أعادني خبر قرأته في صحيفتي (هارتس) و(يديعوت أحرونوت)، ولم يتمكن إعلامنا الفلسطيني من تسليط الضوء على ما جاء في الخبر للأسف الشديد، لانشغالنا (بالشعارات السياسية الفاقعة والفارغة والخاوية!!)، الخبر يتعلق بأن البرلمان الفرنسي أوفد مبعوثاً ليتقصى الحقائق في الضفة الغربية، وكان الوفد برئاسة رئيس لجنة الخارجية (جين كالفاني) وكان وزيراً للزراعة في حكومة (فرانسو ميتران).
قام عضو البرلمان الفرنسـي بعمل دراسـة غير مسـبوقـة خلصت إلى أن (إسـرائيل) تسـتخدم سـلاح المياه لتعزيز نظام الفصل العنصري ضد الفلسـطينيين، كما فعلت جنوب أفريقيا؛ فهي تُجبر الفلسـطينيين على البحث عن مياه الينابيع غير الصحيـة، وتسـتأثر بمخزون المياه الجوفيـة، حتى أنه قال إن (إسـرائيل) ترى أن مياه الضفـة الغربيـة أشـد خطراً عليها من صواريخ (الكاتيوشـا)... وأشـار عضو البرلمان إلى أن جدار الفصل، أقامته (إسـرائيل) لتعزيز (الأبارتهايد) المائي!!
لم ينتهِ الخبر عند ذلك، فقد انتهى الخبر عندنا نحن فقط، أما في (إسرائيل) فقد أشعل معد التقرير الضوء الأحمر، فنددت وزارة الخارجية بمعد التقرير، وفتح الإعلام الإسرائيلي ملفه:
((فجين كلافاني، نسخة من القنصل الفرنسي في سوريا عام 1840 الذي أعدم اليهود بتهمة قتل قس مسيحي، لاستخدام دمه في خبز البيسح، إذن فجين كلافاني متهم بأنه ليس لا سامياً فقط، بل إنه متهم بتلطيخ وجه إسرائيل بفرية الدم)) من مقال للكاتب الإسرائيلي (جوليو موتي) في صحيفة يديعوت أحرونوت 20/01/2012.
ولأجل هذه الهجمة أعلن أعضاء لجنه البرلماني الفرنسي (جين كلافاني) براءتهم من معدِّ التقرير، وأنا أعتقد بأن التقرير سوف يُسحب عاجلاً أم آجلاً من ملفات البرلمان الفرنسي!! وللعلم فإن (إسـرائيل) من الدول القليلـة في المنطقـة التي اسـتطاعت أن تُنجز مسـحاً شـاملاً للمياه في المنطقـة العربيـة المحيطـة بها، ويمكن القول بأنها هي الدولـة الوحيدة في المنطقـة التي تعرف المخزونات المائيـة في لبنان وسـوريا وفلسـطين والأردن ومصر، وقليلون يعرفون بأن (إسـرائيل) أسـسـت كل مسـتوطنات قطاع غزة بعد حرب عام 1967 فوق البحيرة المائيـة النقيـة الضخمـة في رمال خان يونـس وبيت لاهيا، وأن كل المسـتوطنات التي بُنيت هناك كانت مسـتوطنات مائيـة (تكتيكيـة) وهي المسـتوطنات الإسـرائيليـة الوحيدة التي كانت تُمنح للمسـتوطنين بأسـعار رمزيـة لا للإقامـة، بل لتكون "مظلات" واقيـة لهذا المخزون المائي الجوفي...!!!
وقليلون يعرفون أيضاً بأن أكثر من نصف سكان (إسرائيل) كانوا يشربون ماء هذه البحيرة التي كانت تُضخ عبر الشبكة المركزية الإسرائيلية، وكان التحكم في تلك الآبار يتم إلكترونيا من مقر الشركة في تل أبيب، وأشارت إحصاءات عام 2004 بأن استهلاك الفرد الإسرائيلي اليومي يصل إلى أربعمائة وسبعين لتراً، في حين يصل استهلال الفرد الفلسطيني إلى أقل من أربعين لتراً من المياه الأخرى غير الصالحة للشرب.
ولسـتُ مقتنعاً بأن (إسـرائيل) حين تركت هذا المكان، قد تخلت عن هذا المخزون المائي الهائل، وليـس غريباً أنها تمكنت من تأسـيـس نظام تحت الأرض لامتصاص هذا المخزون اعتماداً على جهلنا بالأمر، وعدم قدرتنا على رصده ومتابعتـه، بالنظر إلى الخبرات الإسـرائيليـة الهائلـة في هذا المجال.
كانت (إسرائيل) قبل خروجها من المستوطنات عام 2005 تضع شروطاً قاسية على حفر الآبار الإرتوازية، لا لهدف المحافظة على المخزون المائي في غزة، بل للمحافظة على النظام البيئي المائي في المنطقة كلها، لأن من يدرس المخزونات المائية يعرف بأنها لا تنتمي إلى حدود دولة من الدولة ولا تعترف إلا بنظامها المائي فقط.
وما أن خرجت (إسرائيل) من غزة حتى شرع كل بيت وكل عمارة سكنية وكل صاحب مزرعة صغيرة في حفر بئره الجوفي الخاص به، بحيث صارت مياه قطاع غزة اليوم تُماثل تماماً مياه بحر غزة في ملوحتها بعد اسـتنزافها، أما عن التلوث فحدث ولا حرج لأن غزة تعيش فوق مجاريها، وتنام فوق فضلاتها، وتسير على بقاياها، وهذا بالطبع جعل البحر شاطئاً من شواطئ المجاري، ووصل التلوث إلى المخزون المائي الجوفي كذلك.
إن الشـعارات السـياسـيـة، والدعايات الحزبيـة والخطابات البلاغيـة لا يُمكنها في الألفيـة الثالثـة أن تسـقي مائـة ألف طفل مياهاً عذبـة نقيـة، ولا يمكنها أن تؤسـس إلا لدولـة العطـش!
لقد أدرك عالم الفضاء والجغرافيا د. فاروق الباز ذلك، وأدرك بأن الجهل والتخلف والمرض في جنوب السودان ناتج من نواتج المياه، والعكس صحيح أيضاً لأن المياه مسؤولة عن التأسيس الثقافي والعلمي في أي بلد من البلدان، وأدرك بحاسته الفائقة خطورة النقص المائي لأن المياه هي المسؤولة عن الحروب، وهي التي ستصوغ خريطة العالم بعد الاقتتال المقبل على المياه. ولا يمكن لعاقل أن يُصدق بأن السودان تُعاني من ضائقة مائية، على الرغم من أن النيل يمر في شرايينها ويتغلغل في جوفها.
أليـس جديراً بنا أن نقوم بإعادة النظر في أولويات النضال الفلسـطيني، وأن نتوافق على أن إبراز عنصريـة الاحتلال؛ ليسـت فقط بإبراز قصف مدننا وقرانا، وقتل أبنائنا فقط، بل في قتل الحياة في حياتنا نفسـها، فيجب أن نضع استراتيجية نضاليـة جديدة، تُركز على جرائم الاحتلال في حق المياه والبيئـة، وأن نُبرز للعالم بأن حصارنا لا يعني منعنا من السـفر فقط، بل يمنعنا من التنفـس هواءً نقياً، فالجدار مثلاً أصبح ثانوياً بالنسـبـة لنا، ولم تعد لنا رغبـة في الحديث عن مصائبـه وكوارثـه، مع العلم بأن الإسـرائيليين يواصلون بناءه، أما نحن فنواصل تجاهل أضراره!!
واقرأ أيضاً:
أزمة المياه في غزة