يقول المنهزمون نفسياً إن كل ما يشهده الوطن العربي مخططات أمريكية، وإن أمريكا هي التي تصير الأحداث فتؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وإن أمريكا قد أحاطت بكل شيء علماً، فلا يعزب عنها مثقال ذرة في الأرض، وما من غائبة إلا تعلمها أمريكا، وإليها يرجع الأمر كله، ولا يكون إلا ما تريد، فكل ما أرادته فهو كائن، وكل ما هو كائن فقد أرادته "سبحانه وتعالى عما يشركون".. فإذا سألتهم ما هي مصلحة أمريكا في التخلص من أنظمة موالية لها وترك زمام الأمور في يد الشعوب وما قد ينجم عن ذلك من انتخابات تأتي بأنظمة معادية لأمريكا..تلعثموا في الإجابة..فمنهم من أجاب إجابةً تبدو منطقيةً في ظاهرها، ومنهم من قال: لا ندري..المهم أنها مؤامرة أمريكية..
فرضية المؤامرة التي يعتمدها هؤلاء لا تستند بالضرورة إلى الأدلة والشواهد المنطقية، فهناك حكم مسبق قد استقر في دائرة لا شعورهم أن كل ما يحدث في وطننا تقف وراءه أيد خارجية، وهذا الحكم اللا شعوري هو الذي يوجه تفكيرهم، فلا يرون الأمور إلا من خلال منظار قاتم..
التحليل السيكولوجي لأصحاب هذه النظرية هو أن طول أمدهم بالهزيمة قد شوش صفاء تفكيرهم حتى صاروا عاجزين عن تخيل أي نصر أو نجاح، فإذا حدث أن انتصرت الأمة في موطن من المواطن صرفوا هذا النصر عن ظاهره واجتهدوا في تأويله والتنقيب في خفاياه حتى يظهروا الجانب السلبي له، وهم حين يفعلون ذلك يظنون أنهم قد أوتوا من الذكاء ما لم يؤتَه الآخرون، وأنهم قد تفطنوا إلى حقائق الأمور بينما غيرهم سذج أغرار قد انساقوا وراء العاطفة ولم ينفذوا من ظاهر الأحداث إلى باطنها..فإذا رأوك فرحاً بسقوط أحد أنظمة الاستبداد عكروا عليك فرحتك قائلين: لا تفرح فإن ثمة مؤامرةً..وإن كل ما يحدث هو مخطط محكم منذ عشرات السنين حاكته أمريكا والصهيونية والماسونية والامبريالية العالمية..
يصل الهوس بأصحاب نظرية المؤامرة إلى درجة جنونية لا يستقيم معها عقل، فيخرجون أمريكا من دائرة البشرية إلى دائرة الألوهية ويصورونها كما لو أنها تملك أن تتحكم في كوامن الصدور، فأمريكا هي التي أخرجت الثمانية مليون مصري من بيوتهم إلى الشوارع ليهتفوا بسقوط مبارك، وأمريكا هي التي أنجحت الإسلاميين في انتخابات تونس ومصر، وكأن أمريكا تملك قوةً خارقةً تمكنها من أن تنفذ إلى قلوب صفوف الناخبين وتوحي إليهم بأسماء القوائم التي صوتوا لها..
لقد كبلت الهزيمة النفسية هذا الفريق حتى أقعدتهم عن بذل أي جهد للانعتاق من الأغلال التي في أعناقهم، وأفقدتهم الثقة بأنفسهم وبشعوبهم وأمتهم فصاروا يعبدون أمريكا من دون الله وسلموا أمرهم كله إليها، وقعدوا عن بذل أي جهد نحو التغيير والإصلاح لقناعتهم بأنه لا يمكن مواجهة أمريكا والتغلب عليها..
هذه الثقافة الانهزامية هي التي تصنع الهزيمة، فقوة أمريكا هي في نظرتنا إليها قبل أن تكون فيما تمتلكه من سلاح وعتاد، وضعفنا ناتج عن ضعف ثقتنا بأنفسنا، وليس عن ضعف ما نمتلكه من طاقات كامنة، وهذا الفريق قد حبس نفسه في صندوق من الأفكار السلبية السوداء لا يتجاوزه فهو لا يرى في الحياة من حوله أي فرصة نجاح أو بارقة أمل فيظل متخبطاً في ظلمات الهزيمة والفشل..
لا ننفي وجود مؤامرة من أعدائنا تستهدف إبقاءنا في ظلمات التخلف والجهل، لكن الفرق بين نظرتنا و نظرة هذا الفريق هو أننا نضع معرفتنا بهذه المؤامرة في سياق إيجابي فنرفع من مستوى اليقظة والحذر، ونضاعف جهدنا الفكري والبدني حتى نفشلها، لكن ذلك الفريق يتخذ من هذه المؤامرة المفترضة ذريعةً لتعطيل قدراته ولتعميق حالة اليأس بين الناس، والتخاذل عن أي عمل أو جهد..
في الوقت الذي نؤمن فيه بوجود هذه المؤامرة فإننا نؤمن أيضاً بقدرة الشعوب، فكما أن أعداءنا يخططون، فإن في شعوبنا قدرةً أيضاً على التخطيط والانتصار، فأمريكا لا تملك كل الأوراق حتى لا يكون إلا ما تريد..
صحيح أن أمريكا تحاول بكل جهد استغلال واقع ما بعد الثورات في حرف هذه الثورات عن أهدافها، ولكن هذا لا يعني أنها هي التي صنعت الثورات ابتداءً..وما تفعله أمريكا لا يزيد عن كونه ركوباً للموجة ومحاولةً لتوجيه الأحداث في الاتجاه الذي يخدم أهدافها، واللوم يقع علينا أننا تركنا الساحة فارغةً ولم نبادر للعمل في الاتجاه الذي يحقق أهدافنا..
ثار غضبي على أحد هؤلاء المنهزمين نفسياً حين قال: إن نتائج انتخابات ما بعد الثورات هي مؤامرة بريطانية، وإن أكثر قادة الإخوان كانوا يقيمون في بريطانيا، وهي التي أسست جماعتهم..قلت له: إن أصحاب التضخيم الإعلامي يستغلون جهلنا وزهدنا بالقراءة ليحشوا في عقولنا ما يريدون.. إنك لا تعرف شيئاً عن ظروف نشأة جماعة الإخوان المسلمين وأنها جاءت استجابةً لتحد حضاري، وقد كان مبدأ نشأتها في مصر على يد حسن البنا من الإسماعيلية..
ثم قلت له: هب أن كل ما يحدث في الوطن العربي هو محض مؤامرة غربية.. لماذا لا نكون أذكى منهم فنبحث في واقع ما بعد الثورات -التي هي مؤامرة حسب وجهة نظرك- عن الفرص الإيجابية التي تتيحها لنا مثل سقوط جدار الخوف، واستعادة الناس ثقتهم بأنفسهم فنستغل هذا الواقع الجديد في توجيه هذه المؤامرة في اتجاه معاكس يعود بالنفع علينا، وبذلك نقلب السحر على الساحر ويحيق المكر السيئ بأهله..
والله أعلم..
واقرأ أيضاً:
المرض النفسي دور الإيمان والعلاج بالقرآن / أفلا يتدبرون القرآن؟! / معنى الاستغفار / المحتوى الموضوعي للقرآن