كان يتحدث في أحد الندوات العلمية (أو المفترض أن تكون علمية) وذلك يوم 4 يونيو 2015م أي عشية ذكرى نكسة 5 يونيو 1967م، وطوف في كتب التاريخ القديمة والحديثة وانتقى منها ما شاء وذكر المصادر التى رجع إليها (ليوحي للمستمع بأن مايذكره علما راسخا، وقد نجح فعلا في ذلك كما ينجح دائما)، وكان طول الوقت يحاول أن يثبت ويؤكد أن المصريين هم أفضل البشر وأنهم أصل البشر وأذكى البشر وأنقى البشر منذ عصر الفراعنة وحتى الآن وأنهم يغيرون التاريخ ليس فقط حين كانت لهم حضارة قديمة وعظيمة وإنما حتى الآن حين أحبطوا مؤامرات العالم ضدهم وحين أصبحوا مركز اهتمام الدنيا بقراراتهم وخطواتهم وحين أذلوا الدول العظمى.
وذكر من ضمن ما ذكر بحثا نسبه إلى بعض المصادر الغربية يفيد بأنه قد أجريت دراسات جينية على عدد كبير من المصريين فوجدوا تجانسا جينيا في المصريين بنسبة 97%، أي أن المصريين يتمتعون بنقاء جيني عن بقية شعوب الأرض، وهذا عكس ما يؤكده التاريخ من اختلاط المصريين بكل شعوب الأرض سواء الذين استعمروا مصر وحكموها (وهم كثرعبر التاريخ) أو فتحوها أو زاروها أو جاءوا ليستوطنوها، ومن يمشي في شوارع مصر يرى خليطا متباينا من البشر في لون بشرتهم وعيونهم وشعرهم وهيئتهم ولهجاتهم وملابسهم وعاداتهم... إذن من أين أتى هذا النقاء الجيني أو هذا التجانس المزعوم؟!!! ... حقا إنها الفهلوة والفبركة والحداقة وخفة اليد المصرية ليس إلا.
وقد زاد المحاضر في موضوع الجينات هذا فذكر أن الباحثين اكتشفوا أن جينات الآسيويين مأخوذة من الجينات المصرية، وهذا محض هراء وافتراء، إذ لا يثبت ذلك أمام أي حقيقة تاريخية أو جغرافية، كما أن التركيبة الجسمانية للأسيويين تختلف بشكل واضح عن تركيبة المصريين.
إنها نفس فهلوة "عبعاطي" الذي ادعى في محفل رسمي عالي المستوى أنه اخترع جهازا مصريا يكتشف ويعالج أمراضا كثيرة على رأسها الإلتهاب الكبدي والإيدز، وأنه يسحب الفيروس من الجسم المريض ويحوله إلى "صباع كفتة" يعيده للمريض ليغذيه، والغريب أن أطباء ومسئولين ومثقفين كبارا في مصر صدقوه وصفقوا له وهاجموا وشتموا كل من اعترضه أو انتقده، ووصفوا هؤلاء المعارضين والناقدين بالحقد والغيرة وانعدام الوطنية.
إنه التلفيق العلمي، أو العلم الكاذب الذي يوهم المستمع من كثرة ما يسوق من المصادر والمراجع والأسماء الأجنبية أن الشخص يتحدث علما، بينما هو يلفق علما أو يسوق شيئا شبيها بالعلم يدلس به على مستمعيه، وكثيرا ما يتمتع هؤلاء المدلسين بقدرة فائقة على الإقناع والترويج والتسويق والكاريزما، فصاحبنا له الكثير من المعجبين والمريدين، وهو ضيف دائم على وسائل الإعلام والندوات والمؤتمرات، ويشار إليه على أنه مفكر مصري وباحث في الحضارة المصرية القديمة. وقد كنت أصدق بعض ما يسوقه من معلومات مبهرة عن الحضارة المصرية القديمة حتى جمعني به لقاء كان يحضره أحد علماء الآثار الكبار (الحقيقيين) فوجدته يعترض على كل ما يقوله صاحبنا عن الحضارة المصرية القديمة ويعتبر ذلك من الشطحات والمبالغات التي لا تحتاجها الحضارة المصرية للتدليل على عظمتها وروعتها التي يعرفها الجميع.
الغريب أنه كان يقول هذا الكلام في حشد كبير من الأطباء وأساتذة الجامعات والمثقفين والإعلاميين، والذين انتشوا بالمحاضرة وخرجوا منها (على الأقل معظمهم) وهم في حالة طاووسية تكاد رقابهم تطال عنان السماء، إذ ذكر لهم المتحدث أنه ما من اكتشاف على وجه الأرض إلا وسبق إليه المصريون القدماء وما من كلمة في اللغات القديمة أو الوسطى أو الحديثة إلا وهي مشتقة من اللغة المصرية القديمة، حتى اللغة الدينية في القرآن والسنة أعادها إلى أصول فرعونية، وكان يوحي بشكل مباشر وغير مباشر إلى أن التراث الإسلامي بوجه خاص مشتق من الحضارة المصرية القديمة، وهو معروف عنه تتيمه بالحضارة الفرعونية وأنه أحد أكبر دراويشها، إذ يرفع الفراعنة إلى مراتب الملائكة وأنهم كانوا أبرارا أطهارا لا يخطئون، وأنهم أساتذة العالم الشرقي والغربي والأوسط، وفي ذات الوقت يلمز في التاريخ العربي والإسلامي ويصف الحضارة الإسلامية بأنها حضارة بدوية وحضارة رملية صحراوية. وللأسف الشديد انتهت المحاضرة وانتشى من انتشى وانتفخ من انتفخ، ولم تعط فرصة للعقول الناقدة أن تعمل أو تعبر أو تعدل، إذ أعلن منظمو الندوة أنه لا وقت للمناقشة أو التعليق (كعادة ندواتنا ومؤتمراتنا).
ومن المفارقات –كما ذكرنا– أن تلقى هذه المحاضرة عشية ذكرى هزيمة عسكرية موجعة حدثت في قمة انتفاخ الذات المصرية في عهد عبد الناصر، حيت استبدل التخطيط والإعداد الجيد للمعركة بعنتريات ثورية وشعارات جوفاء تهدد وتتوعد بإلقاء إسرائيل في البحر، وأن أمريكا إذا لم يعجبها ماء البحر الأبيض فلتشرب من البحر الأسود، وأن العالم كله يتآمر على "ناصر" حقدا وحسدا على زعامته وعلى قدرته على تغيير الأحداث في العالم!!!!!.
وقد يقول قائل: ألم تكن الحضارة المصرية القديمة حضارة مبهرة وعظيمة؟... ألا يأتي الناس من كل مكان ليشاهدوا الآثار الفرعونية ويدرسونها ويتعلمون منها؟. أليست الأهرامات معجزة هندسية بمقاييس كل العصور وأحد عجائب الدنيا السبع؟ ألم يبرع الفراعنة في الطب والتحنيط والهندسة والفلك والعمارة والفن؟
كل هذا صحيح ولا يحتاج لعناء كي نثبته لأنفسنا أو لغيرنا، ولكن الصحيح أيضا أننا لم نكن وحدنا صنّاع حضارات بل كان ثمة حضارات موازية ولاحقة لها أيضا قيمتها وعظمتها وبصمتها، وأن التاريخ الحضاري الإنساني لم ينفرد به شعب دون سائر الشعوب، وأن المصريوين لم يختصهم الله بما حرم منه بقية شعوب الأرض، والأكثر من ذلك أن حاضرنا بائس وأن لدينا مشاكل ومصائب ونكبات ونكسات وأمراض تحتاج لحكماء الأرض لحلها (إن استطاعوا)، وأن شعوب العالم سبقتنا في العلم والفن والنظام والنظافة والتطور وحتى الأخلاق، وأن لدينا كما هائلا من الإرهاب والفساد والاستبداد لم تنجح الثورات المتعاقبة في إزاحته، وأنه يتوجب علينا أن نشخص أمراضنا المزمنة والمتغلغلة حتى نبدأ العلاج.
أما ما يحدث على غرار أننا أفضل البشر، وما تعكسه عبارة "وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي"، وأن "مصر أم الدنيا"، وأننا "أصحاب حضارة سبعة آلاف سنة" وأننا "أساتذة العالم"، فكل هذا يدخل في نطاق عملية تخدير الوعي، ودغدغة المشاعر الوطنية، وإثارة النزعة العنصرية المتعالية، والنتيجة أن المصريين يشعرون أنهم الأقوى والأذكى والأنجح والأفضل، فلا داعي إذن للقلق على العمل والكفاح والإبداع مادام لدينا كل هذه العظمة القديمة والحديثة. وهذا وهم كبير يعرفه كل من يتواصل مع الشعوب الأخرى والحضارات والثقافات الأخرى قديما وحديثا، إذ تكاد شعوب العالم في غالبيتها تسبقنا في كل جوانب الحياة، وأننا لا ننهض بالكذب على أنفسنا وعلى غيرنا ولكن ننهض بشجاعة الرؤية الموضوعية لمزايانا وعيوبنا وإرادة الإصلاح والتغيير الحقيقي هنا والآن.
واقرأ أيضًا:
أنا السيسي/ مصر بعد الانقلاب: الأمن عاد، والخوف ساد!/ الدم الرخيص