دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية2
وهذا التصور للدولة الإسلامية هو التصور الذي يتفق مع خلق الله للإنسان وجعله خليفة له في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30، ونلاحظ هنا أن الملائكة اعتقدوا أنهم أجدر من البشر بدور الخلافة عن الله، وفاتهم أن هذا الدور مختلف عن دور الجندية الذي هم خلقوا له حيث لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما الإنسان المُسْتَخْلَف عن الله فدوره يشمل تحقيق صفات الله في نفسه وأولها الإبداع والاستقلالية ومنها العلم والكرم والاقتدار والرحمة والانتقام والعدل والصبر وغير ذلك مما هو مبين في أسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة.
الله ليس كمثله شيء في حقيقته لكنه من رحمته بنا اختار لنفسه صورة تشبهنا قدم لنا نفسه من خلالها، لأننا لا يمكننا أن نشعر بالحب المتبادل مع كائن لا نضفي عليه في خيالنا صفاتنا البشرية، لنشعر بالحب والود له، ولنكون خلفاءه في الأرض نتخلق بأخلاقه ونحقق في أنفسنا صفاته بالقدر الذي نتمكن منه ككائنات صغيرة جداً ومحدودة الإمكانات لكنها مُكَرَّمة عند الله.
والمشكلة هي في عدم انتباه المسلمين الأوائل لأن الله خلقنا خلفاء نعبده ونحن نتشبه به بكل صفاته وأخلاقه وإن كان قد حرم علينا منها العظمة والكبرياء، وظنوا أن الإنسان خلق لعبادة الله على الطريقة الملائكية حيث الالتزام الحرفي بأوامر الله في كل شيء، وبالتالي ظنوا أن لا بد أن يكون لكل شيء حكم شرعي من حلال أو حرام أو مكروه أو مستحب، وبفهمهم هذا للإسلام حولوا الإنسان الذي خلقه الله على صورته وجبله على طبائع تدفعه إلى أن يكون خليفة لله في أرضه إلى جندي ينفذ ولا يعترض، فالخليفة هو النائب والوكيل عمن استخلفه، والله استخلفنا في الأرض استخلاف اختبار وامتحان لا استخلاف استعانة فهو الغني عنا ونحن الفقراء إليه.
هذه أمور وغيرها سأفصل تأصيلها إن شاء الله في القسم الثاني من هذا الكتاب لكن لا بد من بعض البيان لها لأنها جديدة وغير مألوفة لأكثرنا.
في الدولة الإسلامية المعاصرة ينحصر دور الشريعة في الأحكام الثابتة ثبوتاً قطعياً لا خلاف فيه بين المسلمين، وتترك باقي الأمور للمسلمين يبحثون من خلال العلوم المختلفة عن ما هو خير ليفعلوه وما هو شر ليجتنبوه دون أن يعطى له حكم شرعي من تحليل وتحريم.
ومن الأمور القطعية في ديننا من حيث الثبوت والدلالة قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة256، وهذا يعني أن الأمة المسلمة لا يتم إكراهها على تطبيق الثابت من الشريعة إنما للأمة الحق أن تقرر من خلال الديمقراطية إن كانت ستقطع يد السارق أم ستسجنه، ويبقى الإثم من تعطيل الحكم الشرعي على من صوَّت ضد هذا الحكم، ولا إثم على من صوَّت لصالحه حتى لو كانت الأغلبية ضد تطبيقه وتعطل في هذه الدولة، فواجب المؤمن هو في إعطاء صوته لصالح تطبيق أحكام الشريعة لا إكراه الناس عليها بالقوة: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} هود28. لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ومن يريد الجنة عليه التزام طريق الرشد ومن يسير في طريق الغي يعرض نفسه في الآخرة لنار وقودها الناس والحجارة.
لكن كما هي الديمقراطية يكون فيها تَحَكُّم الأغلبية بالأقلية، ويُفْرَض فيها على الجميع ما اختارته الأغلبية، فإن دولة الإسلام القائمة على اللا إكراه في الدين يتوجب فيها على الأقلية الرافضة لتشريع ما أن تخضع له إن نال أغلبية عند التصويت عليه، ولا مخرج للأقلية من اللالتزام بما تعارضه إلا بالخروج من الأمة والانتماء إلى أمة أخرى لا تلتزم بهذا التشريع. فمن حرص على الانتماء إلى أمة لا بد عليه من اللالتزام بما تفرضه الأغلبية فيها سواء قررت الأغلبية تطبيق حكم شرعي معين أو تعطيله، وكل فرد يتحمل من الإثم ويكون له من الأجر بحسب موقفه عندما طرح التشريع لتصوت الأمة على تطبيقه أو عدم تطبيقه.
في الدولة التي جميع أفرادها ينتمون إلى أمة واحدة هي الأمة الإسلامية وإلى مذهب واحد هو المذهب السني مثلاً ولا يعيش معهم على نفس الأرض أمة أخرى كأتباع دين آخر أو مذهب آخر أو أناس لا دينيون، في هذه الدولة إن كانت ديمقراطية لا بد من خضوع الأقلية لرأي الأغلبية أحبوا ذلك الرأي أم كرهوه، لأنه لا تكون الديمقراطية إلا هكذا، ولأنه لا يتحقق مبدأ اللا إكراه إلا من خلال الديمقراطية ومن خلال جعل السيادة أو ما يسمى الحاكمية للأمة تمارسها من خلال الآليات الديمقراطية. كما لا تتحقق خلافة البشر لله في أرضه إلا من خلال مبدأ اللا إكراه في الدين واللا إكراه في غير الدين، حتى يقوم الإنسان بعبادة الله طوعاً وبرغبته وإرادته دون ضغط أو إجبار من أحد.
في الدولة الإسلامية المعاصرة لا إكراه في الدين ولا يعاقب أحد على الكفر أو على رأيه المخالف في العقيدة أو الفقه وله أن يعبر عنه كما يشاء، طالما أنه لم يحاول فرضه على الناس ولم يعتد بالسب أو التحقير أو الاستهزاء والسخرية على ما يقدسونه، فحد الردة ليس حداً ثابتاً وحكماً قائماً إلى يوم القيامة، بل هو استثناء لمبدأ لا إكراه في الدين مخصوص بقوم معينين وزمان ومكان محددين كما بينت في مقالي الثالث (الطائفية والثورة في سورية) وكما سأفصل إن شاء الله في قسم (التأصيل) من هذا الكتاب.
سيكون الناس أحراراً في الدولة الإسلامية المعاصرة حرية كاملة لا تقل عن الحرية التي يتمتع بها الناس في الدول الغربية، ولن تتدخل الدولة في لباس النساء أو حجابهن كما بينت في مقالي الأول، كما لن يُرْجَم من يزني، بل سنعود إلى الحد الذي شرعه ربنا في سورة النور وهو جلد الزاني والزانية مئة جلدة، حيث نسخ به الحكم القديم الذي كان رجم الزاني والزانية إن سبق له أو لها الزواج رجماً حتى الموت.
سيصحح المسلمون أخطاءً فقهية وقع فيها أسلافهم، لا إرضاء للغربين ودعاة حقوق الإنسان، بل لأن هذا هو الدين الحق ودين الرحمة والإنسانية. الإسلام عندما يجلد الزاني، هو لا يجلده لمجرد أنه زنى، بل يجلده لأنه جاهر بالزنا إما بالإقرار بالزنا أمام الناس والقاضي أو بممارسة الفعل الجنسي في العلن بحيث يرى أربعة رجال العملية الجنسية ذاتها دون شك بحدوثها وهذا ما لا يتحقق إلا في المسارح التي يمارس عليها الممثلون الجنس أمام الجمهور أو الأفلام الجنسية أو ما شابه من المجاهرة والاستهتار، فالإسلام لا يريد القضاء على الزنا بواسطة الحد الشرعي بل عن طريق التربية على التقوى والفضيلة وتيسير الزواج، ويبقى الحد لحماية المجتمع من أن يتحول الزناة إلى قدوة ونموذج للآخرين فتشيع الفاحشة في المؤمنين.
وكذلك حد شرب الخمر سيعاد النظر فيه لنعود به لما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عقوبة تعزيرية على السُّكْر والخروج بين الناس سكراناً يؤذيهم بصخبه وعدوانيته وقلة حيائه وشعوره بالعظمة الوهمية التي يعطيها له الخمر، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه أن يضربوا السكران بما تيسر لهم ضرباً يوقظه من سكره ويكسر كبرياءه الزائفة فيشعر بالذل بدل العظمة ويكون ذلك له درساً يؤدبه حتى إذا شرب الخمر مرة أخرى استتر عن عيون الناس وكفاهم أذاه ولم يكن قدوة ونموذجاً لغيره يتعلمون منه هذا السلوك المحرم.
هنالك حدود وأحكام ثابتة لن نتنازل عنها إرضاء لأحد أو حرصاً على إعجاب أحد بنا مثل قطع يد السارق، فنحن متعبدون بتطبيقها ولن نخشى في الله لومة لائم، لكن لن نُكْرِهَ أمة عليها بل تُسْتَفْتى الأمة، فإن رغبت الأغلبية فيها بتطبيق هذا الحكم طبقناه على الجميع، وإن رفضت الأغلبية تطبيقه سقط عنا الإثم وبقي علينا واجب محاولة إقناعهم بالتطبيق عن طريق الحوار ودون عنف أو إكراه. لا بد داخل الأمة الواحدة من أن تخضع الأقلية للأكثرية، والبشرية لم تتوصل إلى نظام أفضل من الديمقراطية لتحقق للناس أكبر قدر من الحرية واللا إكراه دون التحول إلى الفوضى وقانون الغاب.
هذا إن كان سكان الدولة جميعهم أمة واحدة، أي طائفة واحدة، لكن، عندما تتعدد الأمم في دولة واحدة يختلف الأمر، وهو حال دول مثل سورية يتكون أهلها من أمم مختلفة نسميها طوائف حيث فيها السنة والعلويون والدروز والإسماعيليون والمسيحيون والشيعة الجعفرية وفيها الملحدون والعلمانيون واليساريون وغير ذلك من طوائف وأديان ومذاهب. أقول أمماً مختلفة وأنا أعود إلى الكلمة التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم الطوائف المختلفة في الدولة التي أسسها في المدينة المنورة وكتب وثيقة مفصلة تحفظ حقوق الجميع هي بحق أول دستور في التاريخ.
نعم السوريون كلهم يشكلون أمة واحدة هي أمة السوريين، والمُواطَنة في سورية ستكون على أساس كون الشخص سورياً بغض النظر عن جنسه أو قوميته أو عقيدته. السوريون أمة كبيرة تتكون من أمم أصغر متنوعة ومختلفة.. هنالك طريقتان ليتمتع فيها جميع السوريون بالمساواة فلا تفرض فئة منهم قناعاتها ومتقداتها على البقية حتى لو كانت هذه الفئة هي الأغلبية عددياً وهما: العلمانية وحصر الأديان في العلاقة الشخصية بين المؤمنين وربهم، أو التعددية التي تتحقق على كافة المستويات سواء منها الثقافية أو السياسية أو التشريعية على أساس مبدأ اللا إكراه.
فالأولى أن تكون الدولة علمانية لا تسمح بتدخل الأديان في تنظيم شؤون البلاد وفي تشريع القوانين ويتم حصر الدين في الحياة الفردية كما هو الحال في أوربا وحتى في تركيا التي أغلب سكانها مسلمون، وهذه هي الطريقة التي حلت بها أوربا مشكلتين فيها: مشكلة تسلط رجال الدين على المجتمع إلى حد تدخلهم في الآراء العلمية وإعدام العلماء الذين لا يتراجعون عن آرائهم العلمية التي لا توافق عليها الكنيسة، ومشكلة اضطهاد اليهود الذين كانوا يعيشون في المجتمعات الأوربية ويتعرضون للتمييز والظلم بسبب اختلاف دينهم عن دين البقية، وبذلك تم إبداع مفهوم المُواطَنة الذي يعني أن جميع أبناء الوطن لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات ذاتها بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، وأدى ذلك إلى ربط المواطنة بالعلمانية حيث لم يكن ممكناً المساواة بين الجميع بما فيهم الذين تركوا الأديان ما لم يتم استبعاد الأديان من دائرة التأثير في الحياة العامة والتشريعات والسياسات المتبعة في البلاد.
السوريون الآن ينادون بالمواطَنة كي يكون لكل سوري من الحقوق ما لغيره وعليه من الواجبات ما على غيره لمجرد أنه سوري بغض النظر عن جنسه أو عرقه أو لغته أو دينه. والإسلاميون السوريون طرحوا برنامجهم السياسي على أساس المواطَنة السورية التي يتساوى فيها كل السوريين من كل ناحية، لكن باقي السوريين لا يرون المواطَنة قادرة على ضمان المساواة لهم ما لم تكن الدولة علمانية، إذ من خلال الديمقراطية يمكن للأكثرية السنية أن تفرض على الجميع قوانين وأنظمة نابعة من معتقدها الديني ويكون على باقي السوريين الخضوع لها لأن أغلبية السوريين أقرتها وهكذا هي الديمقراطية.
14/06/2012
ويتبع >>>>>: دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3) / الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5
التعليق: قال له: يا أبي علمني....، أجابه: شو ما إجا على بالك احكي!!!
باعتبار أن علماء الشريعة عليهم أن يبلغوا ما ورد في القرآن والسنة فقط، وألا يتدخلوا في غيرهم ولا يبحثوا في المستجدات، وأن الحكمة يعرفها غيرهم من علماء الدنيا، ولا يحتاجون لوصاية علماء الدين...
أرجوك، ضع إصبعك في عينك، ومثل ما تؤلمك تؤلم غيرك... تكلم في الحكمة التي تعلمها من اختصاصك، ولا تفرض وصايتك على علماء الشريعة وتتكلم في اختصاصهم، وتتحفهم بآرائك، وتستشهد بالآيات والأحاديث...، القرآن والأحاديث من اختصاص علماء الشريعة فقط لو سمحت!!!
وأرجوك لا توقع الأمة في الحرج حيث سيتعبون كثيراً في فهم ما يكون في ظاهره تناقض صارخ من أقوالك، وهو في الحقيقة يحتاج إلى تأويل لا يعلمه إلا الله تعالى!!!