقة. فالاستبداد كان أهم رأسمال ضامن لبقاء الدولة الصهيونية وأكبر ضامن للنفوذ الغربي، لكنه اليوم يتهاوى أمام شجاعة الشباب العربي الثائر.
أما قبول الصهاينة وظهيرهم الدولي بهذا الحل فهو لن يكون عن طيب خاطر بطبيعة الحال، ومتى تحررت الشـعوب بمنّـة من مسـتعمريها!؟ وإنما سيكون قبولهم بذلك خوفاً من خسارة أكبر، بعد تحرر الشعوب العربية وأخذها بزمام أمرها. فلن تكون علاقات الغرب ـ خصوصاً الولايات المتحدة ـ بالشعوب العربية مستقبلاً علاقة تبعية من خلال حاكم مستبد وسيط يُمثل الأمريكيين لدى شعبه، بدلاً من العكس المفترض، وإنما ستكون علاقات ندية مع شعوب عزيزة مستقلة القرار. ويومها سيرتفع ثمن (إسرائيل) إلى حد يُرغم الأمريكيين على الاختيار بين أمريكا و(إسرائيل).
لقد صبر الشعب الفلسطيني ستة عقود من الاحتلال والتشرد، ولم يبقَ أمامه سوى بضعة أعوام من المصابرة والمنازلة مع دويلة تتآكل قاعدة وجودها يوماً بعد يوم. وستكون الشعوب العربية والإسلامية مع هذا الشعب الأبيّ في معركته الفاصلة. وقد انتهى الزمن الذي كان فيه قائد أكبر دولة عربية مجرد "شاويش" لدى (إسرائيل)، وكان فيه أكبر رافع لشعار المقاومة والممانعة مجرد حامٍ لحدود (إسرائيل). وبدأت الدولة الصهيونية تواجه الشعوب العربية وجهاً لوجه في وضح النهار.
تحرير الشعوب وتحرير فلسطين
إن تحرير فلسطين ما كان ليتم دون تحرر الشعوب العربية التي ظلّت ترسف في الأغلال مدة مديدة. وليس من ريب أن الشعوب التي انتفضت في تونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء ودمشق ـوهي اليوم تتحفز في حواضر عربية أخرى...ـ قد شقت طريقاً رحباً إلى القدس.
ويبقى التساؤل الكبير: هل من العدل المساواة بين صاحب الأرض ومن جاءها مستعمراً صائلاً؟ وكيف يرضى الفلسطينيون بمنح حقوق المواطنة على أرضهم لمن ذبحوهم وشردوهم في أرجاء الدنيا؟ لست أدعي أن حل الدولة الواحدة حل عادل، فهو لن يُحقق العدل بطبيعة الحال، لكني أزعم أنه حل استراتيجي حكيم، يرفع بعض الظلم بأقل ثمن ممكن، ويفتح الباب لاندمال جرح تاريخي يضغط على الضمير العربي والمسلم منذ قرن من الزمان.
فالتقاسم الديموغرافي لفلسطين خير من التقسيم الجغرافي لها، والميزان الديموغرافي يميل لصالح الفلسطينيين والعرب في الأمد البعيد. أما حل الدولتين الذي يتوسل العربُ العالمَ في سبيله اليوم فهو إنقاذ لمستقبل (إسرائيل) من العاصفة التي تتجمع في الأفق، وتوشك أن تضرب الوهم الصهيوني في صميم وجوده. فلا تنقذوا مستقبل (إسرائيل) أيها السادة، ودعوها سادرة في غيها حتى تحين لحظة المفاصلة.
واقرأ أيضاً:
ما أقوى حلفاء إسرائيل!/ الدم الفلسطيني المنسي/ رائحة العداء للفلسطينيين!!!/ جمهورية اليهود/ فوراً والآن... سحب القضية من أمريكا