قد لا يختلف عربيان على أن ما ظنوا به ربيعاً قبل ما يزيد عن الثلاثة أعوام لن يؤولَ لما آلَ إليه هذه الأيام؛ فما عاد للانتفاضات مكان، ولم يبقَ لأحاديث الحريات والديمقراطية مجال، فذهبت آمال الديمقراطية أدراج الرياح، وبعد أن شـوّهت الدماء والمعاناة الصورة رويداً رويداً، بدا وكأن ربيعهم قد اختُطف بعيداً عما كان يجب أن يكون عليه. ظهرت "النُصرة" فـ "داعش"، فخلطت الأوراق، وأجَّجت من جديد نظريات المؤامرة، فيما رأى آخرون أن ما كان لهذا أن يكون لولا الجهل المستشري بين شعوب العرب، وواقع الأمر هو خليط بين هذا وذاك.
لقد فرح كل عربي بسماع أخبار ثورات العرب _ بإستثناء المنتفعين من الأنظمة السابقة _ وتسابق في بداية الأمر الكثير من المفكرين والكُتاب ليرسموا مستقبلاً متفائلاً للعرب، بعد أن ظنوا أن اللحظة التي طال انتظارها قد جاءت أخيراً. أما الغرب، ورغم بعض التردد والارتباك في بادئ الأمر، رحب _ ولو ظاهراً _ بهذه الثورات، حتى أن أشد منتقدي العرب من كُتاب الغرب ظن في هذه الثورات بداية لدخول العرب في حظيرة الديمقراطية.
تغيّرت المشاعر قليلاً مع الاشتباكات المسلحة في ليبيا، وتسلل القلق إلى قلوب الجميع مع تفاقم الأمور في سوريا، وبدأ المواطن العربي يتسـاءل: هل يجب على شـعوب العرب أن تعيـش في هذه الويلات من أجل الحصول على الحريـة والكرامـة والديمقراطيـة؟ بل، وذهب البعض ليقبل ببقاء الأنظمـة الديكتاتوريـة على الخوض في غمار مآسـي شـاهدوها عبر شـاشـات التلفاز في بلاد "الربيع" المفترض.
سوريا كانت ومازلت ميناء الفُرقة والالتقاء، فتارة تجمع الفرقاء، وتارات تُفرق الرفقاء، حيث كشفت تبايناً واضحاً في سياسات العديد من النُظم والدويلات. ففي حين كانت تصبو السعودية بشكل عام لبقاء الوضع في المنطقة على ما كان عليه قُبيل الربيع المفترض ( Status-Quo )، باستثناء ليبيا وسوريا التي لم يكن يجمعها بهما (أي برؤسائهما) أية علاقة طيبة، كانت تُراهن إيران وتدعم التغيّر الجذري الثوري في المنطقة ( Revolutionary Change ) أملاً في استنساخ تجربتها في المنطقة العربية، باستنثاء سوريا الحليف بطبيعة الحال، أما تركيا فكانت مع التغيّر المتدرج ( Gradual Transition )، أيضاً باستثناء سوريا التي أرادت فيها تغيّرا جذريا وإسقاط نظام بشار الأسد.
وكما كانت سوريا محل خلاف في رُؤى تلك الدول، كان ظهور "النُصرة" ومن بعدها "داعش" في سوريا ومن بعدها في العراق أيضاً محل خلاف بين هذه الدول وغيرها. فعلى الرغم من توافق الجميع على خطورة هذه المجموعات على مستقبل المنطقة بأسرها، إلا أنه وحتى اللحظة لم يتشكل بعد أي توافق حقيقي بشأن محاربتها بشكل جدي أو إزالتها. فبالنسبة لبعض القوى الإقليمية، إضعاف هذه المجموعات لا يعني فقط إبقاء الأسد، بل تقويته واسترداد نفوذه في المناطق التي تسيطر عليها هذه المجموعات. قوى إقليمية أخرى ترى في إضعاف هذه المجموعات تقوية لمجموعات أخرى كحزب العمال الكردستاني و/أو الميليشيات الشيعية في هذه المناطق. قوى أخرى ترى أن إزالة هذه المجموعات سيُزيل أحد أسباب لجوء دول المنطقة للقوى الكبرى في محاربتها للجماعات الجهادية. وعليه، فلم يكن من المستغرب أن نسمع عن توافق أو تحالف لبعض الدول العربية مع (إسرائيل) في مجابهة مخاطر متعددة لم تكن يوماً في الحُسبان، فتقاطعت المصالح وغُيّبت المبادئ في قضايا قوميـة أصيلـة.
وكان ظهور نائب الرئيس الأمريكي ليكيل الاتهام لبعض الدول بدعم هذه المجموعات مفاجئاً للغاية، فهو خروج غير مألوف عن سلوك السياسة، ثم أنه قد تناسى أمراً غاية في البساطة والأهمية، وهو أن معظم القوى العالمية والإقليمية، قدمت الدعم المالي و(اللوجيستي) والعتاد العسكري، لأي وكل مجموعة _ بغض النظر عن خلفيتها _ من أجل محاربة الأسد وإضعافه.
وكما كانت الولايات المتحدة الأمريكية كلمة السر وراء سخط الشعوب على حكامهم في هذا "الربيع" المفترض، والذين اتهموا حكامهم طويلاً بولائهم لها، ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية مجدداً لتؤكد أنها تحمل العلامة الرائدة في سخط شعوب المنطقة؛ ففي اللحظة التي أعلنت عن بدء حملتها العسكرية ضد "داعش"، بدأت أعداد المتطوعين في صفوف هذه المجموعات تزداد بشكل متسارع، حيث سُجل انتساب أكثر من ستة آلاف متطوع في "داعش" منذ إعلان بدء عمليات القصف الجوي الأمريكي وحلفائها.
وكان في ظهور "داعش" السريع، وسيطرتها على مساحات واسعة من أراضي سوريا والعراق سبباً في تأجيج الشعور بوجود مؤامرة تُحاك على هذه المنطقة. وعلى الرغم من أن بعض المحللين رأوا في العمليات الجوية الأمريكية سبباً في دحض أية ادعاءات بوجود مؤامرة، إلا أنني أجد في هذا الرد ضعفاً لأسباب عدة.
فبعيداً عن مدى دقة ما نُسب في وثيقة الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA) (إدوارد سنودين) حيث أفاد بأن وكالة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، إضافة إلى الـ (موساد)، قد عملوا سوياً من أجل خلق "دولة إسلامية" في العراق وسوريا من أجل جذب جميع المتطرفين من بقاع الأرض، يوجد أسباب أخرى تدعو للنظر جدياً في وجود خيوط لمثل هكذا مؤامرة:
أولاً: شهد جميع المراقبين بأن الضربات الجوية على "داعش" لا تُحقق ضرراً حقيقاً على بنية ونشاط هذا التنظيم، وكأنها عمل شكلي ترويجي ليس إلاّ، حتى أن السناتور الأمريكي (جون ماكين) قال لمحطة CNN يوم السابع من أكتوبر الماضي أن تمدد "داعـش" المسـتمر يؤكد على عدم فاعليـة هذه الضربات.
ثانياً: حمل تحرك الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها المتأخر الكثير من المعاني والتي تذهب في ذات الخلاصة؛ فعلى الرغم من حجم الجرائم التي ارتُكبت، لم يتم التحرك إلا بعد أن تضخمت هذه المجموعـة بشـكل كبير، وأصبحت وفق خبراء الاستخبارات "الأكبر والأخطر".
ثالثاً: حتى وإن قامت الولايات المتحدة بضرب وإيذاء "داعش"، فإن هذا لا ينفي بطبيعـة الحال وجود دور أمريكي في خلق أو تمويل هذا التنظيم، ولقد قدم التاريخ لنا الكثير من الأمثلة (نورييجا بنما على سبيل المثال) والتي قامت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية بضرب وخلع حلفائها حين تضاربت المصالح.
في هذا السياق، يقول إسماعيل حسين زاده في مقاله "فوضى مخططة في الشرق الأوسط _ وما أبعد" والتي نُشرت في Counter Punch يوم 18-20 يوليو 2014، أن السـياسـات غير المتسـقـة وغير المنطقيـة والمتناقضـة للولايات المتحدة الأمريكيـة هي في واقع الأمر فوضى تُمثل نجاحاً وليـس فشـلاً، حيث تصب في مصلحة المسـتفيدين من الحرب وصناعة السـلاح، ويُضيف زاده بأن بذور هذه الفوضى بدأت منذ ما يُقارب من 25 سـنـة على الأقل، أي منذ سـقوط حائط برلين.
ولكن علينا أن نُقر جميعاً بحقيقة أن ما كان لهذه الفوضى أن تحدث دون انتشار الجهل وتراجع معدلات التعليم لدى المواطنين العرب، والتي جاءت نتيجة لسياسات أنظمة وديكتاتوريات أدانت بالولاء للولايات المتحدة الأمريكية. تجهيل الشـعوب، وجعل الكتاب أبعد صديق عن المواطن العربي سـهّل عمل الجماعات المتطرفـة، التي اسـتغلت تقاطع الجهل مع اليأس، إضافـة للسـخط على حُكام العرب والنقمـة على الغرب.
هي فوضى، ولكنها بكل تأكيد غير خلاَّقة، فهي فوضى تلتهم مقدرات العرب البشرية وغير البشرية، وإن اعتقد من اعتقد أن هذا الطريق هو سبيل إيقاف عجلة التغيّر الديمقراطي في المنطقة، خوفاً على مصالحه فقد أصاب، ولكن إلى حين، أما من ظنَّ بأن هذا السبيل هو الأمثل لاستمرار استغلال ثروات هذه المنطقة فقد وهم، فمع اتساع حجم هذه الفوضى، ستخرج عن حدود هذه المنطقة، وستأتي نارها على البعيد والقريب على حد سواء، فلا مناعة لأحد من هذا البلاء، ولا حماية لحضارة من هذا الوباء.
إذا كنتَ لا تقرأ إلا كل ما توافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
واقرأ أيضا:
غموض مفهوم الإرهاب ووضوح المستفيدين منه // إرهاب المعتدلين / الاستقطاب بين الخيانة والإرهاب / إرهاب المقاومة بالإرهاب