لقد عانت شعوب العالم عصورا طويلة باستسلامها للعبودية، وعرف التاريخ حركات التحرر وروى قصص كفاح عديدية، بدأها بقصة سبارتاكوس الذي قاد أكبر انتفاضة للعبيد قبل الميلاد في وجه الرومان، وكان تمرد موسى عليه السلام على فرعون مصر، ثورة انتهت مرحلتها الأولى بالخروج من مصر. وكان ميلاد المسيح عليه السلام بداية لثورة تحرر أخرى، حيث قامت دعوة المسيح على عبادة الله والتخلص من عبادة الإنسان التي هي أقصى درجات الرق. وكانت دعوة محمد علية الصلاة والسلام دعوة تحرر شاملة ضد العبودية التي ما لبس الاستعمار الغربي أن يعيدها للأذهان بتجارة الرقيق التي عاشتها الولايات المتحدة حتى الستينات من القرن الماضي، حيث كانت ثورة السود، وجميعنا يعرف قصة مارتن لوثر كينج.
والمدقق في الأمر يلاحظ أن العبودية كانت جزء أساسي من بناء الحضارة الغربية في أوروبا ثم الولايات المتحدة، ومع انطلاق الثورة الصناعية تحولت تلك العبودية من استعباد الفلاح حتى استعباد العامل، وفي الحالتان لم تتغير العلاقة، علاقة الاستغلال التي لم تختلف عن رق العصر القديم إلا في الشراء أو الأجر البخس مقابل عمل بالإكراه، عبودية من خلال استغلال حاجة الإنسان وإمداده بأقل أجر ممكن، أجر لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع العائد من الجهد المبذول.
إن علاقة ما تقدم بالديمقراطية علاقة وثيقة في كل هذه العصور من قبل الميلاد وحتى اليوم، فكانت الديمقراطية القديمة المعروفة عند الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وسبقتها الهند بقرن من الزمان، وعاشت هذه الديمقراطيات الصغيرة (ديمقراطية المحليات وليست مركزية) حتى قضت عليها الإمبراطوريات. وتساوى مفهوم تلك الديمقراطية بالديمقراطيات الحديثة والتي اتسمت وحتى الستينات في الأميريكتين بشكل يمكن أن يطلق عليه الديمقراطية الطبقية العنصرية، حيث خصت الديمقراطية طبقات من المجتمع دون غيرها وعنصر دون غيره، مثل ديمقراطية النبلاء دون الرعاة (عامة الشعب) وديمقراطية البيض دون السود.
وما زلنا نعيش هذه الديمقراطية القاصرة في كثير من أنحاء العالم، بل وامتدت لتشمل دول وشعوب، فأصبحت الديمقراطية وكأنها منحة تُمنح، كما قال العديد من المتسلطين على شعوبهم بأن شعبه غير مستعد للديمقراطية، ويجب هنا أن نلاحظ مقولة "شعبة" فالديكتاتور المتسلط يعتبر المواطنين ملك له، فهو يستعبدهم، حتى وإن توهموا أنهم أحرار، واستعباد العصر الحديث لم يعد شراء الإنسان بالشكل المباشر بل استخدمت وسائل عديدة للوصول بالشعوب لحالة العبودية الكاملة.
منها التأثير على الإحساس الداخلي للإنسان بتسليط أجهزة الإعلام على عقله الباطن وهو ما يعرف بـ "غسيل المخ"، وهذا الأسلوب قادر على فرض السيطرة على ثلث المجتمع، وهو القطاع الأبسط والأضعف. ويأتي من بعد ذلك أنصاف المثقفين الذين يمثلون الثلث الثاني من الشعب، ويمكن السيطرة عليهم عن طريق ما عرف بـ "النخب المثقفة"، حيث تستولي تلك النخب على عقول التابعين فتوجههم في الطريق الذي يرسمه النظام، بينما يتصور المتلقي أنه حر وأنه مستنير وعاقل لذا فهو يسلك ذلك الطريق مثله مثل تلك النخب، وهم ليسوا إلا أصحاب منفعة مباشرة أو غير مباشرة.
والقسم الثالث الذي لم يستسلم للإعلام المفسد ولا للنخب المضُللة، فامتلاكه يتم عن طريق زرع الخوف في قلوبهم، ويتم ذلك بالإرهاب المباشر الذي تمارسه الأنظمة القمعية، فيقمع الثلث الرافض ويرضى الباقين عن ذلك، بل منهم من يؤيد ذلك القمع، قناعة منهم لما قدمه لهم الإعلام والنخب.
إن تقسيم الشعب لثلاثة أجزاء مثيل لذلك المنطق الذي بنت علية دولة محاكم التفتيش، حيث أمر البابا بقتل الثلث وتحويل الثلث وطرد الثلث، وهي مماثلة لقصة الثيران الثلاث في كتاب "كليلة ودمنه" وهي تقرب من المبدئ الاستعماري المعروف "فرق تسد"، وجميعها تعتمد على التفرقة لتسهيل عملية السيطرة.
لقد مر ذلك كله بمخيلتي وأنا أتابع الانتخابات العامة بكل من كندا وتركيا وجمهورية الموز، التي عرفت باسم مصر سابقا. ففي كندا على سبيل المثال، هناك ما يعرف "بالانتخابات" وقد حكم المحافظون قرابة العشر سنوات وكادوا أن ينطلقوا لأربع سنوات أخر وخرج الناخبون للإلاء بأصواتهم عقب صراع شديد ليُنَصبوا الحزب الثالث "الأحرار"، للحكم وينقلوا الحزب الحاكم "المحافظين" للمعارضة، وتمت العملية الانتخابية عبر معركة على أصوات الناخبين، معركة بالمفهوم الديمقراطي، مع نسبة مشاركة 68.5% وهو أقل من المعدل المتوسط لأغلب الدول الغربية، ولكنه المعدل المعتاد في كندا.
وعلى التوازي كانت الانتخابات التركية، والتي أجريت للمرة الثانية خلال خمسة أشهر، حيث أن الانتخابات الأولى لم تسفر عن حزب أغلبية يتمكن من تشكيل الحكومة منفردا، ولم يستطع أي منهم أن يقنع الآخرين بالدخول في تحالف، وفي الانتخابات الثانية حصل الحزب الحاكم على الثقة للمرة الرابعة على التوالي عقب صراع شديد، وتمت الانتخابات هي الأخرى عبر معركة بالمفهوم الديمقراطي، بنسبة مشاركة 85.2% وهي نسبه تعد في الإطار المعتاد للانتخابات التركية.
الفارق بين الانتخابات الكندية والتركية ينحصر في أن كندا منذ نشأتها في 1867 وهي تحكم بالنظام البرلماني الذي يتم اختياره بالانتخاب الحر المباشر، أما تركيا فالنظام الانتخابي الحر الذي مورس منذ 1923 تعرض لهزات متعددة بتدخل الجيش في السياسة بالانقلابات المتعددة، 5 انقلابات كان آخرها انقلاب 1997، بالإضافة لثلاث محاولات فاشلة أخرى. وذلك هو ما حفز الشعب التركي على حماية الديمقراطية، وهو من الأسباب الرئيسية في ارتفاع نسبة المشاركة، رغبة منهم وحرصا على الحفاظ على الحق في انتخاب ممثليهم واستمرار سيطرة الشعب على مقدراته.
وتأتي بعد ذلك انتخابات جمهورية الموز (مصر سابقا)، فالانتخابات في مصر لم تتم بالشكل الديمقراطي المتعارف عليه إلا في الفترة ما بين فبراير 2011 ويوليو 2013، وعاش الشعب المصري حلم أو وهم الاستحقاقات الخمس (استفتاء خارطة الطريق، انتخاب مجلس الشعب، انتخاب مجلس الشورى، انتخاب الرئيس، استفتاء الدستور)، فكانت هذه هي المرة الوحيدة التي تشهد فيها مصر انتخابات حقيقية، والوهم كان في موقف الجيش الذي انتهى بالانقلاب، انقلاب ثبت أنه تم مع سبق الإصرار والترصد ولمصالح أطراف متعددة ليس منها الشعب المصري.
وتلى الانقلاب على الديمقراطية، تزييف آخر لإرادة الشعب، حيث أعيد كتابة الدستور ليوافق مخطط الانقلاب، ونَصبت الدولة العميقة السيسي رئيسا ليقود مزاد بيع مصر في سوق النخاسة، وقد تم ذلك في ظل صراع إعلامي حاول من خلاله ممولي الانقلاب إثبات أنهم هم المسيطرون على الأمور وليس الجيش، وهذا حقا، ثم نعيش تلك الأيام مأساة كبرى تسمى "انتخاب البرلمان" والتي تتم على عدة مراحل ابتدعها النظام سابقا (أحمد عز) للسيطرة على النتائج، وكانت نسبة حضور المرحلة الأولى وبأعلى تقدير 10%. ولم أتطرق هنا لأن المرشحين جميعهم من مؤيدي الانقلاب، وأن هناك قطاع كبير من الشعب قد غُيب بالقتل والسجن فكان الإحجام عن المشاركة لسقوط قيمة صندوق الانتخاب بالانقلاب، والمقاطعة التي فرضت نفسها.
لقد نجحت الانتخابات في كندا وتركيا لاحترام قيمة الديمقراطية والاحتكام المطلق لصندوق الانتخاب النزيه، بلا استبعاد ولا تدخل من أي من أجهزة الدولة، وُفشلت في جمهورية الموز لأن الشعب رضي بالاستعباد والاستسلام لأحد أدوات القهر.
إن الإنسان الذي يرضى بأن يُستعبد بلا مقابل، فهو لا يجد قوت يومه ولا يملك قرار غده، لا يستحق أن يوصف بأنه إنسان، فالعبد الذي بيع في سوق النخاسة كان أكرم منه، لأنه صُنف كعبد ولم يتوهم يوما أنه حر وصارع العبودية حتى تحرر. إن أول خطوات التحرر من العبودية هو الاعتراف بالخلل والإقرار بأن الآدمية والمواطنة والمساواة هم أسس لا جدال حولهم، وهو ما كافح من أجله أجيال حتى تحقق لهم الحلم وملكوا زمام أمورهم وكونوا الديمقراطيات الحديثة.
ولكون الحرية طريق لامتلاك زمام الأمور، ورد الحق لأصحابه، مما يخل بمصالح المستغلين والمتسلطين، فإن الديمقراطية لا تُمنح ولكنها تُنتزع، لأنها حق والحقوق لا يُفرط فيها، فلا يستحقها إلا الأحرار أمثال الشعب التركي والشعب الكندي، ومناضلي الشعب المصري.
واقرأ أيضاً:
نداء أخير إلى كل شرفاء مصر / مبروك لمصر، ولكن المعركة طويلة / مغالطات وأكاذيب تشاع عن الدستور / مرسي والمعارضة