ثورة سلمية محمية4
لقد كان الجيش السوري الحر إضافة عظيمة للثورة السورية، وبخاصة عندما أصر النظام إصراراً عنيداً غبياً على استفزاز السوريين ودفعهم إلى السلاح، وذلك بلجوئه إلى اغتصاب النساء وإكراه الناس على النطق بكلمة الكفر، ومن ثم تسريب ذلك في لقطات فيديو لتصل إلى الإنترنت ومنها إلى الفضائيات، وأعتقد أن أغلب ما تسرب كان مقصوداً تسريبه لاستفزاز السوريين الأحرار، الذين أصروا في البداية على تلقي الرصاص بصدورهم العارية وهم يهتفون لسلمية الثورة.
السلمية أربكت النظام كثيراً، فهو لا يعرف كيف يتعامل معها، وقد استطاع أن يجرنا إلى الكفاح المسلح ظناً منه أنه سيقضي على الثورة بيسر وسهولة عندما تكون مسلحة، لأنه لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم، لكن حساباته كانت خاطئة، فكلما أمعن في جرائمه ومذابحه، زاد إصرار السوريين على التحرر منه مهما كان الثمن، رغم غرور النظام وغبائه، الذي لا يقل عن غرور صدام وغبائه، يوم أوحت له أمريكا أنها لا شأن لها بما سيفعله إن هو احتل الكويت، وكان ذلك فخاً له وغلطة تنتظرها منه، لتحقق مخططاتها في المنطقة؛
وأمريكا اليوم وغيرها يبعثون بالرسائل للنظام التي تشجعه على المزيد من البطش والإجرام في حق الشعب السوري، وهو يظن أنه مرغوب بقاؤه من أمريكا وإسرائيل، وأنها أطلقت يده يفعل ما يشاء ليقضي على الثورة، وفاته أنها تدفعه إلى الغرق في مستنقع آسن لن يخرج منه سالماً، فهو مع كل جريمة جديدة يرتكبها يخسر من أنصاره والمخدوعين به في سورية وخارجها، ولو كان يأمل في البقاء فإن ما يفعله عين الغباء، إذ من يريد البقاء حاكماً لهذا الشعب الأبي عليه ألا يخلق الثارات والأحقاد في نفوس أبنائه، أما إن كان يتوقع أن يرحل فعليه أيضاً لو كان يعقل أن يرحل برائحة طيبة كما يقول السوريون، كي يحتفظ لنفسه ولأولاده بمكان آمن في هذا الوطن، الذي سيكون من الصعب كثيراً عليهم أن يغادروه إلى غير رجعة. النظام يعمل ضد ذاته سواء بقي أو زال، وما ذلك إلا لأنه مكون من أناس لا يجيدون السياسة على الإطلاق، وليسوا إلا شبيحة في بذلات أنيقة وسيارات فارهة ومكاتب فاخرة.
تسليح الجيش السوري الحر شيء مهم جداً ومطلب للثورة لا تنازل عنه، لكن يجب ألا يكون ثمنه من استقلال سورية، ولا على حساب وحدتها. والذي أخشاه أن يقع الجيش الحر ضحية خداع وتغرير من قبل الغرب إذ يشجعه على تحرير الأحياء والبلدات ورفع علمه عليها وإقامة حواجزه فيها، مما يدفع النظام، إلى استخدام الطيران والصواريخ والدبابات لقصف المناطق المحررة للتغلب على الجيش الحر فيها، فتكون خسائر الجيش الحر وخسائر المدنيين رهيبة وتصبح المناطق المحررة في النهاية مهجورة من سكانها الذين تشردوا هنا وهناك.
الجيش الحر يَعِدُهُ الغرب وبالذات الأمريكان أنه إن حرر مناطق مهمة فيمكن أن يفرضوا حظراً جوياً، ومن ثم تعلن مناطق عازلة، تكون منطلقاً لتحرير سوريا كلها بدعمهم، الذي لن يأتينا منه إلا النذر اليسير، وبذلك يورطون الثورة في المزيد من الحرب الأهلية التي على المدى البعيد تحقق لهم أحلامهم في تقسيم المنطقة وربما وضع قواعدهم العسكرية فيها.
لنذكر كيف فرضوا حظراً جوياً على جنوب العراق وشماله منذ عام 1991 دون أن يكون هنالك مناطق محررة، كما لنذكر كيف أن حظرهم الجوي هذا فشل في حماية أهل البصرة، الذين بطش بهم صدام وجنوده عندما انتفضوا، شر بطشة، كانوا مدنيين، وسحق المدنيين ممكن دون طائرات، ولا ننسى ما عاناه الليبيون من صواريخ جراد التي كانت كتائب القذافي تقصفهم بها، رغم الحظر الجوي والقصف المكثف الذي قامت به طائرات الناتو.
علينا أن نبدل استراتيجيتنا بأن نتحول إلى الدفاع فقط، ونعود إلى المظاهرات والعمل السياسي السلمي والإعلامي النشط، وأن يقتصر دور الجيش الحر على حماية المناطق الآمنة لا المحررة، حمايتها من شبيحة النظام ومخابراته وعسكرييه، مع الاعتراف للدولة من حيث هي كيان مؤسسي مدني ينظم حياة الناس أنها مازالت صاحبة الأمر وواجب لها الطاعة في كل ما يخص سير الحياة اليومية للناس، ونعود لنطالب بإسقاط نظام القمع والمخابرات التي تَعُدُّ على الناس أنفاسهم، وتتدخل في جميع شؤونهم، وتحرم عليهم أي نشاط مدني أو سياسي أو إعلامي لا يكون مكرساً لخدمة النظام وتحت رايته، ولنطالب بالديمقراطية وبدولة مواطنة وقانون، يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات على اختلاف أجناسهم وقومياتهم ولغاتهم وأديانهم وطوائفهم طالما هم سوريون.
النظام يغيظه جداً إعلان المناطق المحررة، ويتعمد البطش بالأهالي وتجويعهم وقطع ما يملكه من حاجياتهم كالخبز والغاز والمازوت والكهرباء والماء والهاتف والانترنت، وذلك ليعاقبهم على احتضانهم للجيش الحر، على أمل أن يأتي اليوم الذي يُرْهقون فيه ويملون حياة الحصار والنزوح والخوف والفقر، فيتخلون عن الجيش الحر وينقلبون عليه.
علينا ألا نستهين بهذه الخطة الماكرة، وألا ننسى أن الأهالي بشر لهم حدود للتحمل، وهم وجدوا أنفسهم وسط الثورة دون أن يختاروا ذلك، ودون أن يكونوا قد اُعِدوا لذلك من قبل، لا نفسياً ولا فكرياً، فثورتنا كانت مرتجلة، والنظام بوحشيته لا يترك للثوار فرصة إعداد أحد ولا حتى أنفسهم، لذا ما لم نفكر من الآن لنحتاط للأمر، فقد يأتي اليوم الذي يتحقق فيه للنظام انقلاب الأهالي على الجيش الحر، وهذا وارد جداً إذا طالت الأمور ولم يستطع الجيش الحر أن يحسم الصراع لصالحه، وإذا استشعر الأهالي أن الأمل في الإطاحة بالنظام بسرعة قد خاب. لذا علينا تغيير استراتيجيتنا، وبخاصة أن تحرير المناطق مكلف جداً لنا، ولا يمكننا الاحتفاظ بها إلا عندما تتحول إلى خرائب مهجورة من سكانها.
استراتيجية أمريكا وإسرائيل هي: إطالة الصراع في سورية، وتوريط جميع الطوائف فيه، وجر اللبنانيين إليه، على أمل تفتييت سورية ولبنان إلى دويلات طائفية متناحرة، فلا تقوم لسورية قائمة ولا بعد مئة عام. لذا هم سيمدون الثورة بما يبقيها مشتعلة، لا بما ينصرها على النظام، لأن إسرائيل تخشى من انتصار الثورة ومجيء حكم وطني ديمقراطي لن يكون صديقاً لإسرائيل، ولن يبقى ساكتاً على حقوق السوريين في الجولان والفلسطينيين في فلسطين، إذاً فليبق النظام ضعيفاً مستنزفاً، فهو إما أن ينتصر على الثورة، ويكون وقتها منهكاً ومكروهاً من الغالبية العظمى من السوريين، وبالتالي يكون مستعداً لأن يقدم لإسرائيل أكثر بكثير مما قدم من قبل، وإلا فليتحقق حلم إسرائيل في تقسيم سورية ولبنان بعد أن أنجزت تقسيم العراق.
يجب ألا تغرنا أعذارهم وحججهم بأن المعارضة السورية غير موحدة، وبأن الجهاديين دخلوا على الخط ويحاولون اختطاف الثورة، وبأن روسيا والصين تعيقان جهودهم لنصرة الشعب السوري، فلو أرادوا أن يفعلوا لأعدوا لذلك عدته، ولما صعب عليهم رغم كل ما يقولونه من حجج وأعذار.
هم يريدون من الثورة تنازلات لصالح إسرائيل أعتقد أنه لن يجرؤ أحد من المعارضة أو الثورة على إعطائها، فالسوريون ذاقوا طعم التحرر من الاستعمار الأجنبي ولن يعودوا إليه، وهم اليوم يسعون للتحرر من الاستعمار الداخلي، الذي أذلهم نصف قرن من الزمان.
السوريون أغلبهم قومي النزعة، أو إسلامي، وليس فيهم من هو على استعداد لأن يتعاون مع إسرائيل على حساب استقلال البلاد وكرامتها، ولو كان المقابل ترك النظام يسقط. نريد إسقاط النظام، ولكننا لا نريد إسقاط الدولة، ولا نريد التحول إلى الفوضى والحرب الأهلية، و ما تجره من آلام ومآسٍ يكون الخلاص منها في التقسيم. لا تستقيم حياة الناس دون دولة تنظمها، ورغم عيوب دولتنا فإنها يقيناً خير من الفوضى.
لذلك علينا أن نحافظ عليها، ونحرص على بقاء مؤسساتها المختلفة من وزارات ومحاكم ومدارس ومؤسسات استهلاكية وجامعات ومعامل قطاع عام وشرطة سير وموظفي الماء والكهرباء، وغير ذلك مما لا يمكنني عده الآن، ولو كان ثمن ذلك أن نتخلى عن نشوة الفوز التي نحس بها عندما نعلن تحرير مناطق وبلدات. نحن لا نحارب الدولة وإن كانت دولتنا تعاني من فساد كثير من موظفيها من أصغرهم إلى أكبرهم، لأن فسادهم ناتج عن ممارسات النظام الأمني الذي يسخر كل شيء من أجله، ويقرب إليه الذين ينافقون له، ويضطهد المخلصين للبلد، ما لم يوالونه ويوافقونه على أخطائه ويكون إخلاصهم له مقدم على إخلاصهم للبلد.. نحن نحارب النظام الذي أفسد الدولة وحولها إلى خادم له ولأطماعه.
صحيح أن إيران وفرنسا وروسيا ضد هذه الاستراتيجية الهادفة إلى تفتيت المنطقة، لكن التقسيم وقيام دويلات طائفية تواليهم خير لهم من فقدان كل شيء، إن انتصرت الثورة وبقيت البلاد موحدة يحكمها أبناؤها المخلصون المنتخبون ديمقراطياً، فكما وافق تقسيم العراق هوى إيران فشاركت فيه، فإن تقسيم سورية ولبنان، إن تعذر بقاء النظام مسيطراً عليهما بكاملهما، يعني قيام دولة علوية ودولة شيعية، كلاهما ولاؤه لإيران مضمون وغير محدود، وإيران كدولة ذات مطامع وطموحات في المنطقة لا تبالي بمعاناتنا، إنما يهمها تحقيق مصالحها ولو على حسابنا.
وفرنسا ليست الأخرى أحرص علينا من إيران، ولئن استحال عليها الاحتفاظ بكامل سورية ولبنان منطقة نفوذ لها، فإن التقسيم يضمن لهل ولاء دولتين طائفيتين هما الدولة العلوية والدولة المسيحية، وكما قال فقهاؤنا ما لا يدرك كله لا يترك جله، والعاقل لا يترك القليل إن استحال عليه الاحتفاظ بالكثير، إنما تؤخذ الدنيا غلاباً. أما روسيا فأعجز من تقف في وجه مشاريع إسرائيل وأمريكا في منطقتنا وقوفاً ثابتاً لا تراجع فيه.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية6
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4