إنه أقل شيٍء نُقدمه باستحياءٍ وخجلٍ إلى مدينة القدس وإلى المسجد الأقصى المبارك، بل هو جهد المُقل، وعطاء القليل، ولكنه إرادة القوي العزيز، لا الضعيف الذليل، وهو القطمير والفتيل، الذي لا يُعذر فيه أحد، ولا يُبرر فيه العجز، ولا يجوز فيه التقصير، ولا يُقدم عليه شيء، ولا يسبقه عمل، ولا تُنافسه مهمة، فهو واجبٌ ليس فيه تضحية ولا معاناة، ولا جهد ولا مشقة، ولا مغامرة ولا معركة خاسرة، كما ليس فيه كُلفة ولا نفقة، ولا غرامة ولا ضريبة، فلا إعداد مُكلف، ولا استعداداتٍ مرهقة، إنما هي جهودٌ بشرية، واستعداداتٌ نفسية، تسبقها النوايا الصادقة، والعزم الأكيد، واليقين الجازم.
إن كُنا عاجزين عن اسـتنقاذ مدينـة القدس وتحريرها، فلا أقل من أن تبقَ سـاكنـةً في القلوب، وباقيـةً في الحنايا والنفوس، تحميها الصدور والضلوع، لا تُفارقنا ولا تغيب عنا، نذكرها في كل وقتٍ وحين، ونتطلع إلى اسـتعادتها والعودة إليها مهما تأخر الزمن، وتعّقد إليها السـبيل، وطال للوصول إليها الطريق، وكثُرت في سـبيلها التضحيات والتحديات.
فهي تستحق منا أن نبذل الجهد والأرواح والمُهج، وأن نروي ترابها بالدم والدموع والعرق، فهي مدينتنا، وهي أرضنا المقدسة، ومسرى رسولنا الأكرم، ومعراجه إلى السماوات العُلى، التي ترنو إليها قلوب المسلمين، وتتطلع إليها أرواحهم، وتهفو إليها نفوسهم، كانت لنا دوماً، وستعود إلينا حتماً، وستبقى أرضنا ومدينتنا المقدسة، وقبلتنا الأولى التي نتمسك بها، ولا نُفرط فيها، ولا نُفاوض أو نُساوم عليها، بل سنبقى نتطلع إليها لنا وحدنا ولو فقأ مخرز العدو منا العيون.
ملايين العرب والمسلمين في كل مكان، يجوبون مدن وساحات العالم، في أكثر من أربعين دولةً عربية وإسلامية وغيرها، يحملون شعاراً واحداً، يُعبر عن حقيقة هدفهم، وصدق توجههم، وعميق انتمائهم، وقصدية تحركهم، فشعوب العالم تريد صادقةً تحرير القدس، واستنقاذها من دَنس اليهود وبطشهم، واستعادتها منهم، وهم الغاصبين لها، والمحتلين لمقدساتها، والمدعين زوراً وكذباً أنها كانت يوماً لهم، وإن كانوا قد سكنوا فيها كغيرهم، تحت كنف العرب حيناً، وبرعاية دولة الإسلام أحايين كثيرة، ولكنهم قومٌ يُحرفون الكَلِم عن مواضعه، ويُزورون التاريخ، ويُحاولون طمس الحقائق، وتشويه الوقائع، وتبديل ثوابت التاريخ، ويُطالبون العالم بأن يُصدق تُرهاتهم، ويؤمن بباطلهم، ويعتقد بخُرافاتهم.
ربما لا شيء يشـغل الإسـرائيليين والحركـة الصهيونيـة هذه الأيام قدر مدينـة القدس، وما فيها من مقدسـاتٍ وأماكن روحيـة؛ فهم يُسـابقون الزمن لتغيير معالمها، وطمـس هويتها، وتفريغها من سـكانها العرب المسـلمين والمسـيحيين، ويعملون ليل نهارٍ تحتها، يُنقبون الأرض، ويحفرون الأنفاق، وينثرون فيها بعضاً من تاريخهم، وبقايا من تراثهم، ليُوهموا العالم أن هذه الأرض كانت يوماً لهم، وفيها عاش أجدادهم، وفيها بُعِثَ أنبياؤهم، وفيها بنى ملوكهم ممالك اليهود، ومنها إلى بابل سُـبوا، وإلى بقيـة العالم تشـردوا، ليُبرروا لأنفسـهم العودة إليها، والإقامـة فيها، وبناء الهيكل المزعوم فوق تلالها.
ويُنفقون فيها مليارات الدولارات من ميزانيتهم، ومن التبرعات التي تصل إليهم، والمسـاعدات التي تُقدم لهم، ليملأوا القدس بمسـاكنهم، ويشـغلوها بمواطنيهم، ويوسـعوا حدودها بأحزمـةٍ اسـتيطانيـةٍ كبيرة، تأكل مسـاحاتٍ كبيرة من مدن الضفـة الغربيـة، تُلحقها إدارياً وسـياسـياً بمدينـة القدس، لتُشـكل في المسـتقبل القدس الكبرى، المدينـة اليهوديـة الأكبر والأضخم سـكاناً ومسـاحـة، حيث لا يبخلون في الإنفاق عليها، والدفع فيها، ولا يتأخرون عن جمع التبرعات لها من كبار أثريائهم، ومن عامـة أتباع دينهم، ومن الموالين لهم وللحركـة الصهيونيـة.
وخلال ذلك صادروا مساحاتٍ كبيرة من أراضي المقدسين العرب، المقيمين والغائبين، ووضعوا أيديهم على مقابر المدينة ومتاحفها، وجرفوا بعضها ليبنوا مكانها حديقةً يتنزه فيها اليهود، وأخرى لتكون مكتبةً عامةً يرتادها السياح والزائرون، ويكون فيها كل ما يخص اليهود وديانتهم، والعبرانيين وممالكهم، ولكن ذلك كله على حساب أصحاب الحق، وملاك الأرض.
إنهم يستهدفون المقدسين عموماً، ولا يستثنون من إجراءاتهم أحداً، مسلماً كان أو مسيحياً، فكلهم عدوٌ وهدف، وكلهم يجب أن يخرج من المدينة المقدسة، إذ لا مكان بزعمهم لصليبٍ ولا لهلالٍ، ولا وجود لكنيسةٍ ولا لمسجد، فهذه الأرض المباركة لهم، "قد أقطعهم إياها الرب، ومنحها لأبيهم يعقوب، لتكون له ولذريته من بعد وطناً ومملكة، ومعبداً وهيكلاً"، وقد صدّقوا زعمهم، وعمموا خُرافاتهم، وجعلوا منها عقيدةً وتوراةً، وسياسةً وتلموداً.
وتتواصل جهودهم دولياً لدى كبرى عواصم القرار الدولي، لتعترف بالقدس مدينـةً موحدة، "إسـرائيليـة يهوديـةً عاصمـةً لكيانهم"، ولتنقل حكوماتهم إليها سـفارتها وقُنصلياتها، ولتلتقي بالمسـؤولين الإسـرائيليين فيها، وتحثهم على مخاطبتها رسـمياً، وبإدراج القدس عنواناً للمراسـلـة، وجعلها ضمن برامج الطيران ورحلات السـفر ووفود السـياحـة والجولات الدينيـة، لتُضفي عليها صفـة السـيادة الإسـرائيليـة المطلقـة، ولتنفي عنها شـبـة الاحتلال، ولتُخرجها عن دائرة الصراع والنزاع، فلا تكون محلاً للتفاوض، ولا قضيـةً للحوار والمسـاومـة عليها.
لا تنفك الجهود الإسـرائيليـة تتوالى وتتابع لتنتزع مدينـة القدس جغرافياً من أرضنا العربيـة والإسـلاميـة، ولتُخرجها من قلوب العرب والمسـلمين بمكانتها الدينيـة العريقـة المقدسـة، ولكن هيهات لهم، وأنى لهم ذلك، فإنما هم يُصارعون الله عز وجل في مشيئته، ويُنازعونه جلَّ وعلا في إرادته، الذي أرادها سبحانه وتعالى أن تكون مسرى رسوله ومعارجه منها إلى السماوات العُلى، أرضاً للمسلمين وقفاً، وإن سكنها اليهود وعاشوا فيها ردحاً من الزمن، فإن يوماً بإذن الله قادمٌ لا محالة، وسيكون هو وعد الآخرة، وسيُتبر أصحاب الحق ما علا اليهود طغياناً وفجوراً تتبيراً، وسيتحقق وعد الله الآخر لهذه الأمة بالنصر والتمكين، وبالعودة والتحرير، بجنودٍ وفيالق، وألويةٍ وبيارق، إنهم يرونه بعيداً ونراه بإذن الله قريباً، ويومئذٍ سيفرح المؤمنون بنصر الله المبين، والوعد الإلهي اليقين، بالفتح الآخر الجديد.
واقرأ أيضًا:
إسرائيل أم فلسطين على الخارطة السياسية/ دولة غزة حلمٌ إسرائيلي/ إسرائيل تستقوي بالعرب/ اهتزازات إسرائيلية خفية!/ البابا يعترف في بيت لحم/ الخامس من حزيران السابع والأربعون