مضى 13 عاماً على الأعمال الإرهابية التي حدثت في الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر 2001. وها هي أمريكا تقود الآن تحرّكاً دولياً لمواجهـة نسـخـة جديدة من جماعات الإرهاب، لكنها جماعات بالمضامين نفسـها التي تُسـيء للإسـلام فكراً وممارسـة، وعلى السـاحات العربيـة ذاتها التي تدفع الثمن الباهظ نتيجـة وجود هذه الجماعات والتوظيف الدولي لهذا الوجود ولكيفيّـة مواجهتـه. أيضاً، التساؤلات مازالت مستمرّة حول أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001: هل كانت فعلاً عملاً إرهابياً من صنع جماعة "بن لادن" فقط، أم أنَّ هناك قوًى أخرى داخلية أمريكية أو خارجية قامت بها أو شاركت في حدوثها؟ وهل كان هناك تنسيق أو تفاعل بين"القاعدة" وبين تلك القوى!؟
هذه التساؤلات تتكرّر الآن مع ظهور جماعة "داعش" التي أصبحت فجأةً الخطر الأول الذي يُهدّد "السلام العالمي" والأمن الأمريكي والأوروبي، إضافةً إلى مخاطر وجود هذه الجماعة على المنطقة العربية وجوارها الإقليمي!! لكن رغم أهميَّة التوقّف عند الجهة المسؤولة فعلاً عن الهجوم الإرهابي الذي حدث على أمريكا يوم 11 سبتمبر2001، فإنَّ تداعيات الأحداث بعد ذلك التاريخ جعلت التهمة الأمريكية لجماعة "تنظيم القاعدة"-ـوفي مقدّمتها أسامة بن لادن -تهمة مشروعة، وإنْ لم تكن مثبتة بعد بالأدلّة القانونية الدولية الكافية.
فالتصريحات المتتالية من قيادات "القاعدة"، عقب 11 سبتمبر، باركت كلّها العمل الإرهابي الذي حصل ضدَّ أمريكا واعتبرت أنَّ من قاموا به هم شهداء ومثواهم الجنَّة!! وقد تمضي عقودٌ من الزمن قبل أن نعرف حقيقـة ما حدث يوم 11 سـبتمبر 2001؛ فما زال مقتل الرئيـس الأمريكي (جون كنيدي) مسـألـةً غامضـة رغم مضي خمسـة عقودٍ عليها، وكذلك مقتل الزعيم الأمريكي الأسـود (مارتن لوثر كينج) في عقد السـتينات. فجهاتٌ عديدة غير عربية وغير إسلامية استفادت من هذه الأحداث الإرهابية، كما تستفيد الآن، من سوء طروحات وممارسات جماعات "داعش" وكل الجماعات التي تُمارس العنف الإرهابي تحت أسماء عربية وإسلامية. أمريكا كلّها تعرَّضت لصدمـة زلزالٍ أمني يوم 11 سـبتمبر؛ فلم تشـهد هذه الأمَّـة من قبل حالـة شـبيهـة بما حدث، ولم يتوقَّع أحد في أمريكا، أو في العالم، أن تُسـتخدم الطائرات المدنيـة الأمريكيـة بما فيها من ركّاب وحمولـة "فيول" لدكِّ أكبر رموز أمريكا الاقتصاديـة (نيويورك)، وأكبر رموز أمريكا العسـكريـة (البنتاغون)..!!
كانت صدمةً كبيرة لأمريكا وللعالم كلّه، وبمقدار حجم الصدمة كانت أيضاً حالة السلبية تجاه العرب والمسلمين في عموم دول الغرب، وليس فقط داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
كان المناخ السـياسـي والثقافي والإعلامي جاهزاً لعاصفـةٍ هوجاء وأعاصير ضدَّ كلّ ما هو عربي وإسـلامي في الغرب، وللأسـف، فإنَّ ما صدر ويصدر عن جماعات التطرّف العنفي أعطى ويُعطي وقوداً لنار الحملـة على العرب والمسـلمين أينما كانوا.
ولا تختلف كثيراً الصورة الآن بوجود "داعش" فيها عمَّا كانت عليه عقب هجوم 11 سبتمبر2001، فما زال حال العرب والمسلمين في أمريكا والغرب يتأثّر سلباً بنتائج هذه الممارسات العنفية، وبما يواجهها أيضاً من حملات تشويه وتعبئة عنصرية ضدّ كل ما يمتّ للعرب والمسلمين بصِلة.
لكن الحرب الأمريكيـة على "الإرهاب"، التي أعلنتها إدارة (بوش) في العام 2001، كانت أشـبـه بحربٍ مع الأشـباح حيث "العدوّ" في كلِّ مكانٍ تختاره أمريكا أو تعتقد أنَّـه ملجأ للجماعات الإرهابيـة، بحكم أنّ "العدوَّ" هو "حالـة" وليـس نظاماً أو كياناً.
فـ "الإرهاب" هو حالـة غير متّفقٍ بعدُ دولياً على كلِّ مفاهيمها ومضامينها، لذلك كان يتوجّب على كل دول العالم الاتفاق على مفهوم الإرهاب قبل المضيّ في الحرب ضدّه.
حتماً، ما حدث في نيويورك وواشنطن كان عملاً إرهابياً ومأساةً إجرامية بكلِّ التفاصيل والأبعاد والنتائج، ولم تجد واشنطن من اختلف معها على ذلك، لكن وجدت واشنطن من يختلف معها حول كيفية الردّ وحدوده وأمكنته، وأيضاً حول مدى شمولية مفهوم أمريكا للإرهاب. فمثلاً، مازالت الولايات المتحدة تعتبر أنَّ أيَّ عملٍ عسـكريٍّ ضدَّ الجيـش الإسـرائيلي هو "عمل إرهابي"، حتّى وإن كان وجود هذا الجيـش الإسـرائيلي بشـكل احتلالٍ على الأراضي اللبنانيـة أو الفلسـطينيـة..!! ألم تكن واشنطن (قبل العام 2000، كما هي بعده) ضدّ المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي، رغم أنّ هذه المقاومة امتنعت عن القيام بأيّة عملياتٍ عسكرية خارج الأراضي اللبنانية، واكتفت المقاومة اللبنانية بمواجهة المحتلّ الإسرائيلي وعملائه فوق الأراضي اللبنانية المحتلة؟! أليس التوصيف الأمريكي للمقاومة الفلسطينية المسلّحة بأنها "حركات إرهابية" يستمر لعقود بغض النظر عن الجهة التي تقاوم (إسرائيل)!؟
فالسـؤال الأهم، الذي لم تُجبْ أمريكا عليـه بعد في حربها ضدّ "الإرهاب"، هو تحديد مفهوم الإرهاب نفسـه حتى لا يختلط بتسـميـة الإرهاب حقّ المقاومـة لدى الشـعوب الخاضعـة للاحتلال، وهو حقٌّ مشـروع بكافّـة الشـرائع وبالمعايير الإنسـانيـة.
فذريعة "مكافحة الإرهاب" كانت خلف القرار الأمريكي بغزو أفغانستان أولاً، ثمّ العراق، ثم الحصار والحرب على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة طيلة فترة حكم (شارون) وما بعده، كما كانت هي "العُذر" لحروب (إسرائيل) على فلسطين ولبنان منذ العام 2006 حتّى الحرب الأخيرة على غزّة. وجرت محاولات عديدة في العقد الماضي للتشجيع على أعمال عسكرية أمريكية وإسرائيلية ضدّ سوريا وإيران بحجّة دعم البلدين لمنظّمات إرهابية! إذ يتمّ اعتبار أي دعم "لأعمال عنف" ضدَّ (إسرائيل) بمثابَّة "إرهاب دولي" تستوجب محاربته أمريكياً، إسرائيلياً وعربياً..!!
***
إنَّ مشـكلـة المجتمع الأمريكي تحديداً، أنَّ حكوماتـه المتعاقبـة في القرن الماضي كانت منغمسـةً جداً في عِدَّة قضايا دوليـة، وفي أكثر من حربٍ خارجيـة، حتّى وصلت إلى حدِّ الانفراد بقيادة العالم، بينما المواطن الأمريكي العادي كان أكثر جهلاً من أيِّ مواطن دولـةٍ غربيـةٍ أخرى بقضايا العالم، وبالجغرافيا وبالتاريخ، وحتّى بالنسـبـة لتاريخ أمريكا وجغرافيتها! فالرفاهيـة الأمريكيـة واتّسـاع الأرض الأمريكيـة وعُزلتها الجغرافيـة عن باقي العالم، كلّها عوامل أدّت إلى عدم اهتمام الإنسـان الأمريكي العادي بما يحدث حولـه في العالم، وإلى تقبّل ما تُقدّمـه لـه أحياناً الحكومات الأمريكيـة ووسـائل الإعلام من أكاذيب وتضليل، كمسـلَّماتٍ حول "الآخر" في العالم الآخر.
لذلك غاب التوازن لعقود طويلـة بين مدى حجم التورّط الأمريكي الرسـمي في قضايا العالم، وبين مدى فهم المواطن الأمريكي العادي لهذه القضايا ولما يحدث حولـه في العالم، إلى حين صدمـة 11 سـبتمبر التي كانت بمثابـة صحوة من غفوةٍ زمنيـةٍ طويلـة، لكن الصحوة حصلت بعد كابوسٍ مرعب أخلَّ بالتوازن الجسـدي والعقلي والنفسـي لعموم الأمريكيين والغربيين.
قبل 11 سبتمبر 2001، وخلال عقد التسعينات، زُرعت في نفوس وعقول الأمريكيين والغربيين عموماً أطنان من الكتابات عن "صراع الحضارات.. وحدثت عشرات الحوادث الإرهابية كانت المَلامـة فيها دائماً على "جماعاتٍ إسـلاميـة وشـرق أوسـطيـة".. بينما العديد من المؤسسات الإعلامية الأمريكية والغربية تُمارس غسل دماغ المواطنين بمساحيق إسرائيلية" صباحاً ومساءً.. ذلك كلّه يحدث وكثرة من البلدان العربية والإسلامية تعيش أزماتٍ سياسية واقتصادية وأمنية تُهجِّر المزيد من مواطنيها إلى دول الغرب، حيث يزداد الخوف من هذه الهجرة العربية والإسلامية" وتأثيراتها على هذه المجتمعات الغربية.
هذا هو المزيج القائم الآن في الغرب عموماً بعد 13 عاماً على 11 سـبتمبر 2001، وعشـيّـة التهيئـة الأمريكيـة والغربيـة لإصدار "طبعـة جديدة" من الكتاب المفتوح زمنياً ومكانياً: "الحرب على الإرهاب"، وعنوان فصلـه الأول هو "محاربـة الدولـة الإسـلاميـة"..!!يحدث ذلك الآن في ظلّ ارتفاع أصوات العداء بين "الشـرق الإسـلامي" وبين "الغرب المسـيحي" بينما (إسـرائيل) -التي هي "جغرافياً" في الشـرق، و"سـياسـياً" في الغرب، وتنتمي إلى حالـةٍ دينيـة "لا شـرقيـة إسـلاميـة ولا غربيـة مسـيحيـة" -هي المسـتفيد الأكبر من صراعات الشـرق والغرب، ومن "الحرب العالميـة المتجدّدة على الإرهاب"، وحيث هذا "الإرهاب الإسـلامي الجديد"، كما كان قديمـه في "القاعدة"، يتجنّب محاربـة (إسـرائيل) ويخدم مشـاريعها في إقامـة حروبٍ أهليـة عربيـة وإسـلاميـة..!!
واقرأ أيضًا:
إسرائيليات المدرسة العنفية / شرطان للنهضة تجاوز التاريخ وتصحيح الجغرافيا / أشهرٌ حاسمة لتقرير مصير العرب