أخشى من هذا التركيز على الحالة النفسية للرؤساء أن يدفعنا للخلط بين المرض والجريمة، دعونا نتساءل: أيها الأولى بالحذر والرفض، الرئيس الذي يسمح لجيوشه أن تقتل الملايين من الأبرياء تحت لافتات الحروب الاستباقية، والشكوك الاستخبارية أم الرئيس المهزوز في موقف متناقض أو الذي يخرج عن طوره في خطبة عشوائية؟
إن جرائم التطهير العرقي، وغسيل العقول، واستعمال الأموال القذرة لإذلال الأفقر والأضعف لا تحتاج إلى مرض نفسي ليفسرها، وإنما تحتاج إلى وعي شعبي عالمي ليحول دون التمادي فيها، ومع ذلك دعوني أحكي لكم ما وجدت بالنسبة للحالة النفسية للرؤساء.
ابتداءً: تحت عنوان "الرؤساء المجانين" في أفريقيا، عثرت على قائمة تضم الرئيس النيجيري الأسبق ساني آباشا، ودركي غرب أفريقيا، والرئيس الأسبق لجمهورية وسط أفريقيا جان بوكاسا والرئيس الأوغندي عيدي أمين، والرئيس الغيني الحالي يحيى جامي والرئيس النيجري السابق سيني كونتشي، والزيمبابوي الحالي روبرت موغابي والرئيس المالي السابق موسى اتراوري، وكذلك ملك سويزيلاند الأمير ماخوزتيف دلاميني.
فهل يا ترى هناك عامل مشترك بين كل هؤلاء؟ وهل ظهر عليهم ما أسموه "جنونًا" قبل توليهم أم بعد توليهم؟ وهل تصنيفهم أو تشخيصهم هو نتيجة لكشف طبي عليهم؟ أم أن الحكم صدر عليهم من تصرفات سميت مجنونة حقيقة أو مجازًا، وهل ظهرت وسط شطحات ما يسمى جنونهم،
أية اختراقات إيجابية يمكن أن توصف بأنها إبداعية، حتى لو كان ما سبقها أو ما لحقها يوصف بـ "الجنون"؟
كل هذه الأسئلة شغلتني ولم أجد إجابة شافية عليها وتصورت أنها تحتاج عمرًا للإجابة عليها، لكنني أتصور أن مجرد طرح مثل هذه الأسئلة ينبهنا إلى صعوبة المسألة التي نتناولها، وأن علينا أن نحكم على الرؤساء بآدائهم الإنساني ونجاحهم الاقتصادي لصالح شعوبهم، ثم عدلهم في توزيع نجاحات اقتصاد بلادهم، وليس بتصرفاتهم الشخصية وسماتهم وطباعهم.
ثم إني حصلت على دراسات متفرقة ومتنوعة عن رؤساء أمريكا من أول دراسة قام بها فرويد حول شخصية الرئيس الأمريكي وودرو ولسون وهي دراسة لم تنشر إلا بعد وفاة فرويد، لذلك فهو عمل غير متداول كغيره من النصوص الفرويدية، وتمتد الملاحظات والمقارنات إلى مقارنة ولسون بجورج دبليو بوش، وقد أوضح الباحثون أوجه شبه كثيرة بينهما.
هذا، وقد انتقل الاهتمام مما يسمى التحليل النفسي للرؤساء إلى النمط السلوكي لهم وكلام كثير مهم في علم النفس السياسي، لكن سواء كان هذا هو الأصوب أم ذاك فإنه من المتفق عليه أنه يصعب تحديد الخط الفاصل بين السواء والمرض في مثل هذه الحالات خاصة أنه كان يقال إن علم النفس السياسي يمكن أن يساعد المسئولين في اتخاذ بعض القرارات أو أثناء المفاوضات أو غير ذلك،
لكن القائمة التي وصلتني والتي تتناول أحوال الرؤساء الأمريكيين تضمنت عددًا متنوعًا من الأحكام وطرق التقييم التي تراوحت بين الخيانة الزوجية، والأمانة الشخصية، والتذبذب السياسي بحيث يكاد يصعب وضع عتبة فارقة
تحدد: متى أصبحنا في منطقة يقال عنها "المرض"، تحديدًا، فاختلط السياسي بالأخلاقي بالمرضى اختلاطًا متداخلاً زاد الأمر إشكالاً، كتاب: "الأخلاق الرئاسية -التنبؤ بالآداء في البيت الأبيض"، تأليف جيمس دافيد باربر.
كذلك أخذت بعض الدراسات التاريخ الأسرى للرئيس، مثلما حدث مع ترشيح جون كينيدي للرئاسة. فقد كانت أخته ماري تعاني اضطرابًا نفسيًا لم يلبث أن تحول إلى إعاقة عقلية بعد خضوعها لمحاولة علاج عن طريق جراحة دماغية، ما أدى إلى بقائها نزيلة مصحة عقلية حتى نهاية حياتها،
ولكن هل أثر ذلك على استهدافه للمرض أو على آدائه أو كان سببًا في اغتياله لإبداعه واستقلاله؟
أما آخر ما حصلت عليه وضاعف من مخاوفي من الدخول إلى هذه المنطقة، فقد كان كتابًا عن خمسة من الرؤساء العرب وهو كتاب ألفته حديثا "موريال ميراك وايسباخ" وهي كاتبة أمريكية من أصل تركي وعنوانه "المجانين في سدة الحكم" اتهمت فيه خمسة رؤساء عرب بالجنون، وأنهم يعانون من حالات نفسية تتمثل في مرض البارونيا كونهم لا يريدون أن يواجهوا حقيقة أنفسهم،
ويعتبر هذا الكتاب أن الربيع العربي نقطة تحول في التاريخ العربي، الذي أعطى المحتجين الشباب الزخم لتحدي الأنظمة الديكتاتورية القائمة والراسخة للمرة الأولى، والمطالبة بالديموقراطية"...الخ، ويقدم هذا الكتاب" نظرة نفسية في الإجراءات والاستجابات من هؤلاء من أول زين العابدين حتى الأسد، مرورًا بمبارك، فالقذافي،
وعلى عبد الله صالح، والكتاب ينظر إليهم من وجهة نظر نفسية إكلينيكية دون مقابلتهم أو فحصهم، وقد وجدت أنه من الصعب عليّ أن أجد عاملاً مشتركًا يسمى "الجنون" بين أقصى "القذافي" على ناحية وأقصى "مبارك" على الناحية الأخرى، أو أقصى "بشار الأسد" وأقصى "زين العابدين بن علي"
وفي نفس الوقت شعرت أن مثل هذا التحليل إنما يغفل العامل الأهم الذي يجمع بينهم فيما يسمى "الربيع العربي" وهو إرادة أمريكا وإسرائيل في التخلص منهم لصعوبات مختلفة،
هي غالبًا متعلقة بانتهاء عمرهم الافتراضي ودورهم في تحريك المنطقة للاندماج تابعين مطيعين للإمبراطورية المعولمة الجديدة برئاسة أمريكا ووزارة إسرائيل "أو العكس" لصالح المال العولمي المفترس، جنبًا إلى جنب مع أخطاء هؤلاء الرؤساء وتماديهم في الاستهانة بوعي شعوبهم الجمعي النامي، وغياب العدل.
بالله عليكم ما هو الأولى بالدراسة والانتباه، كل هذه المؤامرات والتكيتيكات المعدّة منذ سنوات، أم حالتهم النفسية والعقلية حتى لو اقترح القذافي رحمه الله دولة "إسراطين" وهو اقتراح جريء مبدع.
نقلا عن جريدة اليوم السابع
الأربعاء، 9-4-2014
واقرأ أيضاً:
هل نحن في حاجة إلى.......... / مزيد من الخيال، ومراجعة في نتائج انتخابات الرئاسة / قصة قصيرة (جديدة) "هاييتي"!!