ثورة سلمية محمية6
ولا بد لي من الرد على شبهة أثارها الدكتور البوطي وهو يحاول حماية النظام حتى من مجرد المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية، وهي ادعاؤه أنها مع باقي أشكال العصيان المدني خروج على حاكم لم يجاهر بالكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان.
صحيح ما يقوله من أنه لا يجوز الخروج على الإمام أي الحاكم أو السلطان ما لم يستعلن بالكفر الذي لا تأويل له ولا شك فيه، لكن الخروج المقصود بالتحريم هو التمرد والثورة المسلحة، حيث لا ترد عبارة الخروج على السلطان أو الإمام في كتب التراث ولم يوصف بها فعل إلا حمل السلاح والثورة العنيفة على الحاكم، وكان الأمر بديهياً للمسلمين القدامى لدرجة أن معجماً موسوعياً مثل لسان العرب لم يفصل في شرح معنى الخروج على السلطان رغم أنه خصص حوالي ألفي كلمة لتبيين معاني خَرَجَ ومشتقاتها، ومثله القاموس المحيط ومختار الصحاح، لكن معجم اللغة العربية المعاصرة يقول: {خرَجَ على الحاكم: تمرّد وثار عليه ونبذ طاعته - خرَج عليه: برز لقتاله}.
إذ لم يكن الناس يعرفون أسلوب اللاعنف والعصيان المدني والمظاهرات السلمية في النضال من أجل التغيير السياسي، إنما كان خروج المسلمين على حكامهم دائماً مسلحاً، وهجومياً مبادراً في كل مرة، وكان دائماً يبدأ بنزع الاعتراف بشرعية الحاكم بتأويل فقهي أو غيره، وينطلق محاولاً الإطاحة به بقوة السلاح.
هذا هو الخروج على الحاكم أو السلطان أو الإمام، ولن يصعب على أي منكم أن يبحث من خلال الغوغل أو غيره ليستعرض ما قيل عن أمثلة الخروج في تاريخنا، ليتأكد من أن المقصود به كان دائماً الخروج الهجومي المسلح المبادر، وحتى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى للخروج على السلطان أو على الأمة فقد روى مسلم في صحيحه عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةً. وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا. وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ».
وفي رواية لنفس الحديث في مسند أحمد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من فارق الجماعة وخرج من الطاعة فمات فميتته جاهلية، ومن خرج على أمتي بسيفه يضرب برها وفاجرها، لا يحاشي مؤمناً لإِيمانه ولا يفي لذي عهد بعهده فليس من أمتي، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية، أو يقاتل للعصبية، أو يدعو إلى العصبية فقتلة جاهلية».
كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ. فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ. فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِىءَ. وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ. وَلكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لاَ . مَا صَلَّوْا» وفي مسند أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يكون عليكم أمراء تطمئن إليهم القلوب، وتلين لهم الجلود، ثم يكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب، وتقشعر منهم الجلود، فقال رجل: أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة».
وروى مسلم في صحيحه عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «دَعَانَا رَسُولُ اللّهِ فَبَايَعْنَاهُ. فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا. وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. قَالَ: «إلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».
والمقصود بالأمر الذي علينا أن لا ننازع أهله عليه هو الحكم، وفي رواية أحمد في مسنده للحديث نفسه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ولا ننازع الأمر أهله، نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم، - قال سفيان زاد بعض الناس- ما لم تروا كفراً بواحاً». وسفيان هذا هو راوي الحديث عن جده عبادة.
نعم الخروج على الحاكم المسلم بالسلاح لا يجوز إلا أن يُظْهِر هذا الحاكم الكفر الصريح الذي لا يختلف فيه المسلمون، لكن الطاعة الواجبة للحاكم بالمقابل ليست طاعة مطلقة وعمياء، فالأحاديث واضحة أنه لا طاعة إلا في معروف، وأن العصيان فريضة إن أمر الحاكم مسلماً كان أو غير مسلم بمعصية.
ومن جهة أخرى فإن إنكار المنكر في الإسلام واجب على كل مسلم، كل بحسب استطاعته وسلطته، فالذي له سلطة وحق الأمر في مجال من المجالات، عليه أن يغير المنكر بيده فيما له فيه سلطان، والذي يستطيع تغيير المنكر بلسانه، أي بالكلمة، سواء كانت مكتوبة، أو مرسومة، أو هتافاً في مظاهرة سلمية، أو من خلال الفن التمثيلي، أو الغناء، أو أي وسيلة من وسائل التعبير باللسان، أو بما يقوم مقامه كالإنترنت، فعليه ذلك، إلا إن خشي على نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه من الأذى، عندها يكون له الخيار: إن شاء أنكر المنكر وتحمل الأذى، فكان مجاهداً، وإن قتل فهو سيد الشهداء، وإن شاء صبر وصمت وأنكر بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، بينما هو ينتظر الفرصة المواتية لينكر المنكر بلسانه. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ». وروى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تُوُدِّعَ منهم». وفي رواية ثانية عند أحمد: «إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودع منهم».
نحن مأمورون بتغيير المنكر بيدنا في المجالات التي تقع تحت سلطتنا، وبلساننا فيما عدا ذلك إلا أن نخشى على أنفسنا فبالقلب وحده، وهذا ينطبق على المنكر أياً كان الواقع فيه حاكماً أو محكوماً، أميراً أو مأموراً، هذا وإن كان في قوانين الأرض للسلطان حصانة من الملاحقة القضائية ما دام على كرسي الحكم، فإن الإسلام لا يعطيه أية حصانة، ويوجب على الرعية أن تقوِّمَه، لكن دون استخدام العنف، وذلك بأن تنصحه، فإن لم يستجب تنتقده على رؤوس الأشهاد، فإن لم يستجب تضغط عليه بالطرق السلمية التي ابتكرتها البشرية من مظاهرات وملصقات وإضرابات وغير ذلك، فإن لم يستجب وكانت أغلبية الأمة تطالبه بالتغيير دون فائدة، تكون المطالبة بعزله وتولية غيره، لكن دون عنف.
في سبيل الضغط عليه كي يستقيم ويرفع ظلمه عن المظلومين لا بد من عصيانه، لأنه بالتأكيد سيأمر الناس أن لا يتظاهروا وأن لا يُضْربوا، فإن هم أطاعوه، يكونون قد قصروا في تغيير المنكر وإنكاره، ويكونون قد أطاعوه في معصية ومنكر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه مسلم في صحيحه: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ. إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». وقال فيما رواه أحمد في مسنده: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل». والرواية المشهورة لهذا الحديث هي: "لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ".
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، وقربة إلى الله، وواجب على المؤمن قدر استطاعته وعلمه في جميع أحواله حاكماً كان أو محكوماً، يقول تعالى في آل عمران: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[110]}، ويقول في سورة الحج عن المؤمنين إن صارت لهم دولتهم ومكن الله لهم في الأرض: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}.
إذن كل صور الاحتجاج والضغط على الحاكم إن كان ظالماً أو مقصراً مشروعة، إن لم تكن واجبة ومفروضة كفرض كفاية، شريطة أن نمتنع عن العنف بكل أشكاله، وإن كانت الأساليب المستجدة لم تعرفها البشرية في عصور الإسلام الأولى ولم تذكر فيما أمرنا به، فإننا في الوقت نفسه لم نُنْهَ عنها ولم تحرم علينا، والأصل في الأمور الإباحة إلا ما يثبت تحريمه بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وبالتالي لا وجاهة لرأي من يطلب من الأمة أن تطيع حكامها في كل شيء عدلوا أم جاروا، وتحرم عليها عصيانهم في أي شيء حتى لو أمروها بالسكوت على المنكر والظلم.
والخروج المحرم هو الانتفاضة المسلحة المهاجمة والمبادرة للقتال، أما القتال دفاعاً عن النفس والأهل والمال والعرض فمشروع، ومن يقتل فيه فهو شهيد عند الله، وهو ليس خروجاً على الحاكم حتى لو كان مقاومة لعدوان جنده ورجال أمنه، فالدفاع عن النفس حق لكل إنسان كائن من كان المعتدي عليه، والحاكم ببيعة أو بلا بيعة لا يحل له أن يعتدي هو أو رجاله على أموال أو أعراض أو دماء أحد من رعيته، والنظام في سورية وقبله في مصر واليمن وليبيا استعان بالمجرمين لقهر الناس وإخضاعهم، ولو كان عدوان الحاكم على المحكوم تم بوسائل قانونية وبحكم قضائي لوجب الطاعة دون مقاومة عنيفة، بل تكون المقاومة السلمية باللسان وغيره كالعصيان المدني، حتى رفع الظلم واستعادة الحق، لقد أباح الله للمظلوم أن يفضح الظالم بكل وسائل التعبير غير العنيفة، قال تعالى في سورة النساء: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)}.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية8
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4