ليست "بيت فوريك" البلدة الجميلة الواقعة شرق مدينة نابلس، ولا البلدات المجاورة، بأسماء جديدة على النضال الوطني الفلسطيني المعاصر؛ فالرئيس الشهيد ياسر عرفات اتخذ منها مركزاً لقيادته حين تسلّل إلى الضفة الغربية بعد احتلالها عام 1967، وفيها خاضت المقاومة الفلسطينية بقيادة (فتح) واحدة من أشرس معاركها ضد قوات الاحتلال بعد معركة الكرامة، فكانت معركة "الصوانة (22/04/1968)" في (بيت فوريك) بعد شهر على تلك المعركة الأسطورية (22/03/1968)، كما كانت معركتا "الدويجات" و"خلة طانة" عامي 1969، 1970، من أهم معارك المواجهة مع العدو، وقد قدمت (بيت فوريك) العشرات من أبنائها شهداءً في انتفاضة الحجارة 1987، وقبلها في أحداث أيلول/ الأردن (1970).
وفيما كان "العلم الفلسطيني" يرتفع فوق مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وفيما كان الرئيس الفلسطيني يُعلن تحلّل سلطته من كل الالتزامات والاتفاقات مع المحتل الإسرائيلي ما دام هو الآخر مُتحللاّ منها، كانت (بيت فوريك) تشهد عملية فدائية نوعية متقنة، كما وصفها أحد جنرالات العدو؛ حيث تم إعدام أحد كبار ضباط الاستخبارات العسكرية الصهيونية وزوجته المعروفة بنشاطها في إطار عصابة "تدفيع الثمن" التي وقفت وراء العديد من عمليات القتل والحرق والتدمير في الضفة الغربية بما فيها جريمة حرق عائلة دوابشة التي استُشهد فيها الطفل والأم والأب.
وفي أرقى ردٍ على جرائم الصهاينـة بحرق الأطفال وقتلهم من محمد الدرة إلى فارس عودة وصولاً إلى محمد أبو خضير وعلي سـعد الدوابشـة، لم يُطلق المقاومون البواسـل النار على أطفال العائلة الإسـرائيليين الموجودين مع أهلهم في السـيارة المسـتهدفـة، مؤكدين إن للثورة أخلاقها، وأن للمقاومين قيمهم الإنسـانيـة والتزامهم الديني، فلا يزرون "وازرة وزر أخرى".
ولقد أعطى المقاومون، بامتناعهم عن قتل الأطفال الإسـرائيليين، نموذجاً راقياً يُشـكل رداً حضارياً على ممارسـات عدو لا يُميز بين طفل وشـيخ، بين رجل وامرأة، في جرائمـه الممتدة على طول الجغرافيا الفلسـطينيـة والعربيـة، كما على امتداد تاريخ الصراع العربي ـــــ الصهيوني.
كما أعطى هؤلاء المقاومون درساً بليغاً للعدو الصهيوني وداعميه والمتخاذلين أمام عدوانيته ووحشيته، حين أكدوا له أن كل إجراءاته الأمنية، كما تنسيقه الأمني، لن تمنع شعب فلسطين من مواصلة نضاله الوطني وكفاحه التاريخي، سواء على شكل إنتفاضة، كما نرى كل يوم في باحات الأقصى وأبوابه مع المرابطين والمرابطات، وفي حواري القدس المنتفضة بشبابها، والموحدة بهم، والمتجاوزة لكل الحواجز الفصائلية والخلافات القيادية، أو على شكل مقاومة تُطل عبر عمليات نوعية في هذا الجزء من الضفة المحتلة أو ذاك بلغ عددها 12 منذ بداية هذا العام، أو عبر صمود أسطوري في قطاع غزة المحاصر منذ 8 سنوات ولكنه العصي على العدوان وعلى الاستسلام في آن، أو عبر معارك الامعاء الخاوية التي يخوضها أسرى الحرية يوماً بعد يوم في كل السجون والمعتقلات.
لقد راهنا منذ إنطلاقـة رصاصات "فتح" الأولى في 01/01/1965، وما نزال، على أن شـعب فلسـطين مسـتمر في مقاومتـه حتى التحرير واسـتعادة الحقوق المشـروعة وفي مقدمها حق العودة، وأنـه قادر على إبقاء رايـة الكفاح شـامخـة، وشُـعلـة المقاومـة متوهجـة رغم كل الصعاب والمُعوقات من انقسـام واحتراب وعدوان وحروب وإثارة العصبيات الطائفيـة والمذهبيـة والعِرقيـة ومحاولات إيجاد عدو بديل عن العدو الصهيوني، واهتمامات بديلـة عن همّ مقارعـة العدو واحتلالـه،.....
وحصار نابلس (جبل النار) اليوم، ومحاولة إقتحام أحيائها الداخلية، واستباحة المستوطنين المتوحشين لبلدات (بيت فوريك)، وحوارة، وبيت دجن، وبورين، وقرى الخليل ورام الله، وقطع الطرقات بين المدن الفلسطينية، لن يُغيّر في الصورة شيئاً، تماماً كما لم تُغير سنوات الحصار والتهويد والاقتحامات شيئاً في عزيمة المرابطين والمرابطات في أكناف الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وفي تصميم المدافعين عن عروبة القدس وكل مدن فلسطين....
إن فلسـطين تلتهب مقاومـة وانتفاضـة رغم كل المعوقات، وإن الشـعب الفلسـطيني يصنع وحدتـه في الميدان أيّاً كانت العلاقـة بين قادة التنظيمات، ويُدرك بحسـه التاريخي أن تصاعد المقاومـة واتسـاع الانتفاضـة كفيلان بدحر الاحتلال عن أرضـه؛ فعدونا، كما قال يوماً جمال عبد الناصر، لا يفهم إلا لغة القوة، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة. وهذا ما أكدت عليه تجربة المقاومة والصمود في جنوب لبنان، وما أكدت عليه تجربة المقاومة والانتفاضة في قطاع غزة.
يسألني كثيرون: ولكن أين الأمة العربية، أين المسلمون لا يتحركون، أين أصبحت مسيراتهم المليونية ومبادراتهم المضيئة.. ولهؤلاء أقول:
إن كل تحرك جماهيري ضخم، وكل مبادرة نوعية مميّزة، كانا يتمان في ظل تلاقي تيارات الأمة الرئيسية، القومي المنفتح والاسلامي المستنير واليساري العروبي، والليبرالي الوطني، وإن ما أصاب هذا التلاقي من خلل ووهن بسبب حسابات خاطئة، ومراهنات خائبة، وعصبيات متوترة، قد أفقد شارعنا أُطر التحرك وصيغ المبادرات، بل ربما كان ضرب التلاقي بين التيارات هو أحد دوافع المخططين لانزلاق ما يُسمى "بالربيع العربي" إلى ما وصلنا إليه في بعض الأقطار هو من تدمير لأواصر التلاقي، ووشائج التفاعل بين تيارات الأمة...
ثم إن كل ما يُصيب الأمة من بلاء هذه الأيام يكمن في أحد أسبابه الرئيسية رغبة البعض في منعها من القيام بواجباتها تجاه فلسطين!
ألم يدفع العراق ثمن التزامه التاريخي بفلسطين حتى جاءه الاحتلال الأمريكي بقرار صهيوني..!؟ ألا تدفع سوريا اليوم ثمن وقفتها التاريخية منذ نكبة 1948 دفاعاً عن فلسطين واحتضاناً لكل مقاومة بوجه العدو..!؟ ألا يدفع جيش مصر، جيش أكتوبر (الذي نستعيد ذكرى حربه المجيدة هذه الأيام) ثمن تصديه، مع شعبه، للمشروع الصهيوني..!؟ أليس ما تدفعه ليبيا عمر المختار هو ثمن مواقف شعبها الشجاعة ضد كل مشاريع الصهيونية والاستعمار..!؟ ثم أليس ما تدفعه اليمن وشعبها العظيم من دماء ودمار هو ثمن لوقفة هذا الشعب منذ قيام الكيان الصهيوني الغاصب إلى جانب فلسطين في كل الظروف، فيخرج قبل أيام عشرات الآلاف من أبنائه في صنعاء ومدنه الأخرى تضامناً مع الأقصى والقدس رغم قصف الطائرات وشراسة العدوان...!!؟؟
والجزائر، بلد المليون ونصف المليون شهيد، ألم تدفع غالياً وعلى مدى عشر سنوات ثمن التزامها الأصيل بقضية فلسطين وإيمان شعبها أن استقلال الجزائر لا يكتمل إلا باستقلال فلسطين..!؟ والبحرين وحركتها الوطنية ألا تدفع اليوم ثمن مواقف أبنائها الداعمة دائماً للقضية والمقاومة والتي أثبتت عروبتها يوم خرج البحرينيون منتفضين انتصاراً لجمال عبد الناصر ومصر في مواجهة العدوان الإسرائيلي ـــــ البريطاني ـــــ الفرنسي عام 1956..... وهو عدوان ما زال مسـتمراً على أمتنا وأصبح رباعياً بعد أن انضمت واشـنطن إليه وباتت قيادتـه....!!؟؟
طبعاً، لا يكفي أن نعزو كل ما يجري في بلادنا إلى سبب واحد هو الوجود الصهيوني الاستعماري، ففي بنانا السياسية وعلاقته الاجتماعية من الخلل والتشوهات والاستبداد ما مكّن، ويُمكّن، أعداءنا من النفاذ منها، وكل نكسة أو مأساة أو محنة عشناها اجتمعت فيه المؤامرة الخارجية مع الثغرات الداخلية.
إن مواكبة ما يجري في فلسطين لا ينحصر في المقالات والبيانات (رغم إننا بتنا نشكو من شح حتى في البيانات والمقالات) بل أيضا في برنامج يتلخص بعدة أمور:
1- قيام الجميع، لا سيما أبناء التيارات الرئيسية في الأمة، بمراجعة تجاربهم وتحليلاتهم وتقديراتهم وعودتهم إلى رحاب التلاقي الذي هو قوة للتحرير، وآلية للتغيير، ومرتكز حقيقي للديمقراطية التي هي نقيض الإقصاء.
2- قيام القيادات الفلسطينية بتجاوز حال الانقسام الراهنة ولها من الاتفاقات والنصوص والتوافقات ما يكفي لإطلاق مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني إذا أحسن الالتزام بها...
3- عقد قمة مصالحة عربية وإسلامية تُخرج الإقليم كله من حال التوتر الدموي والتأزم السياسي القائمة حالياً، وتُعيد تحصين الأمة من كل عدوان أو تدخل خارجي.
4- انطلاق مبادرات شعبية عربية ودولية من أجل إحكام العُزلة على الكيان الغاصب، وقد بدأ يتلمس مخاطر هذه العُزلة، ومن أجل إنفاذ العدالة لفلسطين، كل فلسطين.
واقرأ أيضاً:
أوروبا والهروب إلى الخارج