ثورة سلمية محمية7
أما مع ما نراه من النظام من بطش غير منضبط لا بقانون ولا بشرع ولا بأخلاق، بطش المجرمين القتلة واللصوص وقطاع الطرق، فإن لنا الحق في الدفاع عن أنفسنا بكل الوسائل وحتى نموت في سبيله أو نرد العدوان، والمخابرات والشبيحة والفرقة الرابعة وغيرها لا يتصرفون كما تتصرف الدول التي لتصرفاتها ضوابط مهما كانت هذه الضوابط فيها ثغرات، لكن هؤلاء يحاربون الثورة بوحشية همجية غابت عنها كل معايير الانضباط والتقيد بنظام أو قانون شأن الحكومات والدول، وهو ما من أجله ودرءاً للفتنة وجبت طاعة الحكام وإن جاروا، طالما أن الوضع ما يزال وضع سلطة منظمة تتصرف ضمن قانون معلن حتى لو كان قانون طوارىء؛
فقانون الطوارىء رغم سمعته السيئة يبقى قانوناً، لكن ما يمارس في سورية الآن هو الوحشية والفوضى واللانظام المنفلت من أية ضوابط أخلاقية أو قانونية، وهذا يفقد النظام أي حق على الناس أن يطيعوه كما عليهم طاعة أميرهم حتى لو أخذ مالهم وضرب ظهرهم، ولهم وقتها أن يقاوموا ظلمه بالوسائل السلمية، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان أنه قال: {قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنَّا كُنَّا بِشَرَ. فَجَاءَ اللّهِ بِخَيْرٍ. فَنَحْنُ فِيهِ. فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَـذَا الْخَيْر شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إنْسٍ» قَالَ قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ. وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ. وَأُخِذَ مَالُكَ. فَاسْمَعْ وَأَطعْ»}.
الأمر بالطاعة وتحريم العنف هدفه درء الفتنة والفوضى والهرج، والخروج بالسلاح محرم من أجل ذلك للمحافظة على السلم الأهلي. لكن النظام عندنا هو الذي ينشر الفتنة والفوضى والهرج، لذا لم يعد النظام نظاماً، بل هو عصابة من المفسدين في الأرض لنا الحق في دفعهم وحماية أنفسنا وأهلنا وأموالنا وأعراضنا، وعلينا أن نتعاون في ذلك حتى لا يستفرد هؤلاء القتلة بأي منا لضعفه، أي لا ننظر حتى يكون العدوان علينا شخصياً، فالأمة كيان واحد يدافع عن نفسه، لكنه يتقيد بالضوابط الشرعية والأخلاقية، فلا يمارس أعمال الانتقام التي يتم فيها الاعتداء على من لم يمارس العدوان بنفسه ضد الأمة حتى لو كان المعتدي أباه أو أخاه، أي ننتقم إن قدرنا من القاتل نفسه والمغتصب نفسه لا من زوجته أو ابنه أو أخيه أو قريبه، نعم في الحروب بين الأمم يمكن أخذ الثأر من أي محارب ينتمي للعدو حتى لو لم يكن هو الذي ارتكب العدوان فقتل واغتصب وسلب.
أما في الصراع بين مكونات الأمة الواحدة فلا يمكن أن تزر وازرة وزر أخرى، بل تبقى المسؤولية فردية، وكل معتدٍ مسؤول عن عدوانه، يحمل الإثم ويتحمل العقوبة والانتقام وحده، كما هو الحال في كل الأعمال الإجرامية التي يرتكبها الجناة، فيحملون مسؤولية ما اقترفوه ولا ننتقم من غير الذي اعتدى كما كان حال العرب عندما يأخذون ثأرهم من أبناء عشيرة القاتل أو أسرته، فهذه عودة إلى الجاهلية ستدخل البلاد والعباد في فتنة عظيمة يفرح لها أعدؤنا وتحقق لهم ما يتمنونه من تفتيت لبلادنا وأمتنا.
النظام دائماً يدعي أن هنالك مؤامرة على سورية كونية تريد الإطاحة به لصموده وممانعته، ذلك أنه يرى نفسه هو سورية ولا يرى معه أحداً غيره من السوريين، والحق أنه بالفعل هنالك مؤامرة من أمريكا وإسرائيل على سورية تهدف إلى دفعها إلى الحرب الأهلية الطائفية وتدميرها ثم تفتيتها، وعلينا تفويت الفرصة عليهم، لكننا على يقين أن النظام السوري ليس هو المستهدف بهذه المؤامرة، هي مؤامرة على البلد وعلى الأمة، وليست على النظام الذي يحقق لهم ما يريدون بقصد وغير قصد، فيدفع الأمور بالاتجاه الذي يحبون لها أن تتجه إليه، وهو بغبائه وضيق أفقه وتمسكه بمكاسبه شريك في هذه المؤامرة، لأنه منذ البداية حاول تحويل الثورة من عصيان مدني سلمي إلى ثورة مسلحة طائفية، إنه متآمر على البلد والأمة وليس أرحم بهما من إسرائيل وأمريكا عندما يتهدد وجوده ومكاسبه، ألم يقولوا: الأسد أو لا أحد، والأسد أو ندمر البلد؟.
لقد مدح الله المؤمنين بأنهم إذا بُغِيَ عليهم أي أعتدي عليهم ظلماً "هم ينتصرون" أي يدفعون الظلم عن أنفسهم وينتصفون وينتقمون ممن ظلمهم، ولا محاسبة لهم على ما ارتكبوه من انتقام وانتصاف طالما أنهم لم يعتدوا أي لم يكونوا هم البادئون ولم يعتدوا بأكثر مما اعتدي عليهم، ولم ينتقموا ممن لم يعتد عليهم بنفسه أو يشارك في العدوان عليهم.
قال تعالى في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}.
وواضح لنا في هذه الآيات الكريمة التشجيع على المغفرة والعفو مع إباحة الانتصار في وجه الظلم والبغي، وعدم ذمه، بل اعتباره مما يمتدح الله به المؤمنين. وابن منظور في لسان العرب يفسر كلمة انتصر بما يلي: {وانْتَصَر الرجل إِذا امتنع من ظالِـمِه. قال الأَزهري: يكون الانْتصَار من الظالـم الانْتِصاف والانْتِقام، وانْتَصَر منه: انْتَقَم}. لكن في جهاد كالذي نحن فيه في سورية، علينا أن نضبط أنفسنا، ونحتسب قتلانا وجرحانا ومصابينا عند الله، لأنهم إنما أوذوا في سبيله، ولا نسعى وراء الثأر والانتقام من غير المجرمين الذين اعتدوا علينا، هذا إن لم نستطع الصبر دون الانتصار لأنفسنا والصبر خير وأحب إلى الله وأعظم أثراً في حسم الصراع لصالحنا.
نعم ندافع حتى الموت، لكن نصبر بعد ذلك كي لا تتحول الثورة إلى ثارات تغلب عليها الطائفية، إلا إن تمكنا من الانتقام من الشخص الذي اعتدى علينا بذاته، لا من أهله أو من عشيرته أو بني طائفته. هذا مادام الصراع قائماً، فإن حسم لصالحنا إن شاء الله، عفونا كما أمرنا الله، وأجرنا عليه، وتعويضنا في الدنيا على الدولة والأمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: «مَن قُتِلَ دُونَ مالِه فهو شَهيد». وقال فيما رواه أحمد في مسنده: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد». وروى النسائي في سننه الصغرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». كما روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ».
وهذه الأحاديث تثبت شرعية الدفاع عن النفس والمال والعرض بالسلاح وبدونه، وإذا قتل المدافع فهو شهيد، وله أن يقتل من يريد الاعتداء عليه أو على عرضه أو على ماله كائناً من كان، وليس في ذلك شبهة الخروج المحرم ولا الاقتتال الذي يكون القاتل فيه والمقتول في النار. فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ. أَلاَ ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا. وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا. أَلاَ، فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ. وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ. وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ».
قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلاَ غَنَمٌ وَلاَ أَرْضٌ؟ قَالَ: «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَليَدُقَّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ. ثُمَّ لْيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ، أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ، أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ: «يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ. وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». وهذا الحديث يدعو من أكره على المشاركة في الفتنة ولم يجرؤ على الانشقاق لأن يكون سلبياً ولا يرتكب أية جرائم ولو أدى ذلك لاستشهاده، فهو شهيد ويبوء قاتله بإثمهما معاً كما باء ابن آدم الأول الذي قتل أخاه.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية9
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4