ترافق مرور 67 عاماً على "نكبة فلسطين" مع اعتراف البابا فرنسيس بدولة فلسطين، ودعوته إلى بدء مفاوضات فيما يتعلق بمؤسسات الفاتيكان في الأراضي الفلسطينية. هذا الموقف دليل على أن الفاتيكان بات يتعامل مع دولة فلسطين، لا منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي، هو يُرسخ حق الفلسطينيين في الأراضي المغتصبة في القدس الشرقية والضفة الغربية. كما يُشكل موقف البابا رداً حاسماً على تعامل (إسرائيل) مع قطاع غزة على أنه "كيان عدائي"، وهي ذريعة تستخدمها، لكي تُبرر الحروب التي تشنها على سكان غزة.
يُضاف إلى ذلك، أن الاعتراف يترافق مع تطويب راهبتين فلسطينيتين، مريم بواردي وماري ألفونسين غطاس، إضافة إلى راهبتين من فرنسا وإيطاليا. وينبغي أن يُشكل تطويب القديستين حافزاً معنوياً لاستئناف شعب فلسطين نضاله، إذ يُشكل ذلك رداً أخلاقياً وقانونياً على استمرار (إسرائيل) في الإمعان في خرق القانون الدولي وقرارات هيئة الأمم المتحدة ذات الصلة، بالإضافة إلى مواصلتها التمدد الاستيطاني، ما ينفي عنها صفة "الاحتلال" فقط، ويُحولها إلى دولة كولونيالية تغتصب الأراضي الفلسطينية. وقد احتفل الفاتيكان، بتطويب الراهبتين، بحضور عدد كبير من الفلسطينيين، في مقدمتهم الرئيس محمود عباس، وكذلك سفير جامعة الدول العربية، ناصيف حتى، بالإضافة إلى دبلوماسيين آخرين.
وقد اعتبر رد الفعل الإسرائيلي الرسمي الخطوة "مخيبة" و"محبطة"، وهو ما كان متوقعاً. فالحكومة الحالية التي يترأسها (بنيامين نتنياهو) هي الأكثر يمينية في تاريخ (إسرائيل)، وترى في قرار الفاتيكان امتثالاً للقانون الدولي وشرعية قيام دولة فلسطين، كما ضرورتها الملحة. كما يخشى الإسرائيليون أن تُساهم هذه الخطوة في تعبئة الرأي العام الدولي، للالتزام العملي بتسريع قيام دولة فلسطين، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، لكن حكومة (نتنياهو) اليمينية فضحت نياتها العدوانية تجاه الفلسطينيين، وعدم جديتها في إحقاق السلام، عندما اعتبرت أن إعلان البابا فرنسيس "يُعزز القضية الفلسطينية على حساب (إسرائيل)". نعم، من شأن هذا الاعتراف أن يُدين، وليته يردع، استيطان (إسرائيل) المستمر، وخرقها القوانين الدولية وحقوق الفلسطينيين.
لكن، يعتبر (نتنياهو) أن كل اعتراف بدولة فلسطين هو بمثابة "تعبئة ضد الشعب اليهودي" أو "عداء لليهود"، من دون أن يُدرك أن محاولة الابتزاز هذه، والتي تلعبها (إسرائيل) منذ تأسيسها، أضحت مفضوحة، ولا تؤثر كثيراً في الرأي العام الدولي. ومن الجلي أن العالم بات يرى أكثر وأكثر أن ما تقوم به (إسرائيل) غير شرعي وغير أخلاقي. لذا، فإن محاولة (إسرائيل)، والصهيونية العالمية من ورائها، اجترار خطاب "الضحية" لن تؤول سوى إلى رد فعل عكسي، بحيث تُسلط هذه الشعارات الضوء أكثر على عدوانها وأنشطتها الاستيطانية وحروبها الإجرامية في غزة، وفصلها العنصري. لم تعد المحاولات الصهيونية لإعطاء نوع من الحصانة للممارسات الإسرائيلية ناجحة، كما كانت في السابق، كما لم تعد هذه الدولة فوق أي انتقاد.
منذ انتخابه، سخّر البابا فرنسيس جهوده لخدمة كل مشروع إنساني، وقد فاجأ العالم بتواضعه. إن الثقة التي يتمتع بها والإعجاب الذي حظي به لم يعد محصوراً في أعضاء الكنيسة الكاثوليكية، بل طال جميع البشر، الأمر الذي جعله نافذاً على مستوى العالم. بات البابا يلعب دور القائد المتواضع، الملتزم بتمكين الفقراء، وتصحيح الانحراف، والانفتاح على عالمية قضايا حقوق الإنسان، ومقاومة الغُبن، وتجنب الإملاء واتباع أسلوب الإقناع. ولم يعد نفوذه محصوراً في معالجة مسائل الدين، بل بات اليوم مؤتمناً على إيصال صوت من لا صوت لهم. إن إعلان البابا فرنسيس الاعتراف بدولة فلسطين مفاجأة سارة، وسط الإحباط السائد اليوم، وعلى الشعب الفلسطيني أن يتلقف مبادرته ويستأنف نضاله ومقاومته، لاسترجاع مكانة فلسطين بوصلة الأمة العربية. وفي النهاية، لا يسعنا سوى القول، شكراً لك بابا فرنسيس، لأنك تُضيء الطريق أمام من تقطّعت بهم السُبُل.
واقرأ أيضاً:
البابا يعترف في بيت لحم/ المعرفة والقوة!!/ الفرق بين العلم والمعرفة والفهم/ نحو مجتمع يدعم المعرفة في زمن الضغوط/ المعرفة داء مرض الأوهام