بلاد العرب.... ما أن يتوقف صراع في بقعة، وإذ بصراع جديد يشب في بقعة أخرى، وما أن تهدأ ولو مؤقتاً نيران في بلد، وإذ بحريق كبير يشتعل في بلد آخر، وبدا وكأنه نظام إقليمي جديد، تتشكل ملامحه بمعطيات جديدة مختلفة عن سابق المعطيات، ويتحرك الفاعلين فيه، بشخصيات جديدة وآليات ومفرزات عديدة. كان بروز دور الفاعلين غير الدوليين أهم معطيات هذا التغير، وتدحرج دورها ليُصبح مارق للحدود وعابر للبلاد، غير آبه بأحكام الواقع، الذي حكم المنطقة لعقود طويلة.
كان للفاعلين غير الدوليين -وتحديداً الحركات الإسلامية- دوراً محدوداً قُبيل ثورات العرب أو ما سُمي بـ "الربيع العربي". وقبل التطرق لدور الحركات أو الفاعلين غير الدوليين، يجب الإشارة إلى أن تسمية "حركات الإسلام السياسي" أو "حركات الإسلام المعتدل" هي مصطلحات وصفية تُعطي صِبغة معينة بعيداً عن المضمون؛ فالإسلام دين شامل جامع لا يصح إلصاق صفة السياسة أو صفة الاعتدال به، ودون غيرها من الصفات. وما هذه التسميات والمصطلحات إلا إبتكارات "خلاّقة" للتفريق بين مجموعات وأخرى.
فعلى سبيل المثال، ارتأت قوى الغرب فرض وصف "الإسلام المعتدل" لتبرير التعامل مع جماعات دون غيرها في المنطقة، ويمكن للقارئ أن يسرح بذهنه ليُشكل حدود المقصد من كلمة "التعامل" ـــــ إبتداءً من التعاطي والاتصال وصولاً للتحالف والتجنيد وتوجيهها لخدمة أهداف بعينها. من جهة أخرى، لم ترَ الكثير من هذه الحركات أي لغط من وصفها "بالمعتدلة" أو "السياسية" إن كان هذا يُعطيها مساحة أوسع من العمل في المجتمعات، ويُفرقها عن جماعات أخرى تنتهج سلوكاً عدوانياً أو عنيفاً ودموي.
وعليه، فإن كان لنا وضع توصيف أدق لهذه الحركات، يمكنا وصفها بالحركات ذات التوجهات الإسلامية فقط دون إلصاق أي صفات أخرى، فجميعها يُنشد هدف واحد ـــــ عودة الحكم الإسلامي (كدولة أو حكم)، والفارق يكون فقط في العامل الزمني الذي يؤثر على المنهج، فمن يرى من هذه الحركات أن التغيير يجب أن يكون تدريجياً وبطيئاً، تكون سياساته غالباً سلمية، ومن يرى من هذه الحركات أن التغيير يجب أن يتم بشكل فوري، تتسم سياسته وأفعاله بالعنف وفرض التغيير بالقوة.
وفي عودة إلى دور الحركات أو الفاعلين غير الدوليين، نجد أن حركة "حماس" و"حزب الله" إضافة إلى "القاعدة" كانوا الأبرز ظهوراً قُبيل أحداث ما يُسمى بـ "الربيع العربي". ولكن، ثورات العرب أبرزت دوراً واضحاً لا يختلف عليه إثنان لهذه الحركات، بل بدا دورها طاغياً على دور الكثير من دول المنطقة، وفرض سياسات بعينها على عواصم كبرى دول العالم. وفي الوقت الذي استغرقت مفاهيم (كالعولمة) عقوداً لتخترق الحدود السياسية التقليدية، ألغت هذه الحركات في وقت قياسي حدودا رُسمت في بدايات القرن الماضي (اتفاقية سايكس بيكو). تمدد الفاعلون غير الدوليين في بلاد العرب بشكل عرضي، وتولد عنها فاعلون أصغر لا يقل دورهم خطورة عن دور الفاعلين الأم.
انتشرت هذه الحركات بأسماء مختلفة (كالقاعدة وجبهة النُصرة ـــــ داعش أو تنظيم الدولة ـــــ حركة الحوثيين ــــ والمجاهدين وغيرها) في شبهة الجزيرة العربية والعراق والشام، وصولاً إلى شمال أفريقيا، ولا يبدو أن تمدد هذه الحركات سيتوقف عند أي حد معلوم؛ فقد أثبتت هذه الحركات أن لديها قوة تنظيمية و"لوجيستية" لا ترتبط بالعنصر البشري، فتعداد عناصر هذه التنظيمات المحدود لا يعكس إطلاقاً حجم "الإنجازات" التي حققتها في وقت قياسي. العنصر الأهم في هذه المعادلة هو التحالفات والارتباطات الإقليمية والدولية لهذه الحركات، حيث توفر لها عنصري الدعم المادي و"اللوجيستي" (العسكري)، وإن كان في الكثير من الأحيان بعيداً عن الأضواء.
فرضت هذه الحركات أجندات محددة على دول المنطقة والعالم، وتكاد لا تخلو أية مؤتمرات أو قمم من الإشارة لهذه الحركات وكيفية التعامل مع الأزمات التي خلفتها. ويمكن لنا القول أن أنشطة هذه الحركات في سوريا والعراق شكّلت مثالاً واضحاً لتشابك الأهداف والعلاقات، والتخبط الدولي والإقليمي الذي خلفته. فبعض دول المنطقـة آثرت دعم بعض هذه الحركات، أو على الأقل غض الطرف عنها وعن نشـاطاتها وتحركات عناصرها، بُغية إضعاف قوى وحركات أخرى (كحزب العمال الكردسـتاني وحزب الله) أو إلحاق الأذى بنظام الأسـد بشـكل عام. من جهـة ثانيـة، القوى الغربيـة التي ترى في "حزب الله" حركـة "إرهابيـة" لم تعترض على تحركات ونشـاطات "حزب الله" في سـوريا في سـبيل إضعاف جميع الأطراف المتناحرة، وإضافـة العنصر المذهبي على الصراع... أما الولايات المتحدة الأمريكيـة فقد اسـتغلت وجود هذه الحركات لتسـوق لحلفائها في المنطقـة أهميـة دورها "كمورد" للسـلاح والعتاد، و"كمسـتشـار" يُزودها بالخبرة والمعلومات، و"الحامي" من خلال الضربات الجويـة ـــــ وقد أشـارت العديد من التقارير إلى القفزة النوعيـة في عائدات صادرات السـلاح الأمريكيـة في السـنوات الأخيرة.
روسيا التي تعلم أن أحد أهداف الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني هو زيادة الضغط عليها وإلحاق الضرر باقتصادها (حيث أن الاتفاق سيؤدي حتماً لدخول منافس كبير في سوق البترول وبالتالي انخفاض في أسعار النفط) لم يكن لها خيار سوى مباركة هذا الاتفاق أملاً في تأمين مصالحها في المنطقة وخاصة مع علمها بأهمية شبكة حلفاء إيران والحركات التي تُدين لها بالولاء في المنطقة.
هؤلاء الفاعلون -غير الدوليين- أصبحوا واقعاً وجزءً من هذه المنطقة، ورغم الاعتراضات المتكررة من دول المنطقة على وجود هذه الحركات، ورفض جميع الأنظمة لفرضية أن المنطقة تتجه إلى (سايكس ـــــ بيكو) جديد، إلا أن مجريات الأمور تُشير إلى عكس ذلك؛ فمنذ بدء الضربات الجوية الأمريكية على تنظيم الدولة "داعش"، تمدد التنظيم لمساحات أوسع بكثير عما كان عليه قبل بدء هذه الضربات، وأصبحنا نرى مقاتليه أكثر تدريباً وتسليحاً، وباتت فعاليتهم الإعلامية واضحة تماماً، على الرغم من مزاعم الرقابة الدقيقة على الإنترنت والأقمار الصناعية. نجاح وتمدد تنظيم الدول حفز آخرين إما لمبايعتهم أو الحذو حذوهم، وبات خطر هذه الحركات يدق أبواب عواصم المنطقة بعد أن فقدت مناعتها في أعقاب ما يُسمى بـ "الربيع العربي".
ورغم التشـكيك الدائم في ظروف نشـأة معظم هذه التنظيمات، وأهدافها الحقيقيـة (غير المعلنـة)، والتحليلات الكثيرة التي أظهرت ملامحاً مُريبـة في أفعال هذه الحركات، إلاّ أن المنطقـة تراها تنزلق، لا إرادياً، صوب نهايـة يبدو أن آخرين قد رسـموها، وبطبيعـة الحال كان تشـويـه صورة الإسـلام بشـكل عام أهم إنجازات هذه الحركات، ناهيك عن الإسـاءة إلى وإضعاف دور مقاومـة (إسـرائيل)، التي بدأت تدخل ديناميكيات هذه المنطقـة عبر بوابـة هذه الحركات؛ فبعد أن ضمنت (إسـرائيل) مناعتها عن أيـة آثار لصعود أولئك الفاعلين، بدأت تشـبك علاقات على مسـتويين: الأول مع العديد من أنظمـة المنطقـة (التي تشـابكت مصالحها معاً ولو من الناحيـة النظريـة)، والثاني مع بعض هذه الحركات لخدمـة مصالح اسـتراتيجيـة تزيد من حالـة الشـقاق في المنطقـة وإضعاف القوى التقليديـة العربيـة إضافـة لإبعاد الأنظار عن (إسـرائيل) وجرائمها.
وفي الختام يُمكننا القول بأن اللقطات تكررت وتشـابهت، في اليمن وفي ليبيا، في العراق وفي سـوريا، دمّرت بيوتاً، بل أحياءً، لا بل بلدات، مسـلحون مقنعون، وبعضهم ملتحون، يمتطون مركبات، يُطلقون نيران كثيفـة وصليات، صوب هدف غير موجود، ولكنها بكل تأكيد سـتخترق جسـد عربي آخر غير معروف، مخلفين أرقام جديدة من القتلى، من الثكلى، من اليتامى ومن لاجئين جُدد، يبكون حاضرهم، يتحسـرون على يومٍ جفف العرب فيـه أنهار مجدهم، يوم وأدوا فيـه عزتهم ونحروا فيـه وحدتهم.
ففي ليلـة سـوداء طالت حُلكتها وضلَّ في ظُلمتها جميعنا السـبيل، بدا وكأننا اليوم بحاجـة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى عمر مختار جديد، ليكون مثلاً أعلى لجيل عربي مُحبط حزين، لم يرَ سـوى نكسـات بعد نكبـات وفُرقـة ينشـدها عدونا البعيد... نحتاج لصلاح دين جديد، يوحد المتفرقين ويجمع المتشـرذمين ويُعيد مجد تليد، يوقف نزيف كرامـة، ويضع حد لإهدار مقومات أمـة، كانت ذات يوم أرقى منارة علم، وأعذب ينبوع حضارة عرفتها البشـريـة على مر السـنين...
واقرأ أيضا:
هكذا ينظرون إلينا.... هكذا يُريدوننا/ الربيع العربي أفول أباطرة البلاد وصعود دكتاتوريات الحارات/ إسرائيل ما بين حديث السلام الوهمي وخطر الوجود الافتراضي/ فلسطين بين عبرات شعب وعثرات قضية!/ الهجوم على سورية سقوط الأقنعة!/ ثورات العرب الجديدة: نظرية مؤامرة أم إرادة أمة