خرجت الملايين العربية في عواصم كثيرة تخطّ مستقبلها وأحلامها في العيش الكريم والآمن، في وطن المواطن الحرّ الذي تصان حقوقه وتحترم إرادته وتفكيره، بعد أن ضاقت ذرعاً بواقعها المؤلم تحت نار الفقر والبطالة والتهميش ومصادرة مختلف أشكال الحقوق لعقود طوال ظنّ معها المرء يأساً أنه لن ينكسر، فانكسر اليأس وسقط الخوف وأسبابه، لحظات تاريخية شهدها العرب لن تمحى من ذاكرة أجيال طويلة لموكب جنائزي صاخب لجثمان اسمه "الخوف"، تم الدفن والميت لن يعود ولم يعد بمقدور أي كان إعادة استنساخه حتى داخل صندوق اقتراع.
المشهد العربي المتحرك الثائر المتحول في جدل مستمر نحو المستقبل، أعلن عن ثورة مستمرة على الماضي بكل مكوناته وآلامه، ثورة على السجون وعقلية البوليس وتغييب العقل وترهيب الناس، ثورة طرحت تحديات جديدة أمام الجميع حول المستقبل، وماهية المجتمع الذي تصبوا إليه الشعوب، وأصبح الجميع أمام مخاض ديمقراطي انتقالي أسفر عن فوز جماعة الإخوان المسلمين في بلدان الثورات عدا ليبيا.
سقطت نظم الاستبداد إلى غير رجعة، سقوط خلّف حالة فراغ متاحة لمن يقود الحالة العربية، ويمتطي صهوة هذا الخيل الجامح الذي يسابق الزمن نحو المستقبل، وكعادة كل ثورة كان هناك من ينتظر، رجل الدين الواعد الواعظ المهذب المعذّب طوال العمر في سجون القهر، يلوّح بمشروع نهضة، عمران، اقتصاد، تنمية، خفض أسعار، إسكان، تعليم، صحة، حرية صحافة وإعلام، أمن، استقرار، وهذا أول الكلام وليس نهاية الأحلام للواعظ.
يا إلهي كم هو رائع هذا السّحر النهضوي ليلتف حوله الجميع ويقنع الثوار والقوميين واليمين واليسار، يا الهي كم رائع رجل الدين هذا حينما يقسم في الميدان أغلظ الأيمان على حماية الثورة وأهداف الثورة وشباب الثورة، ويحافظ على القانون والدستور ودم الشهيد المغدور، يا إلهي على عظمة هذا القديس الذي كان يستحق في كل بيت أن يشعل له عيدان البخور!!!
فاز الساحر الماهر صحاب الحلول لكل المشكلات رجل الشرع والشريعة، وفاز معه كهنة المعبد، وما بين القصر والمعبد هناك مسافة لا تقل عن أربع وثمانون عاماً من التعبد والدعاء على الطغاة البغاة الذين حوّلوا الشعوب إلى حفاة عراة، ثمانون عاماً يحيكون لباساً للعاري، وحذاءاً للحافي، وطعاماً للجائع، وشفا للمريض، ومدرسة للأمي، وطرقاً للمارة قد عبّدوها بالإيمان قبل أن يدخلوا فاتحين إلى القصر بالنصر المبين إلى أن سقط القناع.
كان هذا موجز ثورة أصابت بهزيمة طاغية، وأخطأت باختيار رجل دين، ثورة اختارت شعارات ولم تدقق في مضامين هذه الشعارات وصدقتها، وانساقت وراء عواطف كانت سبباً من أسباب هزائم العرب وتخلفهم على مدار سنوات طوال، ثورة لم تدرك أن رجل الدين هذا وحزبه كانوا جزءاً من النظام، إذا ما اعتبرنا أن قوى المعارضة هي جزء من النظام السياسي في أي بلد.
كيف لثورة ضد النظام أن تطال نسقاً فيه وتبقى على نسقاً آخر دون تمحيص أو تدقيق؟ وكيف لثورة ضد الظلم لا تدقق تاريخ حافل من حكم رجال الدين في العالم العربي على مدار أكثر من ألف وأربعمائة عام ولا تتعض من تجربة حكم رجال دين في المجتمعات الأوروبية وتحصى ضحايا هؤلاء الرجال ذوى القداسة الحاكمين بأمر الله؟ كيف لثورة لا ترى حاضر رجال القداسة حينما قسّموا السودان، ودمروا الصومال، وعاثوا في الجزائر والباكستان وأفغانستان وغزة التي لا زالت حاضرة طعنة في خاصرة وطن اسمه فلسطين يرزح تحت الاحتلال؟
لا بأس ولا يأس، أن تأتي متأخراً خيراً من العودة إلى الظلام، فقد أميط اللثام عن الساحر الواعظ على أبواب القصر، وسقطت خطة الشراكة السياسية مع حلفاء الميدان، وخطة الأمن والاستقرار ودولة القانون لصالح خطة الميليشيات، وخطة الدولة لمواطنيها لصالح الدولة لكهنة المعبد، لا دستور ولا قانون ولا شرع مخالف لما يٌشرع في المعبد، المعبد فقط مسؤول البحث عن أموال قارون الضائعة في البحيرة لينقذ الاقتصاد، وسيفتح أبواباً جديدة للصحة عبر العلاج الروحي، وسيمنح فرصة للراحة لكل تعبان من العمل، وفرصة للتسرب المدرسي لكل من لا يحب التعليم الدنيوني، وفرصة للتمرد على القوانين الوضعية الكافرة، فلا مجال للشرطة بعد رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا داعي للإعلام فلديه آلاف خطباء المساجد والدعاة ممكن ينشرون الفضيلة ويدافعون عن حكم الله في الأرض في وجه المشركين الضاليين، أصحاب بدعة الحرية والديمقراطية.
رجال الدين أرادوا حصاد الربيع بسيوفهم وباعوا الناس خطباً وشعارات، من غزة إلى تونس إلى مصر وأينما خرجوا من عتمة معبدهم انكشفوا، وتجاهلوا أن الشعوب تمردت، وأن السعي لحكمها في الحاضر والمستقبل لا يمكن أن يتم بأدوات الماضي، فإدارة البلاد والعباد مختلفة عن إدارة منظمة سرية تعمل ليلاً بإمرة أمير، لقد سقط الخوف وسيلحقه المقدس.
واقرأ أيضاً:
عقل الثورات العربية المفقود...! / الصمت أيام الصراخ (الثورة)