محاولة استثارة المشاعر الدينية لن تُجدي نفعاً لتوجيه بوصلة عموم الأمة نحو قضية فلسطين؛ كون فلسطين قلبها القدس، التي لها قُدسية ومكانة كبيرة لدى الأمة... فقبل حوالي 1120 سنة اقتحم القرامطة البقعة الأكثر قداسة عند المسلمين وقتلوا الحجاج وانتزعوا الحجر الأسود من مكانه وبقي بحوزتهم 22 سنة، وخلالها لم تتحرك نخوة الأمة لتصحيح هذا الوضع، وردع الإجرام والمجرمين... وبعدها بحوالي 175 سنة دخل الفرنجة إلى مدينة القدس فقتلوا عشرات الآلاف من أهلها وتحوّلت بعض جدران المسجد الأقصى إلى مرابط لخيول جنودهم، وعمَّ الصمت المريب في بغداد ودمشق والقاهرة، واستمر الحال المزري هذا حوالي 90 سنة... وعليه فإن للأمـة سـوابق في تبلّد الأحاسـيـس والمشـاعر، ونقص هرمون النخوة فلن أُتعب نفسي بالضرب على هذا الوتر، في هذه المرحلة، وقد يستيقظ هذا الشعور يوماً ما، ولكن حتى ذلك الحين لنتحدث بلغة أخرى..
الفلسـطيني يظن أن مشـكلتـه أم المشـكلات، وقضيتـه أهم قضيـة في العالم، ويريد أن يُقنع الجميع بهذا الأمر؛ هذا ما قيل ويُقال، فأين الحقيقـة؟ ألا يشـهد العالم صراعات وحروب لا تقل شـراسـة بل هي أكثر دمويـة وتدميراً من الحروب التي شـنتها الحركـة الصهيونيـة على الشـعب الفلسـطيني؟ وبخصوص العرب ألا يعيشـون ظروفاً صعبـة وقاسـيـة عموماً؟ ألا يُعانون من الاسـتبداد السـياسـي وتغوّل الدولة البوليسـيـة؟ ألا ينتشـر في بلاد العرب الجهل والفقر والبطالـة والتخلف؟ أليـس من الأجدى خلاص العرب من مشـكلاتهم المسـتعصيـة، ثم بعد ذلك يتفرغون لتحرير فلسـطين، وتخليص المسـجد الأقصى من براثن التهويد؟ ثم كيف تريد من جموع الأمـة أن تُحرر فلسـطين ودونها أنظمـة تعمل على تحقيق أمن (إسـرائيل) بإخلاص يُثير دهشـة حتى قادة (إسـرائيل) أنفسـهم!؟ أليـس الأولى إزالـة هذه الأنظمـة كمقدمـة لتحرير فلسـطين؟
والحقيقة أن فكرة محاربة الأنظمة العربية قبل محاربة (إسرائيل)، كانت مطروحة قبل أكثر من نصف قرن، وظهرت شعارات بأن الطريق إلى القدس يمر عبر العاصمة العربية كذا أو كذا... وكان وقتها التيار اليساري والقومي قد سلب كثيراً من الناس عقولهم وتبنى هذه الفكرة؛ وبعد تغيّر الزمن وتبدل الأحوال جاء تيار هو نقيض كامل لهؤلاء وهو تيار السلفية الجهادية بنفس الفكرة، أي أن القوميين واليساريين وبعض الوطنيين العروبيين يختلفون عن السلفيين الجهاديين في الفكر والسلوك والمنطق والهدف النهائي، بل هما نقيضان وبينهما عداوة وبغضاء، ولكن يلتقي التياران على فكرة تأجيل التفكير في تحرير القدس!
مركزيـة قضيـة فلسـطين تتضمن القناعة التامة أن مشكلات المنطقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مصدرها وجود السرطان (إسرائيل) في قلبها، وليس هذا فحسب، بل ضرورة العمل على إزالة الورم السرطاني من جسد الأمة قبل أي شيء آخر... أما الانشغال بمعارك أخرى فكفيل باستنزاف طاقات الأمة البشرية والمادية دون أن يحسم طرف الصراع إلى صالحه؛ سواء أكانت الصراعات عرقية أو مذهبية أو سياسية.
ولو فكرنا قليلاً نرى أن السـلاح يدخل مناطق النزاعات المختلفـة حولنا بحيث يكون في متناول يد حتى الأطفال الصغار؛ فيما نرى أهل القدس يلجؤون إلى سـياراتهم وسـكاكين المطبخ ليذودوا بها عن مدينتهم التي يُفترض أن تحريرها مسـؤوليـة الأمـة بأسـرها... هذه الأمـة المشـغولـة بالاقتتال الذي لن يُفضي إلى شـيء... أفلا تتفكرون في هذا يا قوم!؟ فالسـلاح محرّم بقوانين دوليـة جائرة على شـعب أرضـه محتلـة ويتعرض للقتل البطيء والسـريع، فيمَ هذا السـلاح أشـبـه بسـلعـة رخيصـة في مناطق اقتتال أخرى حولها!
وبصراحة أكبر أقول بأنه لو أعلنت القوى السياسية، خاصة الإسلامية، أنها ستكون في حالة تصالح مع النُظم الحاكمة، إذا شرعت هذه النظم بتوجيه بوصلتها نحو القدس، فعلاً لا قولاً، بل بأنها ـــــ أي القوى لمذكورة ـــــ على استعداد للتحول إلى جمعيات خيرية، والتخلي عن العمل السياسي تماماً، في حال قبلت النُظم العرض، فإن الوضع سيكون محرجاً للأنظمة ولن تعود إلى تقمص الدور الذي اعتادت عليه منذ عشرات السنين؛ بزعمها أنها مع فلسطين قلباً وقالباً؛ فعندها ـــــ على الأغلب ـــــ سترفض الأنظمة هذا العرض وتبدأ باختلاق مبررات واضح زيفها تماماً، وساعتها تكون هذه الأنظمة قد انتحلت تماماً شخصية وكيان سيء الذكر أنطوان لحد ولن تتمكن بعد ذلك من ادعاء ما تدعيه وما ادعته عبر سنين طويلة... وحتى تُقدم القوى السياسية على تلك الخطوة كاستراتيجية لا تكتيك أو مزايدة إعلامية مثل رفع شعارات واهية مثل «افتحوا لنا الحدود للجهاد» وغيرها، فإن الصراع مع الأنظمة تعتريه شُبهة من وجهة نظر شريحة لا يُستهان بها من الأمة من ناحية، كما أنه يستنزف الوقت والجهد والدم من ناحية أخرى...
وعلى سبيل المثال لا الحصر لو أن د.محمد مرسي شنّ حرباً سياسية وإعلامية عبر خطابات وتصريحات ضد الكيان الصهيوني، لزاد الالتفاف الشعبي حوله، صحيح أنه لم يكن لديه سلطة حقيقية على مؤسسات الدولة العسكرية والقضائية والإعلامية، لكن لسانه كان طليقاً، وعندها كان الانقلاب عليه سيأخذ طابع التعاون العلني مع (إسرائيل)، وليس ـــــ كما يُصوره بعض الإعلاميين وجمهورهم ـــــ بأنه لصالح قضية فلسطين، ولكن الرجل انتهج سياسة تأجيل قضية فلسطين ليُثبت أقدامه في مصر أولاً، والنتيجة واضحة... كلمة السر لحل مشكلات العرب المستعصية هي القدس.
ولقد جرَّب العرب والمسلمون كل شيء، ولكنهم لم يُجربوا جعل فلسطين والقدس بوصلة حقيقية لتحركهم، فلماذا لا يحاولون الآن... نعم الآن... فالوقت مناسب في ظل التيه والصراعات المذهبية والعرقية، وتصفية الحسابات التي لن تقود إلى شيء يفيد صالح الأمة، والأهم هذا يغضب ربّ هذه الأمة، سبحانه وتعالى!
حينما تتوصل الأمة بعامتها وخاصتها أن أساس مشكلاتها ونكباتها يعود إلى احتلال فلسطين وتعمل على إزالة هذا الاحتلال فإن مشكلاتها الأخرى ستُحل وبنسبة كبيرة جداً... وإلا ستظل الأمة تائهة تتصارع على ما دون قدسية القدس؛ من مباريات كرة القدم، وحتى الخلافات المذهبية التي جذورها أحداث مضت عليها قرون وباتت في ذمة التاريخ، ونزاعات تذكرنا بأيام الجاهلية وحروب داحس والغبراء والبسوس وبعاث!
واقرأ أيضًا:
الاستثمار الإيراني واللااستثمار العربي/ أزمة قراءة أم أزمة كتاب؟/ الكُنُس اليهودية في القدس ودورها في دعم التهويد والاستيطان