مما لا شك فيه أن تتفاوت التأثيرات والانفعالات بشتى درجات الشدة، وهي عادية للغاية وتتناسب بصورة معقولة مع استجابة الموضوع والحالة الداخلية للذات، كما عبر أستاذ الأجيال البروفيسور مصطفى زيور عن ذلك، ولو نقلنا تلك الفكرة على موضوع الندم، حيث نجد أننا بإزاء منظومة كاملة من التكوين النفسي الذي يمتد جذوره للمنظومة بأكملها وهي قوة الأنا وحفزات الهوى وترنح الأنا الأعلى، فيحدث الفعل وانعكاساته وشدته على بقايا الضمير الذي سقط بقوة الفعل الذي خلق الندم!!
إنه المبدأ القائم على اللذة وقوتها، والآلم الناجم عنها بشدته.
إن الدوافع التي تغدو، بل تُحفز هذا الفعل ليكون بعد ذلك فعلا قويا يقود إلى الندم، هو أن بعض الناس التناسليون في الأخص مفعمون حقًا حنانًا وحبًا، وهذا يتطلب أن يمضي الفعل أبعد من المسموح به في المجتمعات المحافظة، فيكون كسر القيد بحفزات بها من اللذة، أكثر من استدعاء الألم، سواء كان في الفعل الجنسي، أو قبول السرقة وفعلها، أو التحايل على القانون، أو الحصول على مكاسب غير شرعية، أو الخيانة الزوجية، أو كل ما يتقارب من فكرة استبعاد الضمير الحي، النشط، أو سلطة الأنا الأعلى بكل ما احتوت من مكونات أخرى، التربية الأسرية، التنشئة الاجتماعية، قوة الضبط الديني، قوة الضمير، قوة القيم السائدة في مجتمع محافظ....الخ.
أن سيكولوجية الندم ترتبط أساسا بمجموعة معقدة من الموضوعات النفسية الداخلية، فضلا عن وجود ميكانزمات خاصة بها، أولها الإسقاط، لذا تعد العلاقة بالموضوع، أيًا كان هذا الموضوع، السرقة، الخيانة الزوجية، الفعل الذي لا يتناسب مع قيم المجتمع، أو المحاولة لفعل يؤدي إلى الندم هو في الأساس نكوص عند مستوى قبل تناسلي يقوم على اعتماد وثيق من الأنا على الموضوع، ممزوج بعنف التأثيرات والانفعالات وخلوها من الاعتدال، فهو حب آسر ومدمر لموضوعات تتعلق بالضمير، أو بالأحرى بكل منظومة الأنا الأعلى، وممارسته، هو ارتشاح إسقاط يصاغ على صورة الذات، ويشوه الواقع، مع استبقاء قدر من إدراك الواقع مقابل ثمن هو الندم، الذي يستطيع الشخص به أن يلجأ إلى ميكانزم دفاعي يستعين لتخفيف شدة الألم من الندم، بالإسقاط اللاشعوري وحينها يحقق بعدًا كافيًا بين الذات والموضوع الذي فعله، للإبقاء على التوازن الزائف.
إن الندم هو نتيجة لفعل أخذ تكوينه الفرضي في دماغ الفاعل، قبل أن يتحول إلى سلوك في الواقع، ويأخذ في منحاه بالنتيجة النهائية الندم.. وهو في كل الأحوال طاقة غريزية استطاعت أن توجه الذات "الأنا" في عدة مواقف سواء كانت سلبية أم إيجابية، فإذا كانت سلبية يكون محتواها ذات طاقة محملة باللبيدو.
إن الندم ينطلق في بداية البلوغ وليس قبله، لأنه ذو أبعاد رمزية مثل الشرف، والعفة، والأمانة، والإخلاص..الخ، ولكنه يتكون في السنوات الأولى من حياة الفرد عبر عملية تعلم سلوكي من الأب أو الأم، ويرجح في إدراكه إلى اختلال التوازن بين الدوافع الغريزية والإشباعات التي تحظى بها، مهما كان نوعها في حياة الفرد، فالجائع إلى المال يلجأ إلى إشباع ذاته من خلال السرقة، والجائع إلى المنصب يلجأ إلى التحايل وشراء الذمم من أجل الوصول إلى الكرسي، والجائع إلى الجنس يلجأ إلى عدة أساليب منها الخيانة، أو الإقناع في الحصول عليه، أو حتى إلى الاغتصاب إن استدعى الأمر لذلك.
يرى الدكتور عبد السلام عبد الغفار في حديثه أن السلوك بمختلف أنواعه لا يقتصر فقط على الأمراض النفسية والأمراض العصبية، وإنما يتضمن أنواعا أخرى من الانحرافات مثل الإدمان على المشروبات والمخدرات، والسلوك غير الخلقي، فالسلوك غير الخلقي يقود بالنتيجة إلى الندم، وهو صحيح تماما إذا ما رأينا أنه يكمن خلفه دافع، يقوده لتحقيق هذه الحاجة ومنها الحاجات التي توفر القناعة بالنفس وهي الحاجات الشخصية ذات الانعكاس الاجتماعي ومنها الحاجة إلى التراحم، والحاجة إلى العطاء، والحاجة إلى المساندة، والحاجة إلى العدل، والحاجة إلى التودد، والحاجة إلى الإخلاص، والحاجة إلى التعاطف، هذه كلها لا تؤدي إلى الندم، أو حتى الشعور بالإثم، أو الشعور بالدونية، أو ترك أثر سلبي في النفس، بل تعيد التوازن وتترك الآثار الإيجابية بالذات، على العكس تماما من تلك المشاعر غير المقبولة في المجتمع، فضلا عن الرفض والشعور بالنبذ من داخل النفس مما يقود إلى الندم، ومنها العديد من تلك المشاعر مثلا : الغيبة، النميمة، النفاق، الخيانة، الاغتصاب، الغيرة ، الحسد.. وغيرها من تلك المشاعر الفردية الذاتية، وارتباطها بالندم بعد وقوع المحظور وظهور الوقائع.
إن الندم هي لغة اللاشعور لدى الإنسان والتي يمكن أن تعد الطريقة التي يتوسل بها النشاط العقلي اللاشعوري للتعبير عن نفسه، ولكن اللاشعور يتحدث بأكثر من لهجة، وطريقة وأسلوب، فهو تارة بالإسقاط، وتارة أخرى بالتبرير، وهكذا لحين أن تتوفر قناعات يقبلها العقل ويفسر الدفعات تلك على وفق الشروط السيكولوجية المختلفة التي تحكم وتميز الأشكال المختلفة من الندم، وعلى ضوء شخصية صاحبها، فالسيكوباثي لا يشعر بالندم إطلاقا، وصاحب الشخصية المكتئبة لديه ميل عال لتأنيب الضمير، والشعور بالإثم، ولو عرفنا الاكتئاب تعريفا علميا لوجدنا أنه حالة من الألم النفسي يصل في عمق النفس إلى ضرب من جحيم من العذاب مصحوبًا بالإحساس بالذنب شعوري، وإنخفاض ملحوظ في تقدير النفس لذاتها، كما عرفه مصطفى زيور.
يعد الضمير عاملا مهما في الاتزان النفسي وبناء الشخصية المتزنة، وبه يتم ضبط الدوافع وإشباع الحاجات التي لا تتعارض مع قيم المجتمع، ومنه يتم بناء الشخصية وتكوين الذات المعتدلة التي لا تسقط في العقاب أو النبذ. يقول د. إبراهيم أبو زيد يتحول ضمير الفرد إلى نوع من التوجيه الذاتي الشامل لسلوكه مع نمو صورة الذات للراشد، كنوع من الإلزام بقيم الفرد من أجل الحفاظ على هذه الصورة في شكل مقبول.. وخلاصة القول أن الشخص الذي يتمتع بصحة نفسية لا يمر بمواقف تشعره بالندم، أو ارتكاب أفعال تمس ذاته بقسوة، بينما الشخص غير المتزن انفعاليًا هو الذي يمارس الفعل الذي يؤدي به إلى الندم، وهو الشخص المتردد القلق صاحب الميول غير الطبيعية، المرتاب والمتقلب انفعاليًا.
واقرأ أيضًا:
البناء النفسي في الإنسان، المعني والمبني / أفكاري .. مزقتني؟ / النفس.. دوامة الحياة غير المنتهية / الندم.. مدخل سيكولوجي لمحنة الذات